الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة فاطر/(4) من قوله تعالى {وما يستوي البحران} الآية 12 إلى قوله تعالى {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم} الآية 14

(4) من قوله تعالى {وما يستوي البحران} الآية 12 إلى قوله تعالى {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم} الآية 14

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة فاطر

الدَّرس: الرَّابع

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:12-14].

– الشيخ : إلى هنا، سبحانَ اللهِ العظيم، سبحانَ اللهِ العظيم.

يذكرُ تعالى في هذه الآياتِ بعضَ الآياتِ، الآيات الأولى، الآيات يعني: الآياتُ القرآنيةُ يذكرُ فيها بعضَ الآياتِ الكونيّةِ، ومن آياتِه هذا التضادّ وهذا التنويعُ بين المخلوقاتِ، سبحانَ اللهِ العظيم! فاللهُ تعالى خلقَ الأضدادَ، لا إله إلا الله، ومن ذلك أنَّه خلقَ البحرينِ العذبَ والمالحَ، فهما ضِدَّان، {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ}: لذيذٌ مرويٌّ يحصلُ به الإرواءُ، {وَهَذَا مِلْحٌ}: شديدُ الملوحةِ، فهما بحرانِ لا يستويانِ، فهما ضدّان.

{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}، فهذه البحارُ فيها أنواعٌ من المخلوقاتِ، فيها الحيتانُ التي فيها اللحمُ الطريُّ، {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا}، فاللهُ ذكرَ هذا التضادَّ بين البحرين، وذكرَ ما اشتملا عليه من النِعمِ للعبادِ من مأكولٍ أو ملبوسٍ، فاللحمُ نأكُلُه {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}، الحليُّ: الجواهرُ، الدرُّ في البحرِ.

وسخَّرَ أيضًا البحرَ لتجريَ فيه الفلكُ بأمرِه، {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ}، ترى الفلكَ في البحرِ مواخرَ: جمعُ ماخِرٍ أو ماخِرةٍ، فالسفينةُ تمخرُ البحرُ: تشقُّه، الذي يُشاهِدُ مجرى السفينةَ يرى أنَّها تشقُّ عبابَ البحرِ، ولهذا يجعلونَ مُقدَّمَ السفينةِ مدببًا دقيقًا، فهي تخلفُ وراءَها فراغًا كأنَّه سوق، مع سرعةِ جريانِها ما يلتأمُ الماءُ بسرعةٍ لا، يبقى يُشاهدُ فراغ، وهو مجرى تلكَ السفينةِ، تمخرُ البحرَ، ماخِر فعلُه: مَخَرَ، تمخرُ البحرَ: تشقُّه، سبحانَ اللهِ! {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ}.

{لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}: بالتجارةِ، فهي وسيلةُ السفرِ على البحرِ، وهذا فيه دلالةٌ على جوازِ ركوبِ البحرِ، إلا في حالِ هَيَجانِه، إذا كان فيه اضطرابٌ وهَيَجانٌ ورياحٌ عاصفةٌ فيُنتظَرُ، لكن قد يطرأُ هذا بعد التعمّقِ في البحرِ، {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}، هي وسيلةُ أسفارٍ للتجارةِ، طلبًا للربحِ والكسبِ، {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: هذه هي الغايةُ، هذه هي الحكمةُ المطلوبةُ من العبادِ في ما أنعمَ اللهُ به عليهم من أنواعِ النِّعمِ التي عدَّدَها، الماءُ الزلالُ، اللحمُ الطري، الحُلي، المراكبُ البحريةِ، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

ومن الأضدادِ الليلُ والنهارُ، خلقَ الليلَ والنهارَ، وهما ضِدّانِ، إذا جاءَ الليلُ ذهبَ النهارُ وبالعكسِ، {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}، سنةٌ جاريةٌ بينهما، يَتَعاقَبان، {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}، بهذا الولوجِ ولوجِ الليلِ في النهارِ يَنْتُجُ عنه طولُ الليلِ، طولُ الليلِ، وقِصَرُ النهارِ، كما في أيّامنِا هذه الماضية.

{وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}: كذلك بالعكسِ، ولوجُ النهارِ في الليلِ يَنْتُجُ عنه طولُ النهارِ وقِصَرُ الليلِ، ودَواليك ودَواليك، {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}.

{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}: الشمسُ والقمرُ سخَّرَهُما اللُه وسخَّرَ الليلَ والنهارَ دَائِبينِ، كما قال تعالى: {دَائِبينِ}، لا يتوقفُ، هذه الحركةُ الفلكيةُ لا تتوقفُ إلا إذا جاءَ الأجلُ، كُلٌّ يَجْرِي، سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي، إلى أجلٍ مُسمّى، فإذا جاءَ الأجلُ تغيَّرَ هذا النظامُ وتغيَّرَ يعني الشمسُ، {إذا الشَّمْسُ كوِّرَتْ}، {وخَسَفَ القَمَرُ}، {وإذا الكواكبُ انْتَثَرَتْ}، {كلٌّ يجري إلى أجلٍ مُسمَّى}، فالليلُ والنهارُ والشمسُ والقمرُ آياتٌ ونِعَمٌ، آياتٌ كونيّةٌ ونِعَمٌ على العبادِ. إذًا: هذه الآياتُ فيها عرضٌ لنِعَمٍ، لأنواعٍ من نعمِ اللهِ وأنواعٍ من آياتِ اللهِ الكونيةِ.

{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ}: يعني هذا فِعْلُه سبحانَه وتدبيرُه، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ}: له الملكُ كُلُّه، مُلْكُ السمواتِ والأرضِ، له السمواتُ، له السمواتُ والأرضُ ومن فيهنَّ، هي ملكُهُ، خلقُهُ، وهو المدبّرُ لها كيف شاءَ وبما شاءَ، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ}.

والخطابُ هنا للمشركينَ؛ لأنَّه قال بعدَها: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}: ما يملكونَ شيئًا، القطميرُ: قال المفسرونَ أنَّه القِشْرُ اللي على النواةِ، النواةُ عليها قِشرةٌ رقيقةٌ، إذا أكلتُمُ التَّمرَ شوفوا النواةَ تجدونَ فوقَها قِشرةً رقيقةً هي القطميرُ. والخيطُ اللي في الشقِّ هو: الفتيلُ، {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}. والحفيرةُ التي في ظهرِ النواةِ هي: النَّقيرُ، فاللهُ تعالى ضربَ المثلَ بهذه الثلاث، بالفتيلِ والنقيرِ والقطميرِ، {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}، {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}، آلهةُ المشركينَ لا تملكُ شيئًا، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِه}، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}، {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}، يتبرَّؤونَ منكم، {يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}، لا إله إلا الله.

 

(تفسير السعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين. قال الشيخُ عبدُ الرحمنِ السعدي رحمهُ اللهُ تعالى في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ} الآيات:

هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، أَنَّهُ جَعَلَ الْبَحْرَيْنِ لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ كُلِّهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْأَنْهَارُ عَذْبَةً فُرَاتًا، سَائِغًا شَرَابُهَا؛ لِيَنْتَفِعَ بِهَا الشَّارِبُونَ وَالْغَارِسُونَ وَالزَّارِعُونَ، وَأَنْ يَكُونَ الْبَحْرُ مِلْحًا أُجَاجًا؛ لِئَلَّا يَفْسَدَ الْهَوَاءُ الْمُحِيطُ بِالْأَرْضِ بِرَوَائِحِ مَا يَمُوتُ فِي الْبَحْرِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَلِأَنَّهُ سَاكِنٌ لَا يَجْرِي، فَمُلُوحَتُهُ تَمْنَعُهُ مِنَ التَّغَيُّرِ، وَلِتَكُونَ حَيَوَانَاتُهُ أَحْسَنَ وَأَلَذَّ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمِنْ كُلٍّ} مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحِ وَالْعَذْبِ {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} وَهُوَ السَّمَكُ الْمُتَيَسَّرُ صَيْدُهُ فِي الْبَحْرِ، {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} مِنْ لُؤْلُؤٍ وَمَرْجَانٍ وَغَيْرِهِما مِمَّا يُوجَدُ فِي الْبَحْرِ، فَهَذِهِ مَصَالِحُ عَظِيمَةٌ لِلْعِبَادِ.

وَمِنَ الْمَصَالِحِ أَيْضًا وَالْمَنَافِعِ فِي الْبَحْرِ، أَنْ سَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْمِلُ الْفُلْكَ مِنَ السُّفُنِ وَالْمَرَاكِبِ، فَتَرَاهَا تَمْخُرُ الْبَحْرَ وَتَشُقُّهُ، فَتَسْلُكُ مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ آخَرَ، وَمِنْ مَحَلٍّ إِلَى مَحَلِّ، فَتَحْمِلُ السَّائِرِينَ وَأَثْقَالَهُمْ وَتِجَارَاتِهِمْ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ شَيءٌ كَثِيرٌ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: إِيلَاجُهُ تَعَالَى اللَّيْلَ بِالنَّهَارِ وَالنَّهَارَ بِاللَّيْلِ، يُدْخِلُ هَذَا عَلَى هَذَا، وَهَذَا عَلَى هَذَا، كُلَّمَا أَتَى أَحَدُهُمَا ذَهَبَ الْآخَرُ، وَيَزِيدُ أَحَدُهُمَا وَيَنْقُصُ الْآخَرُ، وَيَتَسَاوَيَانِ، فَيَقُومُ بِذَلِكَ مَا يَقُومُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي أَبْدَانِهِمْ وَحَيَوَانَاتِهِمْ وَأَشْجَارِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي تَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِنْ مَصَالِحِ الضِّيَاءِ وَالنُّورِ، وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَانْتِشَارِ الْعِبَادِ فِي طَلَبِ فَضْلِهِ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ إنْضَاجِ الثِّمَارِ

– الشيخ : آياتٌ عظيمةٌ، عظيمةٌ عظيمةٌ لمن يتفكَّرُ فيها، في نظامِها وفي حكمةِ وجودِها وجعلِها على هذا النظامِ، لكن الذي يمنعُ من التفكّرِ الإلْفُ والعادَةُ؛ لأنَّ أكثرَ الناسِ لا يلفتُ انتباهَهُ إلّا الشيءُ المفاجئُ والشيءُ النادرُ والشيءُ الخارقُ، أمَّا الشيءُ المتكرّرُ فلا يُثيرُ انتباهًا ولا يُوجبُ تفكُّرًا، شيءٌ عاديٌّ مألوفٌ، طلعتِ الشمسُ غابتِ الشمسُ، جاءَ الليلُ راحَ النهارُ، ما في تدبرٌ، تدبرٌ لحكمةِ ومنافعِ هذا التعاقبِ وهذا التفاوتِ العجيبِ، الإلْفُ، فكّرْ في نفسِكَ، لكن عادي، الأذنُ هنا والعينُ هنا والرأسُ كذا واليدُ بهذا الشكلِ، لكنَّ اللهَ قال: {وفي أنفسِكم}، يعني وفي أنفسِكمْ آياتٌ، {أفلا تُبصرون}.

فينبغي للمسلمِ أن يتميّزَ عن الكفارِ، الكفارُ ينظرونَ إلى هذه الموجوداتِ بلا تفكيرٍ، إلا التفكيرَ الذي يتوصّلونَ به إلى استنتاجِ أشياءَ ومنافعَ وابتكاراتٍ وكذا بس، لكن لا يتفكّرونَ في مبدأها، في خالقِها، في مُبدعِها، في حكمتِها، ما يتفكرون، لكن ينبغي للمسلمِ لا، أن يتفكَّرَ ويتذكَّرَ ويكونَ من الذين قال اللهُ فيهم: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:190-191].

انظرْ وسبِّحْ واحمدْ وكبّرْ وانظرْ فيما حولَك، جاءَ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان إذا قامَ من الليلِ يرفعُ بصرَهُ إلى السماءِ ويتفكَّرُ ويقرأُ هذه الآياتِ، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، ينبغي ينبغي التفكُّرُ في مدخلِكَ ومخرجِكَ، سبحانَ اللهِ! بينما الناسُ في الليلِ الدامسِ ينشقُّ الفجرُ، ينشقُّ من جهةِ مطلعِ الشمسِ، فيتزايدُ النورُ والضوءُ حتى يرتفعَ النهارُ، لا إله إلا الله، فكِّرْ، ماذا وراءَ هذا، ومن الذي أبدعَ هذا؟

وكثيرٌ ما يُذكِّرُ اللهُ عبادَه بهذه النِّعمِ، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا} [القصص:71]، والآياتُ في هذا كثيرٌ، {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ}، يعني في الليل، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}، يعني في النهار، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73]، هذا هو المطلبُ، لا إله إلا الله.

 

– القارئ : وَمَا فِيهِمَا مِنْ تَنْضِيجِ الثِّمَارِ وَتَجْفِيفِ مَا يُجَفَّفُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، الَّتِي لَوْ فُقِدَتْ لَلَحِقَ النَّاسَ الضَّرَرُ.

وَقَوْلُهُ: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} أَيْ: كُلٌّ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَسِيرَانِ فِي فَلَكِهِمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسِيرًا، فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ، وَقَرُبَ انْقِضَاءُ الدُّنْيَا، انْقَطَعَ سَيْرُهُمَا، وَتَعَطَّلَ سُلْطَانُهُمَا، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ، وَانْتَثَرَتِ النُّجُومُ. فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى مَا بَيَّنَ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِهِ وَإِحْسَانِهِ، قَالَ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أَيِ: الَّذِي انْفَرَدَ بِخَلْقِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَتَسْخِيرِهَا، هُوَ الرَّبُّ الْمَأْلُوهُ الْمَعْبُودُ، الَّذِي لَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ.

{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ {ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير} أَيْ: لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، حَتَّى وَلَا الْقِطْمِيرَ الَّذِي هُوَ أَحْقَرُ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا مِنْ تَنْصِيصِ النَّفْيِ وَعُمُومِهِ، فَكَيْفَ يُدْعَوْنَ، وَهُمْ غَيْرُ مَالِكِينَ لِشَيْءٍ مِنْ مُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟

 وَمَعَ هَذَا {إنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دعاءَكُمْ} لِأَنَّهُمْ مَا بَيْنَ جَمَادٍ وَأَمْوَاتٍ وَمَلَائِكَةٍ مَشْغُولِينَ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ {وَلَوْ سَمِعُوا} عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ {مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، وَلَا يَرْضَى أَكْثَرُهُمْ بِعِبَادَةِ مَنْ عَبَدَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أَيْ: يَتَبَرَّؤونَ مِنْكُمْ، وَيَقُولُونَ: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وليُّنَا مِنْ دُونِهمْ} [سبأ:41]، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أَيْ: لَا أَحَدَ يُنَبِّئُكَ، أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ، فَاجْزِمْ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ، الَّذِي نَبَّأَ بِهِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ، فَلَا تَشُكَّ فِيهِ وَلَا تَمْتَرِ. فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ، الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ السَّاطِعَةَ، الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى الْمَأْلُوهُ الْمَعْبُودُ، الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ الْعِبَادَةِ سِوَاهُ، وَأَنَّ عِبَادَةَ مَا سِوَاهُ بَاطِلَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِبَاطِلٍ، لَا تُفِيدُ عَابِدَهُ شَيْئًا.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ

– الشيخ : نعم بعده.

– القارئ : انتهى.