الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة يس/(5) من قوله تعالى {وآية لهم الأرض الميتة} الآية 33 إلى قوله تعالى {سبحان الذي خلق الأزواج} الآية 36
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(5) من قوله تعالى {وآية لهم الأرض الميتة} الآية 33 إلى قوله تعالى {سبحان الذي خلق الأزواج} الآية 36

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  يس

الدَّرس: الخامس

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ*وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ*لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ*سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس:33-36]

– الشيخ : بعدَما قصَّ الله على الكفار والمُشركين من قريشٍ وغيرهم قصةَ "أصحاب القرية": {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس:13] واتصل بها قصةُ "المؤمن" وأخبرَ عن إهلاكِهم بالصيحة، رجع السِّياقُ والحديث عن المُشركين المُكذِّبين بالبعثِ، فإنَّ من أشهرِ قضايا الاعتقادِ التي يُكذِّب بها الكافرون هو: البعثُ، وقد كَثُرَ ذكرُ هذا الأمرِ في القرآنِ في آياتٍ مُتفرِّقةٍ وفي سُوَرٍ كاملةٍ.

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ*وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:31-32] هذا فيه الإخبارُ عن البعثِ، وأنَّ الله يجمعُ الأوَّلين والآخرين، هؤلاء القرون الذين هلكوا في غابرِ الزمان، سيأتي لهم يومٌ يجمعُهم الله فيه: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ*لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49-50] {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:32]

ثم يُتْبـِعُ -سبحانه وتعالى- ذلكَ بذكر الآيات الدالَّةِ على قدرتِه -سبحانه وتعالى- على البعث، والآياتُ والأدلَّةُ الدالة على ذلكَ أنواعٌ في القرآن، ومنها: إحياءُ الأرض بعد موتها: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ*ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} [الحج:5-6] {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [الروم:50]

وقال هنا: {وَآيَةٌ لَهُمُ}: آيةٌ على قدرته على البعثِ تُبطِلُ قول أولئك الجاحدين المُنكرين للبعث، {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ}: الهامدة الخاشعة {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا}: بإنزالِ الماء، والآيات الـمُبيِّنة والـمُفصِّلَةَ لذلك كثيرة، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39]

{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ*لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ}: هذه البساتين وهذه التي تضمُّ أنواعًا من الأشجار ذوات الثمار المختلفة: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} [الرعد:4] {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ*يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النمل:10-11]

إذًا هذا المطر لا يقتصرُ أثرُه ونفْعُه على الكلأ الذي ينبتُ في البَــرِّ والصحاري، هذا المطرُ له آثار في الأرض لإحيائِها.

ومن ذلكَ أنه بنزول المطرِ يتوفَّرُ الماء، تجري به العيون، وكذلك الآبارُ التي يحفرُها الناس، فإذا قَحطَ المطرُ نَضَبَ الماء، وقلَّ الماء، كما يشهدُ به الواقع، بل الأنهار المعروفة الجارية مصادرُها من الماء، ينزل الماء في منابعِها هناك، وتجري حيث قدَّرَ الله.

{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} حبوب، الحبوب هذه التي نأكلُها، الرزُّ والبُرُّ والذرة والدَّخَن وأنواع من الحبوب {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ*وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:9-10]

{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ*وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} بساتين، {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ*لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِ هذه الأشجار {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ}: بعضُ المُفسرين يقولُ: وما عملَتْ ذلك أيدِي الناس، ليس بفعلِ الناس وبأيديهم، وقيل: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} يعني: يأكلون ويتمتَّعون مما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ في هذه الثمار، يعني قلنا: مثل الخبز وأنواع المطعومات والحلوى كلُّها للإنسان فيها تدخُّلٌ بالصناعة، ولكن مصادرها هي هذه الأشجار والثمار.

{وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} أفلا يشكر هؤلاء الجاحدون {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} الله على هذه النِّعَمِ، فالله يذكر ذلك وفي جانبين: الاستدلال على القدرة، والامتنان بالنعمة.

{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} خلق الأنواع، أنواعُ الإنسانِ وأنواعُ الحيوانِ وأنواع الثمار، {خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} أشياءُ يخلقُها اللهُ في الأرض لا نعلمُها.

 

(تفسيرُ السعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، قال الشيخُ عبدُ الرحمنِ السعدي -رحمَه الله تعالى- في تفسيرِ قول الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} الآيات:

أيْ :وَآيَةٌ لَهُمُ عَلَى الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، هَذِهِ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْمَطَرَ، فَأَحْيَاهَا بَعْدَ مَوْتِهَا، وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الزُّرُوعِ، وَمِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ النَّبَاتِ، الَّتِي تَأْكُلُهُ أَنْعَامُهُمْ. وَجَعَلْنَا فِيهَا.. 

– الشيخ : {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ} [يونس:24]

– القارئ : وَجَعَلْنَا فِيهَا أَيْ: فِي تِلْكَ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ جَنَّاتٍ أَيْ: بَسَاتِينَ، فِيهَا أَشْجَارٌ كَثِيرَةٌ، وَخُصُوصًا النَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ، اللَّذَيْنِ هُمَا أَشْرَفُ الْأَشْجَارِ{وَفَجَّرْنَا فِيهَا} أَيْ: فِي الْأَرْضِ {مِنَ الْعُيُونِ}:  
جَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ..

– الشيخ : في الأرضِ، أو في الجنَّاتِ: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ} محتملٌ أن تكون في الجنات.

– القارئ : {مِنَ الْعُيُونِ}: جَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ تِلْكَ الْأَشْجَارَ، وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ. لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ قُوتًا وَفَاكِهَةً، وَأُدْمًا وَلَذَّةً، وَالْحَالُ أَنَّ تِلْكَ الثِّمَارَ "مَا" عَمِلَتْهَا أَيْدِيهِمْ.

– الشيخ : {مَا} على هذا نافية، يعني: وليست هذه النِّعم وهذه الثِّمار وهذه المأكولَات من عمل الناس، هذا خلْقُ الله، حتى ولو كان لهم دورٌ في زراعتها وحرثِها وإصلاحِها، ما {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63-64] فالله هو الذي يزرعُها ويُتِمُّ ويُكمل نماءَها وحتى تخرجَ ثمارُها، {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ}: وما عملت هذه النِّعمُ العظيمة لم تكنْ من عملِ بني آدم: {أَفَلا يَشْكُرُونَ}.

 

– القارئ : وَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ صُنْعٌ وَلَا عَمَلٌ، إِنْ هُوَ إِلَّا صَنْعَةُ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، وَخَيْرُ الرَّازِقِينَ، وَأَيْضًا فَلَمْ تَعْمَلْهُ أَيْدِيهِمْ بِطَبْخٍ وَلَا غَيْرِهِ، بَلْ أَوْجَدَ اللَّهُ هَذِهِ الثِّمَارَ، غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ لِطَبْخٍ وَلَا شَيٍّء، تُؤْخَذُ مِنْ أَشْجَارِهَا، فَتُؤْكَلُ فِي الْحَالِ.

أَفَلا يَشْكُرُونَ مَنْ سَاقَ لَهُمْ هَذِهِ النِّعَمَ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ جُودِهِ وَإِحْسَانِهِ، مَا بِهِ تَصْلُحُ أُمُورُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، أَلَيْسَ الَّذِي أَحْيَا الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَأَنْبَتَ فِيهَا الزُّرُوعَ وَالْأَشْجَارَ، وَأَوْدَعَ فِيهَا لَذِيذَ الثِّمَارِ، وَأَظْهَرَ ذَلِكَ الْجَنَى مِنْ تِلْكَ الْغُصُونِ، وَفَجَّرَ الْأَرْضَ الْيَابِسَةَ الْمَيِّتَةَ بِالْعُيُونِ، بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى؟ بَلَى، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} أَيِ: الْأَصْنَافَ كُلَّهَا، مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ فَنَوَّعَ فِيهَا مِنَ الْأَصْنَافِ مَا يَعْسُرُ تَعْدَادُهُ. وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ فَنَوَّعَهُمْ إِلَى ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَفَاوَتَ بَيْنَ خَلْقِهِمْ وَخُلُقِهِمْ، وَأَوْصَافِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَة. وَمِمَّا لا يَعْلَمُون مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي قَدْ خُلِقَتْ وَغَابَتْ عَنْ عِلْمِنَا، وَالَّتِي لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ، فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ، أَوْ ظَهِيرٌ، أَوْ عَوِينٌ، أَوْ وَزِيرٌ، أَوْ صَاحِبَةٌ، أَوْ وَلَدٌ، أَوْ سَمِيٌّ، أَوْ شَبِيهٌ، أَوْ مَثِيلٌ فِي صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، أَوْ يُعْجِزُهُ شَيْءٌ يُرِيدُهُ.