بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة سبأ
الدَّرس: الرَّابع
*** *** ***
– القارئ : لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:15-19]
– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله، يخبرُ تعالى في هذه الآياتِ عن قبيلةٍ عظيمةٍ في اليمنِ وهي سبأُ {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ} وذكرُ خبرِ سبأٍ، هم القومُ الَّذين كانتْ تملكُهم المرأةُ وأخبرَ بخبرِهم الهدهدُ، أخبرَ سليمانُ كما في سورةِ النملِ، إذاً بينَ قصَّة سليمان وقصَّةِ سبأٍ في تناسب لأنَّ ملكةَ سبأٍ جاءتْ إلى سليمان كما في سورةِ النمل، ودارَ ما دارَ بينهما وانتهى أمرُها إلى أنَّها أسلمتْ، {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهنا يخبرُ ما أنعمَ اللهُ به عليهم من نِعَمِ البلدِ الطيِّبِ، المسكن الطيِّب، طيِّبُ الهواءِ وطيِّبُ كذلك الثمارِ.
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} {آيَةٌ جَنَّتَانِ} الجنَّتان جنَّتان عظيمتانِ فيهما أنواعُ الأشجارِ والثمارِ، فهما آيةٌ ونعمةٌ، نعمةٌ عظيمةٌ، وآيةٌ دالَّةٌ على قدرةِ اللهِ وحكمته ورحمته.
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} وفي هذا امتنانٌ وإباحةٌ لهم، {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} هذا هو الواجبُ، كما تقدَّمَ في شأنِ سليمانَ {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} فكثيراً ما يأمرُ اللهُ العبادَ بالشكر على نعمه، هذا هو الواجبُ على من أنعمَ اللهُ عليه بأيِّ نعمةٍ عليه أن يشكرَها، بأن يقرَّ للهِ بالفضل والإحسان وأنْ يثنيَ على اللهِ بما هو أهلُه وأنْ يقومَ بطاعة اللهِ.
{كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} قالَ: طيِّبةٌ، طيِّبةُ الهواءِ وطيِّبةُ التربةِ {وَرَبٌّ غَفُورٌ} الله أكبر، نعمتانِ: نعمةٌ دنيويَّةٌ، ونعمةٌ دينيَّةٌ وهي مغفرةُ اللهِ {وَرَبٌّ غَفُورٌ} الله أكبر، هذا هو أهلُ التقوى وأهلُ المغفرةِ {وَرَبٌّ غَفُورٌ}
لكن ما الَّذي حصلَ من سبأٍ؟ قالَ اللهُ: {فَأَعْرَضُوا} أعرضوا، أعرضوا عن شكرِ نعمِ الله {وَرَبٌّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} أرسلَ اللهُ عليهم سيلَ العرمِ، يذكرُ المفسِّرون أشياءً هنا وأنَّه كان عندهم سدٌّ فسلَّطَ اللهُ على السدِّ فنُقِبَ فانطلقَ السيلُ فدمَّرَ ما حولهم من الأشجارِ والثمارِ، وأغرقَ ما حولَه.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ} بدَّلَ اللهُ الجنَّتين العامرتينِ المثمرتينِ المشتملتينِ على الثِّمارِ العظيمةِ والمآكلِ {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} يعني جنَّتين بدَّل جنَّتين، يا تُرَى تعويض؟ يعني عوَّضَهم اللهُ عن الجنَّتين الأوَّليين بجنَّتين؟ لكن ما حالُهما؟
يقولُ اللهُ: {ذَوَاتَيْ} {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} فيها أُكلٌ، عجيبٌ، لكن ما هي أشجارُه؟ {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ} خَمْطٍ وَأَثْلٍ وسدرٍ، خَمْطٍ وَأَثْلٍ و.. اقرأ الآية، وسدرٍ؟ أيش؟ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وسدرٍ أيش؟
– طالب: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}
– الشيخ : {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ} {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ} شوف السدرُ قليلٌ، {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ} قالَ المفسِّرونَ: إنَّ قوله تعالى: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} هذا من نوعِ التهكُّمِ بهم، مثل ما تقول: واللهِ أشجار هذه لها فيها… أشجارٌ ذاتُ أكلٍ، ذات ثمارٍ وهي مفيدةٌ، لكن ما هي؟ أثل، الأثلُ لها ثمرٌ؟ ثمرٌ لا يُؤكَلُ ولا يُنتفَعُ به، إلَّا في أشياءٍ تناسبه، فقالوا: إنَّ هذا نوعُ تهكُّمٍ {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} أخريين، {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} أشجارها: {خَمْطٍ} شجرٌ رديٌّ ما فيه، ما فيه نفعٌ، {وَأَثْلٍ} كذلك، خشب، الأثلُ يُستعمَلُ خشب للبناء، {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ} السدرُ فيه شيءٌ […..]، فيه […..] لكن مع ذلك قليلٌ، يعني لو كان كثيراً كان يمكن يصير فيه فائدة تناسبه، لكن: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}
قال اللهُ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} كفروا بإعراضِهم، فأعرضوا عن طاعة اللهِ وعن شكرِ الله كذا، {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} نجازي يعني بالعقاب وإهلاك وإتلاف الممتلكات، {هَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} كفورٌ بالله وكفورٌ بنعم الله، المعرضُ عن ذكرِ الله، {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} نعم أيش بعدها
– القارئ : {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ}
– الشيخ : {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى} القرى الَّتي باركْنا فيها هي بلادُ الشامِ، هي بلادُ الشامِ، جعل اللهُ بينهم.. هم في اليمنِ والأرضُ المباركةُ هي الشامُ، {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} يذكرُ المفسِّرون أنَّه كان هناك قرىً بينهم وبين الشامِ كلُّها عامرةٌ، ما ينقطعُ عنهم يعني تنقطعُ عنهم القرى فيجدون ما يحتاجون إليه.
{قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} هذه عواقبُ الكفرِ بنعم الله، {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديِّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} الآياتَ:
سبأُ قبيلةٌ معروفةٌ في أداني اليمنِ
– الشيخ : أدنى… يعني أداني جمع أدنى كأنَّ الشيخ… قبيلةٌ معروفةٌ عظيمةٌ في أدنى اليمنِ، في أداني اليمنِ
– القارئ : ومسكنُهم بلدةٌ يُقالُ لها: "مأربٌ"
– الشيخ : مأربُ مشهورةٌ، مأربُ المعروفةُ مشهورةٌ إلى اليومِ
– القارئ : ومِن نِعمِ اللهِ ولطفِهِ بالنَّاسِ عموماً، وبالعربِ خصوصاً، أنَّهُ قصَّ في القرآنِ أخبارَ المهلَكينَ والمعاقَبِينَ، ممَّن كانَ يجاورُ العربَ، ويشاهدُ آثارَهُ، ويتناقلُ النَّاسُ أخبارَهُ
– الشيخ : مثل قوم لوط وقوم صالح ثمود، يعني بلدانهم معروفةٌ للعربِ {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ} [الصافات:137-138].
– القارئ : ليكونَ ذلكَ أدعى إلى التَّصديقِ، وأقربَ للموعظةِ فقالَ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} أي: محلِّهم الَّذي يسكنونَ فيهِ {آيَةٌ} والآيةُ هنا: ما أدرَّ اللهُ عليهم مِن النِّعمِ، وصرفَ عنهم مِن النِّقمِ، الَّذي يقتضي ذلكَ منهم، أنْ يعبدُوا اللهَ ويشكرُوهُ. ثمَّ فسَّرَ الآيةَ بقولِهِ {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} وكانَ لهم وادٍ عظيمٌ، تأتيهِ سيولٌ كثيرةٌ، وكانُوا بنَوا سدَّاً محكماً، يكونُ مجمعاً للماءِ، فكانَتِ السُّيولُ تأتيهِ، فيجتمعُ هناكَ ماءٌ عظيمٌ، فيفرِّقونَهُ على بساتينِهم، الَّتي عن يمينِ ذلكَ الوادي وشمالِهِ
– الشيخ : هذا من الأمورِ الَّتي اصطنعَها الناسُ واتَّخذوها السدود، لأنَّ السيولَ إذا تُرِكَتْ تتبخَّرُ وتتشرَّبُها الأرضُ… لكن إذا اتَّخذوا السدودَ اجتمعَ بها الماءُ وتصرَّفَ بها الناسُ، وقد كثرَ ذلك الآن في العالم، اتِّخاذُ السدودِ الكبيرةِ؛ ليتوفَّرَ الماءُ ويتصرَّفون فيه، فيوجِّهونه كيف يشاؤوا، فهؤلاء اتَّخذوا هذا السَّدَّ، وعُرِفَ في التاريخ سدُّ مأربٍ، سدُّ مأربٍ.
– القارئ : وتُغِلُّ لهم تلكَ الجنَّتانِ العظيمتانِ، مِن الثِّمارِ ما يكفيهم، ويحصلُ لهم بهِ الغبطةُ والسُّرورُ، فأمرَهم اللهُ بشكرِ نِعمِهِ الَّتي أدرَّها عليهم مِن وجوهٍ كثيرةٍ، منها: هاتانِ الجنَّتانِ اللَّتانِ غالبُ أقواتِهم منهما.
ومنها: أنَّ اللهَ جعلَ بلدَهم، بلدةً طيِّبةً، لحسنِ هوائِها، وقلَّةِ وخمِها، وحصولُ الرِّزقِ الرَّغدِ فيها
– الشيخ : الوخمُ فسادُ الهواءِ، كما جاءَ في حديثِ أبي هريرةَ أنَّهم لما قدمُوا المدينةَ استوخمُوها، يعني: ما لاءَمَهم هواؤُها
– القارئ : ومنها: أنَّ اللهَ تعالى وعدَهم -إنْ شكرُوهُ- أنْ يغفرَ لهم وَيرحمَهم، ولهذا قالَ: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}
ومنها: أنَّ اللهَ لمَّا علمَ احتياجَهم في تجاراتِهم ومكاسبِهم إلى الأرضِ المباركةِ، -الظَّاهرُ أنَّها: قرى صنعاءَ كما قالَهُ غيرُ واحدٍ مِن السَّلفِ
– الشيخ : يعني أنَّها ليستْ بلادَ الشَّامِ
– القارئ : وقيلَ: إنَّها الشَّامُ- هيَّأَ لهم مِن الأسبابِ ما بهِ يتيسَّرُ وصولُهم إليها، بغايةِ السُّهولةِ، مِن الأمنِ، وعدمِ الخوفِ، وتواصلِ القرى بينَهم وبينَها، بحيثُ
– الشيخ : فإذا تواصلَت البلدانُ والقرى صارَ المسافرُ في راحةِ طمأنينة أمن، وتتيسَّرُ له حاجته باستمرارٍ بخلاف المسافات البعيدة الَّتي تنقطعُ فيها المساكنُ والسكَّانُ، فهذا فيه خطرٌ ويفتقدُ المسافرُ كثيراً من متطلباته ومتطلَّبات سفره، {قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ}
– القارئ : بحيثُ لا يكونُ عليهم مشقَّةٌ، بحملِ الزَّادِ والمزادِ.
ولهذا قالَ: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} أي: [سيراً] مقدَّراً يعرفونَهُ، ويحكمونَ عليهِ، بحيثُ لا يتيهونَ عنهُ {لَيَالِيَ وَأَيَّامًا}
{آمِنِينَ}
– الشيخ : يعرفونَ يعني بكم يقطعون هذا الطريقَ، بكم ليلةً؟ بكم يوماً؟ هذا يريحُ المسافرَ يعرف، يعرفُ الزمنَ الَّذي سيقطعُ به مسافةَ سفرِه {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} سبحان الله العظيم، يعني هذا من جملةِ نعمِ اللهِ عليهم أيضاً.
– القارئ : {آمِنِينَ} أي: مطمئنِّينَ في السَّيرِ، في تلكَ الليالي والأيَّامِ، غيرَ خائفينَ. وهذا مِن تمامِ نعمةِ اللهِ عليهم، أنْ أمنَهم مِن الخوفِ.
فأعرضُوا عن المنعمِ، وعن عبادتِهِ، وبطرُوا النِّعمةَ، وملُّوها، حتَّى إنَّهم طلبُوا وتمنَّوا، أنْ تتباعدَ أسفارُهم بينَ تلكَ القرى، الَّتي كانَ السَّيرُ فيها
– الشيخ : ملُّوا النعمةَ، تقول يعني كيف؟ ما كأنَّنا مسافرين، يعني تمنَّوا أن تكون البلدان تتباعدُ حتَّى يتحقَّقَ لهم طبيعة السفر، نسألُ الله العافية، فقالوا: {بَاعِدْ} الآيةُ صريحةٌ {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}
– القارئ : بينَ تلكَ القرى، الَّتي كانَ السَّيرُ فيها متيسِّراً.
{وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بكفرِهم باللهِ وبنعمتِهِ، فعاقبَهم اللهُ تعالى بهذهِ النِّعمةَ، الَّتي أطغَتْهم، فأبادَها عليهم، فأرسلَ عليها سيلَ العرمِ.
أي: السَّيلُ المتوعِّرُ، الَّذي خرَّبَ سدَّهم، وأتلفَ جنَّاتِهم، وخرَّب بساتينَهم، فتبدَّلَتْ تلكَ الجنَّاتُ ذاتُ الحدائقِ المعجبةِ، والأشجارِ المثمرةِ، وصارَ بدلَها أشجارٌ لا نفعَ فيها، ولهذا قالَ: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} أي: شيءٌ قليلٌ مِن الأكلِ الَّذي لا يقعُ منهم موقعاً {خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} وهذا كلُّهُ شجرٌ معروفٌ، وهذا مِن جنسِ عملِهم.
فكما بدَّلُوا الشُّكرَ الحسنَ، بالكفرِ القبيحِ، بدَّلُوا تلكَ النِّعمةَ بما ذُكِرَ، ولهذا قالَ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ} أي: وهل نجازي جزاءَ العقوبةِ -بدليلِ السِّياقِ- إلَّا مَن كفرَ باللهِ وبطرَ النِّعمةَ؟
فلمَّا أصابَهم ما أصابَهم، تفرَّقُوا وتمزَّقُوا، بعدَما كانُوا مجتمعينَ، وجعلَهم اللهُ أحاديثَ يتحدَّثُ بهم، وأسماراً للنَّاسِ، وكانَ يُضرَبُ بهم المثلُ فيُقالُ: "تفرَّقُوا أيدي
– الشيخ : أيدي سبأٍ
– القارئ : أيدي سبأٍ
– الشيخ : أيدي ولّا أيادي؟
– القارئ : لا؛ "أيدي" عندي
– الشيخ : طيِّب
– القارئ : فكلُّ أحدٍ يتحدَّثُ بما جرى لهم، ولكنْ
– الشيخ : أقولُ: هذه سنَّةُ الله في المـُهلَكين أن يكونوا موضعَ أحاديثٍ، وهذه سُنَّةٌ جاريةٌ، الله أكبر، يعني ذهبوا كأن لم يكونوا، كأن لم يغنوا فيها، لكن صاروا أحاديثَ للناس يتحدَّثون بأخبارهم وما جرى لهم وما جرى عليهم، هذا كلُّه واقعٌ في كلِّ الأمم الهالكةِ، كلُّ الدولِ الزائلةِ أيضاً تكون أحاديثَ.
– القارئ : ولكنْ لا ينتفعُ بالعبرةِ فيهم إلَّا مَن قالَ اللهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} صبَّارٌ على المكارهِ والشَّدائدِ، يتحمَّلُها لوجهِ اللهِ، ولا يتسخطُها بل يصبرُ عليها. شكورٌ لنعمةِ اللهِ تعالى يُقِرُّ بها، ويعترفُ، ويثني على مَن أولاها، ويصرفُها في طاعتِهِ. فهذا إذا سمعَ بقصَّتِهم، وما جرى منهم وعليهم، عرفَ بذلكَ أنَّ تلكَ العقوبةَ، جزاءٌ لكفرِهم نعمةَ اللهِ، وأنَّ مَن فعلَ مثلَهم، فُعِلَ بهِ كما فُعِلَ بهم، وأنَّ شكرَ اللهِ تعالى، حافظٌ للنِّعمةِ، دافعٌ للنِّقمةِ، وأنَّ
– الشيخ : {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]
– القارئ : وأنَّ رسلَ اللهِ، صادقونَ فيما أخبرُوا بهِ، وأنَّ الجزاءَ حقٌّ، كما رأى أنموذجَهُ في دارِ الدُّنيا. ثمَّ ذكرَ..
– الشيخ : إلى هنا بس [فقط]، اللهُ المستعانُ، لا إله إلَّا الله.