الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة يس/(3) من قوله تعالى {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى} الآية 20 إلى قوله تعالى {بما غفر لي ربي} الآية 27

(3) من قوله تعالى {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى} الآية 20 إلى قوله تعالى {بما غفر لي ربي} الآية 27

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  يس

الدَّرس: الثَّالث

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ *اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:20-27]

– الشيخ : لا إله إلا الله، الحمد لله، هذه قصة مُتفرِّعَةٌ عن قصةِ أصحابِ القريةِ، وهي قصةُ ذلكَ الرجل المؤمِن الذي تُشبِهُ حالُه حالَ مؤمِنِ آل فرعونَ، وذاك الرجل الذي جاءَ لموسى: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] وهذا رجلٌ مؤمنٌ {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} {يَسْعَى} مسرعٌ، يدلُّ على اهتمامِه بالأمرِ، جاءَ ناصحًا، جاءَ ناصحًا لقومِه.

{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ} إذاً هو منهمْ، هو من أصحابِ القريةِ {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} يا لَهُ من ناصحٍ! الله أكبر! {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ*اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ناسٌ رجالٌ مهتدون وليسَ لهم غَرَضٌ مِنَ الدنيا {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ}

ثمَّ جعلَ يبينُ عقيدتَه التي هو يدعو قومَه إليها: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} هذا يدلُّ على أنَّ أصحابَ هذهِ القريةِ مشركونَ يعبدون آلهةً من دونِ اللهِ وهو يقول: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}

{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} رجعَ يخاطِبُ الرُّسلَ {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} كان الكلامُ أولًا موجَّهاً إلى قومِه؛ نصيحةً لهمْ، ودعوةً لهم إلى اتباعِ الرسلِ، وبيانًا لعقيدتِه، ثمَّ التفتَ {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} سبحان الله! {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}

وفي الكلامِ-والله أعلم- اختصارٌ كبيرٌ وكثيرٌ، فالرجلُ ماتَ أو قُتِلَ، فقيلَ لَه: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} {ادْخُلِ الْجَنَّةَ}، يعني الرسلُ لا يقولونَ لَه ذلكَ، لا يقولونَ لهذا الرجل: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ}، لا. {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} قُتل أو ماتَ { قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} يعني همُّه مع قومِه، يريدُ لهم السعادة والنَّجاة: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} لا إله إلا الله، يتمَنَّى لقومِهِ أنْ يعلمُوا ما صارَ إليه، وما انتهى أمرُهُ إليهِ لعلَّهم يقتدونَ به  {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} وتأتي بقيةُ القصةِ والله أعلم.

 

(تفسير الشيخ السعدي):

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ -رحمَه اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} الآيات: حِرْصًا عَلَى نُصْحِ

– الشيخ : جاءَ من بعيد، يَسْعَى يَسْعَى، {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} يعني في تناسب بين قوله: {يَسْعَى} وبين قوله: {أَقْصَى الْمَدِينَةِ}

– القارئ : حِرْصًا عَلَى نُصْحِ قَوْمِهِ حِينَ سَمِعَ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ وَآمَنَ بِهِ

– الشيخ : ما دعتْ إليهِ الرُّسُلُ وآمنَ بِه: يعني: آمنَ بما دَعَوا إليه، وهذا يتضمَّنُ أنه آمنَ بهم.

– القارئ : وَعَلِمَ مَا رَدَّ بِهِ قَوْمَهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} فَأَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ وَنَصَحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ

– الشيخ : يا لها مِن نصيحةِ ناصح! لا إله إلا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يا الله.

– القارئ : وَشَهِدَ لَهُمْ بِالرِّسَالَةِ

ثُمَّ ذَكَرَ تَأْيِيدًا لِمَا شَهِدَ بِهِ وَدَعَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا}

– الشيخ : سبحان الله! طلبُ الدنيا هذا هو من موانعِ الاستجابةِ ومن الشَّكِّ في الداعي، إذا صارَ الداعي يُطالب بشيء، يطلبُ من المدعوينَ دنيا، هذا يُوجِبُ الشَّكَ في دعوتِه؛ لأنه طالبُ دنيا، طالبُ مالٍ، {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} وكان الرسلُ يستدلُّونَ على قومِهم بكمالِ نصحِهم؛ أنَّهم لا يسألونَ {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء:109] {وَمَا أَسْأَلُكُمْ} كلُّ الرسلِ يقولونَ ذلك: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ} {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام:90] الله أكبر!

 

– القارئ : فَقَالَ: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} أَيِ: اتَّبَعُوا مَنْ نَصَحَكُمْ نُصْحًا يَعُودُ إِلَيْكُمْ بِالْخَيْرِ، وَلَيْسَ يُرِيدُ مِنْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلَا أَجْرًا عَلَى نُصْحِهِ لَكُمْ وَإِرْشَادِهِ، فَهَذَا مُوجِبٌ لِاتِّبَاعِ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ.

بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَلَعَلَّهُ يَدْعُو وَلَا يَأْخُذُ أُجْرَةً، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْحَقِّ، فَدَفَعَ هَذَا الِاحْتِرَازَ بِقَوْلِهِ: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ}؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ إِلَّا لِمَا يَشْهَدُ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ بِحُسْنِهِ، وَلَا يُنْهُونَ إِلَّا بِمَا يَشْهَدُ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ بِقُبْحِهِ.

فَكَأَنَّ قَوْمَهُ لَمْ يَقْبَلُوا نُصْحَهُ، بَلْ عَادُوا لَائِمِينَ لَهُ عَلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَقَالَ: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ: وَمَا الْمَانِعُ لِي مِنْ عِبَادَةِ مَنْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ؟ لِأَنَّهُ الَّذِي فَطَرَنِي، وَخَلَقَنِي، وَرَزَقَنِي، وَإِلَيْهِ مَآلُ جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَيُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ،

– الشيخ : يا الله، يا ربِّ ثبتْنا على الإيمان.

– القارئ : فَالَّذِي بِيَدِهِ الْخَلْقُ وَالرِّزْقُ، وَالْحُكْمُ بَيْنَ الْعِبَادِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ، وَيُثْنَى عَلَيْهِ وَيُمَجَّدَ، دُونَ مَنْ لَا يَمْلِكُ نَفْعًا وَلَا ضُرًّا، وَلَا عَطَاءً وَلَا مَنْعًا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، وَلِهَذَا قَالَ: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ يَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَلَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ عَنِّي شَيْئًا، {وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ} مِنَ الضُّرِّ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ بِي.

{إِنِّي إِذًا} أَيْ: إِنْ عَبَدْتُ آلِهَةً هَذَا وَصْفُهَا {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} فَجَمَعَ فِي هَذَا الْكَلَامِ بَيْنَ نُصْحِهِمْ، وَالشَّهَادَةِ لِلرُّسُلِ بِالرِّسَالَةِ وَالِاهْتِدَاءِ، وَالْإِخْبَارِ بِتَعَيُّنِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَذِكْرِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهَا، وَأَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِهِ بَاطِلَةٌ، وَذَكَرَ الْبَرَاهِينَ عَلَيْهَا، وَالْأَخْبَارَ بِضَلَالِ مَنْ عَبَدَهَا، وَالْإِعْلَانَ بِإِيمَانِهِ جَهْرًا، مَعَ خَوْفِهِ الشَّدِيدِ مِنْ قَتْلِهِمْ، فَقَالَ: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} فَقَتَلَهُ قَوْمُهُ، لـمَّا سَمِعُوا مِنْهُ وَرَاجَعَهُمْ بِمَا رَاجَعَهُمْ بِهِ.

قِيلَ لَهُ فِي الْحَالِ

– الشيخ : هذا مأخوذٌ من الاختصارِ الذي في الآياتِ والله أعلم، هذا الرجلُ يُذكَرُ ويُقالُ له: صاحبُ ياسين، صاحبُ ياسين، هو هذا الرجل، لعلَّه سُمِّيَ بذلكَ؛ لأنَّه ذُكِرَ في هذهِ السورةِ سورةِ "يس" الله أكبر.

 

– القارئ : قِيلَ لَهُ فِي الْحَالِ: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} فَقَالَ مُخْبِرًا بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْكَرَامَةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَإِخْلَاصِهِ، وَنٌصْحًا لِقَوْمِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، كَمَا نَصَحَ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}

– الشيخ : نصحَ لهم تمنيًا، ولّا ما، الآن أقول: ذهبتِ الفرصةُ عليهم، ناصحٌ لهمْ بعدَ مماتِه يتمنَّى أنَّ قومَه يعلمونَ بمصيرِه.

– القارئ : {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} أي: بِأَيِّ: شَيْءٍ غَفَرَ لِي، فَأَزَالَ عَنِّي أَنْوَاعَ الْعُقُوبَاتِ، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} بِأَنْوَاعِ الْمَثُوبَاتِ وَالْمَسَرَّاتِ، أَيْ: لَوْ وَصَلَ عِلْمُ ذَلِكَ إِلَى قُلُوبِهِمْ، لَمْ يُقِيمُوا عَلَى شِرْكِهِمْ.

قَالَ اللَّهُ فِي عُقُوبَةِ قَوْمِهِ: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} [يس:28] أَيْ: مَا احْتَجْنَا.

– الشيخ : إلى هنا. وقفنا عندها .