الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة فاطر/(3) من قوله تعالى {والله الذي أرسل الرياح} الآية 9 إلى قوله تعالى {والله خلقكم من تراب} الآية 11
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(3) من قوله تعالى {والله الذي أرسل الرياح} الآية 9 إلى قوله تعالى {والله خلقكم من تراب} الآية 11

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة فاطر

الدَّرس: الثَّالث

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِنَ الشيطانِ الرجيمِ:

وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:9-11]

– الشيخ : إلى هنا، سبحان الله! لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.

يُذَكِّرُ اللهُ عبادَه ببعض آياتِه ونعمِه، فمِن آياتِه: إرسالُ الرياحِ، وإثارةُ السحابِ، وسَوْقُ السَّحابِ إلى بلدٍ مَيِّتٍ، وإنزالُ الـماءِ، كلُّ هذه آياتٌ دالَّةٌ على قدرتِه وحكمتِه ورحمتِه.

{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} اللهُ هو الذي يُرسلِها بأمرٍ، كمَا قال اللهُ في ريحِ عادٍ {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] فالرياحُ مُرسلَةٌ {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا}

والرياحُ أنواعٌ: منها ما يُثيرُ السحابَ، يُثير السحابَ بين السماء والأرض، فإذا هَبَّتِ الرياحُ -سبحان الله- يتغيرُ الجو ويَتَكَدَّرُ ثمَّ يَتَكَثَّفُ ثم يَتكوَّنُ منه السحابُ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} [النور:43] بعضُه فوقَ بعضٍ.

{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} يَسُوقُهُ اللهُ أيضاً بالريحِ، ريحٌ أخرى تسوقُ السحابَ، سحابٌ، رياحٌ تُثيره ورياحٌ تُلْقِحُهُ {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] ورياحٌ تسوقُهُ {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} مُجْدِبٌ لا نباتَ فيهِ.

{فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ} أحياها بعدَ الموتِ، أحياها {كَذَلِكَ النُّشُورُ} وهذا يذكرُه اللهُ كثيراً كما قلنا: للتذكيرِ بنعمِه وآياتِه، وللدلالةِ على البعثِ، ولهذا قال هنا: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} {كَذَلِكَ النُّشُورُ} مِن القبورِ هكذا يُحيي اللهُ الموتى فَتَتَشَقَّقُ عنهم الأرضُ، كما تَتَشَقَّقُ الأرضُ عَن النباتِ، هذا يذكره الله كثيراً.

{فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} [الأعراف:57] {كَذَلِكَ} يعني: مثل إخراجِ النباتِ من الأرضِ يُخرِجُ اللهُ الموتى مِن الأرضِ ينبتُون {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ} [ق:43-44] الله أكبر! تَتَشَقَّقُ هذه الأرضُ فيخرجونَ منها، البشريةُ مِن أولِ نَسَمَةٍ إلى آخرِ نَسَمَةٍ {كَذَلِكَ النُّشُورُ} وفي آيةٍ أخرى {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11]

 ثم قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} هو العزيزُ، ولَه العزةُ، وهو يُعِزُّ من يشاءُ ويُذِلُّ مَن يشاءُ، وجعلَ العِزَّةَ لرسلِهِ وللمؤمنين {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} فليطلبِ العِزةَ مِن اللهِ بأسبابِها، يطلبُ العِزَّةَ مِن اللهِ بأسبابِها: من الإيمانِ به تعالى، وطاعتِه، والتوكُّلِ عليه، والتوجُّهِ إليه، يطلبُ العِزَّةَ بأسبابِها.

{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يصعدُ إلى الله {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} قالَ كثيرٌ من المفسِّرين: الْعَمَلُ الصَّالِحُ مِن أداءِ الفرائضِ والنوافلِ يرفعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، يكونُ سبباً في رفعِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ -في صعودِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ- {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}

{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} الذين يَمْكُرُونَ، ويفعلون السَّيِّئَاتِ، ويَمْكُرُونَ الـمَكْرَ السَّيء {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} يتوعَّدُ اللهُ الماكرين الذين يمكرونَ بالرُّسُلِ ويمكرون بأولياءِ اللهِ {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}

{وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} مَكْرُهُم يذهبُ ويهلكُ، ويخسرُ الماكرون، لا يُجدي عليهم شيئاً، ولا يَصِلُونَ به إلى شيءٍ، بلِ اللهُ يمكرُ بهم {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}

ثمَّ ذكرَ نوعاً آخر مِن الآياتِ، ومِن الدليلِ على البَعْثِ أيضاً، وهو: خَلْقُ الإنسانِ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} هذا هو الإنسانُ الأولُ: آدمُ، خلقَهُ اللهُ مِن طينٍ مِن ترابٍ، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8] قال هنا: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} يعني النَسْلُ -نَسْلُ آدمَ- يخلقُهُم اللهُ مِن نُطَفٍ {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} هذا بدءُ الخليقةِ، بدءُ الإنسانِ، ثمَّ مِن نطفةٍ {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} يعني: أصنافاً، ذكراً وأنثى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا}

{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} اللهُ أكبرُ! عِلْمُهُ تعالى محيطٌ بهذا الوجودِ بأسرِه دقيقِهِ وجليلِهِ، ومِن ذلك أنه يعلمُ ما تحملُ به الإناثُ مِن الأَجِنَّةِ: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} ويمكن أنْ يُقالَ: أنَّ هذا عامٌّ في الإناثِ مِن الآدَميَّاتِ، ومِن الحيواناتِ، ولا تحملُ ولا تضعُ إلا بعلمِهِ، وأولُ ذلكَ ما يحملُ مِن الإناثِ الآدمياتِ.

{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} {يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} بأنْ يُطُولَ عمرُهُ أو يُطوَّل عمرُهُ {يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ولَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} الكلُّ في كتابٍ وهو في علمِ اللهِ، فكتابُ اللهِ شاملٌ لكلِّ هذا الوجودِ {ولَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ}

{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} يعني: قدْ يخطرُ ببالِ أحدٍ أنَّ هذا شيءٌ! كيف يكونُ هذا الإحصاءُ؟! هذا الإحصاءُ! وهذا العلمُ بهذه الأمورِ الخَفيّة!

قال الله: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هو يسيرُ عليه.

وذِكْرُ مبدأِ خلقِ الإنسانِ، وخلقِ الإنسانِ، هذا هو مِن أدلَّةِ البعثِ، فمِن أدلةِ البَعْثِ التي تُذْكَرُ في القرآنِ مرَّاتٍ وكَرَّاتٍ: إحياءُ الأرضِ بالمطرِ، فالله يذكرُهُ ويقول: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73] وكذلكَ ذِكْرُ المبدأِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} إلى آخرِ الآيةِ ثمَّ قالَ: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ*ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:5-6]

 

(تفسير السعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ -رحمَه اللهُ تعالى- في تفسير قول الله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} الآية:

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كَمَالِ اقْتِدَارِهِ، وَسِعَةِ جُودِهِ، وَأَنَّهُ أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَحَيِيَتِ الْبِلَادُ وَالْعِبَادُ، وَارْتَزَقَتِ الْحَيَوَانَاتُ، وَرَتَعَتْ فِي تِلْكَ الْخَيْرَاتِ، كَذَلِكَ الَّذِي أَحْيَا الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، يَنْشُرُ الْأَمْوَاتَ مِنْ قُبُورِهِمْ، بَعْدَمَا مَزَّقَهُمُ الْبِلَاءُ، فَيَسُوقُ إِلَيْهِمْ مَطَرًا، كَمَا سَاقَهُ إِلَى الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ، فَيُنْزِلُهُ عَلَيْهِمْ فَتَحْيَا الْأَجْسَادُ وَالْأَرْوَاحُ مِنَ الْقُبُورِ، فَيَأْتُونَ لِلْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ

– الشيخ : لا إله إلا الله، يا لَهُ مِن أمرٍ! أمر عظيم! ما تتخيلُهُ العقولُ! لا إله إلا الله، ومِن العَجَبِ أنَّ الإنسانَ المؤمنَ يؤمِنُ بهذا ولكنَّهُ لا يَقْدُرُ قدرَهُ! ولا يقومُ بما يجبُ مِن الاستعدادِ لذلكَ اليومِ العظيمِ! لا إله إلا الله.

 

– القارئ : فَيَأْتُونَ لِلْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ؛ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَيَفْصِلَ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ.

قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} الآية.

أَيْ: يَا مَنْ يُرِيدُ الْعِزَّةَ، اطْلُبْهَا مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ، فَإِنَّ الْعِزَّةَ بِيَدِ اللَّهِ، وَلَا تُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} مِنْ قِرَاءَةٍ وَتَسْبِيحٍ وَتَحْمِيدٍ وَتَهْلِيلٍ وَكُلِّ كَلَامٍ حَسَنٍ طَيِّبٍ، فَيُرْفَعُ إِلَى اللَّهِ، وَيُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَيُثْنِي اللَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ بَيْنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ يَرْفَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَيْضًا، كَالْكَلِمِ الطَّيِّبِ.

وَقِيلَ: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، فَيَكُونُ رَفْعُ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ بِحَسَبِ أَعْمَالِ الْعِبادِ الصَّالِحَةِ، فَهِيَ الَّتِي تَرْفَعُ كَلِمَهُ الطَّيِّبَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، لَمْ يُرْفَعْ لَهُ قَوْلٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذِهِ الْأَعْمَالُ الَّتِي تُرْفَعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَرْفَعُ اللَّهُ صَاحِبَهَا وَيُعِزُّهُ، وَأَمَّا السَّيِّئَاتُ فَإِنَّهَا بِالْعَكْسِ، يُرِيدُ صَاحِبُهَا الرِّفْعَةَ بِهَا، وَيَمْكُرُ وَيَكِيدُ وَيَعُودُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَا يَزْدَادُ إِلَّا هَوَانًا وَنُزُولًا وَلِهَذَا قَالَ: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} يُهَانُونَ فِيهِ غَايَةَ الْإِهَانَةِ {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} أَيْ: يَهْلَكُ وَيَضْمَحِلُّ، وَلَا يُفِيدُهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَكْرٌ بِالْبَاطِلِ، لِأَجْلِ الْبَاطِلِ.

قال الله تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الآية.

يَذْكُرُ تَعَالَى خَلْقَهُ الْآدَمِيَّ، وَتَنَقُّلَهُ فِي هَذِهِ الْأَطْوَارِ، مِنْ تُرَابٍ إِلَى نُطْفَةٍ وَمَا بَعْدَهَا، {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} أَيْ: لَمْ يَزَلْ يَنْقُلُكُمْ، طَوْرًا بَعْدَ طَوْرٍ، حَتَّى أَوْصَلَكُمْ إِلَى أَنْ كُنْتُمْ أَزْوَاجًا، ذَكَرًا يَتَزَوَّجُ أُنْثَى، وَيُرَادُ بِالزَّوَاجِ، الذُّرِّيَّةَ وَالْأَوْلَادَ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ مِنَ الْأَسْبَابِ فِيهِ، فَإِنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَعِلْمِهِ، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} وَكَذَلِكَ أَطْوَارُ الْآدَمِيِّ كُلُّهَا بِعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ.

{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} أَيْ: عُمُرِ الَّذِي كَانَ مُعَمَّرًا عُمْرًا طَوِيلًا إِلا بِعِلْمِهِ تَعَالَى، أَوْ: وَمَا يَنْقُصُ مِنْ عُمْرِ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ، لَوْلَا مَا سَلَكَهُ مِنْ أَسْبَابِ قِصَرِ الْعُمْرِ: كَالزِّنَا، وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَقَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ قِصَرِ الْعُمْرِ.

– الشيخ : يعني -سبحانَ الله-: لِطولِ العمرِ أسبابٌ: كصلةِ الرحِمِ، وبِرِّ الوالدين، وما شاءَ اللهُ.

ولِلقِصَرِ أسبابٌ مثل ما ذكر – الشيخ : الظلمُ، والفُجورُ، والعقوقُ.

كما أنَّ صلةَ الرحمِ والبِرِّ تزيدُ في العُمُرِ، كذلكَ العقوقُ بالعكس، ولكن يجبُ أنْ يُعلَمَ أنَّ هذا لا خروجَ له عن القَدرِ السابقِ، فإذا وصلَ أحدٌ رَحِمَهُ وَبَرَّ والديهِ وحصلَ بسببِ ذلكَ طولُ عمرِهِ، فالسبَبُ والـمُسَبَّبُ كلاهُما قد سَبَقَ في علمِ اللهِ وكتابهِ، يعني: ليس المعنى أنه كانَ مكتوباً أنه عمرُه ثمانين سنة لما وصلَ رَحِمَهُ جاءَ له إضافة يعني، لا، سبقَ علمُ اللهِ بأنَّ هذا يصلُ رحمَه وأنَّ عمرَهُ يكون كذا وكذا، وهذا يقطعُ رَحِمَهُ فيكونُ عمرُه كذا وكذا، القَدَرُ السابقُ والكتابُ الأولُ لا يحدثُ لَه تغييرٌ، بل تجري الأمور كلُّها مُطابقةً لما سبقَ به علمُ الله، ومُطابقةً لما كُتبَ في اللوحِ المحفوظِ.  

 

– القارئ : كَالزِّنَا، وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَقَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ قِصَرِ الْعُمْرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ طُولَ الْعُمْرِ وَقِصَرَهُ، بِسَبَبٍ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ كُلُّهُ بِعِلْمِهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَثْبَتَ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ حَوَى مَا يَجْرِي عَلَى الْعَبْدِ، فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ وَأَيَّامِ حَيَاتِهِ.

{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أَيْ: إِحَاطَةُ عِلْمِهِ بِتِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَإِحَاطَةُ كِتَابِهِ بِهَا، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ مِنْ أَدِلَّةِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، كُلُّهَا عَقْلِيَّةٌ، نَبَّهَ اللَّهُ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ:

إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَأَنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا سَيُحْيِي الْمَوْتَى، وَتَنَقُّلُ الْآدَمِيِّ فِي تِلْكَ الْأَطْوَارِ، فَالَّذِي أَوْجَدَهُ وَنَقَلَهُ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ، وَحَالًا بَعْدَ حَالٍ، حَتَّى بَلَغَ مَا قُدِّرَ لَهُ، فَهُوَ عَلَى إِعَادَتِهِ وَإِنْشَائِهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى أَقْدَرُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، وَإِحَاطَةُ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ، الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ،

– الشيخ : لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، آمنتُ بالله.

– القارئ: دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا، الَّذِي فِي الْقُلُوبِ، وَالْأَجِنَّةِ الَّتِي فِي الْبُطُونِ، وَزِيَادَةِ الْأَعْمَارِ وَنَقْصِهَا، وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي كِتَابٍ. فَالَّذِي كَانَ هَذَا يَسِيرًا عَلَيْهِ، فَإِعَادَتُهُ لِلْأَمْوَاتِ أَيْسَرُ وَأَيْسَرُ.

فَتَبَارَكَ مَنْ كَثُرَ خَيْرُهُ، وَنَبَّهَ عِبَادَهُ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ.

– الشيخ : حسبك.