الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة يس/(7) من قوله تعالى {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} الآية 41 إلى قوله تعالى {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله} الآية 47
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(7) من قوله تعالى {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} الآية 41 إلى قوله تعالى {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله} الآية 47

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  يس

الدَّرس: السَّابع

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيمِ:

وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ*وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [يس:41-47]

– الشيخ : إلى هنا، يقول تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ}: هذه آيةٌ ثالثة، {آيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ} [يس:33]، {آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37]، {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}: الفلكُ: هوَ مراكبُ البحر، كثيرًا ما يذكر الله الفُلْكَ، {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} [الجاثية:13]، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [إبراهيم:32]، {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر:12]، يذكرُ الله هذهِ النعمةَ كثيرًا، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} [لقمان:31]، فالسُّفنُ آيةٌ من آياتِ الله، {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى:32]

{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} المشحونُ: المملوء، وأولُ سفينةٍ جرَت على الماءِ هي سفينةُ نوح، وجعلَها الله آيةً، يعني جعلَ الله جنسَها آيةً، {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت:15]، أمرَ اللهُ نوحًا بصُنعِ تلكَ السفينة، {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37]، اصنع الفلك، حمل الله نوحًا ومن معه بتلك السفينة، {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]

{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ*وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}: خلق الله أيضًا مراكبَ أخرى غيرَ السفنِ، خلقَ الله مراكبَ سوَّاها، مثل ما سخَّرَ من الإبلِ وغيرِها، {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:7]، فاللهُ يمتنُّ على العبادِ بما سخَّرَ لهم وبما خلقَ لهم من المراكبِ.

وفي هذا العصرِ قد هدى اللهُ الخلقَ، هدى اللهُ الناسَ إلى صنعِ هذه المراكبِ الغريبةِ، التي ليس لها نظيرٌ في الماضي، وتطوَّرَت وتضخَّمَت الوسائلُ الأولى، مراكبُ البحر صارَت بوارجَ وبواخرَ هائلةً، وهي على سُنَّةِ الفُلكِ الأول، لكن حصل فيها التوسُّعُ وحصلَ فيها العَجَبُ والإبداعُ، ولكن هذا كلَّه بلاءٌ وابتلاءٌ من الله للعبادِ، أنْ جعلَ هذه الأمورَ الهائلةَ والمُبتكرَات على أيدي الكفار، فكانَت سببًا في غرورِهم، ازدادُوا بها غرورًا واستكبارًا وطغيانًا وإعجابًا وتسلطًا، وأثَّرَ على غيرِهم من المسلمين انبهارًا وإعجابًا بالكفار! عجب! هذه الحضارةُ وهذه الصناعةُ، الصناعاتُ الهائلة من مراكبَ أرضيَّةَ ومراكبَ بحرية ومراكبَ جوية، كلها مراكب، وفي غايةٍ من المُتعةِ والراحةِ، لكن من تدبَّر فيها آياتِ الله، آيةُ الله سمَّاهَا آيةً، إذًا علينا أن نتدبَّرَ.

وكونَها صنعَها الإنسانُ هذا شيءٌ، منِ الذي أعطى الإنسانَ العقلَ؟ هذه العقولُ التي وصلَت إلى ما وصلَت إليه، اللهُ هو الذي ركَّبها في بني آدم، ومن الذي خلقَ هذه الموادَّ؟ الموادُّ التي تُركَّبُ منها هذه الصنائعُ وهذه المصنوعات؟ ومن الذي خلقَ الأسبابَ والموادَّ التي هي الوسيلةُ في تحريكِها؟ لابدَّ من التدبرِ، آية، آية ٌ لهم، إذًا الطيارة آية، الطائرة آيةٌ، يجبُ التفكرُ في قدرة اللهِ في حكمةِ اللهِ وتسخيرِه، سبحان الله! المفتونُون يقولون: شوف العلم، العلمُ يعنُون به علمَ الكفارِ الذي صنعُوه، شوف العلم! لاحظْ! تأمَّل! تذكَّر الذي خلقَ وعلَّمَ، لا إله إلا الله.

{أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ} في البحرِ تجري هذه السفنُ ولو شاءَ اللهُ لأرسلَ عليها قاصفًا من الريحِ فيُغرقهم، قاصفٌ من الريحِ، وهذه المراكبُ الحديثةُ ليسَت في مأمنٍ، لكن ليسَت كالسفنِ العادية الشِّراعيةِ، لكنَّها تحتَ قدرةِ الله، وفي قبضةِ الله، ولو شاءَ الله لأغرقَها، بأيِّ سببٍ، بريحٍ عاتيةٍ، أو باصطدامٍ يُحطِّمُها ويكونُ سببًا في إغراقِها، وهكذا الطائرات، فكلمةُ: {إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ}: هذه يُعتبرُ بها كلِّ هذهِ المراكبِ، لو شاء اللهُ سقطَت الطائرةُ، وكم من طائرات تسقط في البر أو على البحر أو، كم؟ وهذه المراكبُ إذا أُصيبَت تكونُ كارثةً عظيمةً، مُصيبةٌ كبيرةٌ، يهلكُ بها من خلقِ اللهِ من شاءَ: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} مالهم نصيرٌ، ولا لهم صريخٌ يستنصرُ لهم.

{وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} إذا أراد الله نجاةَ من شاءَ من الناسِ رحمةً ومتاعًا إلى حينٍ -يعني الذي له أجل-، يعني كم تغرقُ من سفنٍ، وكم تسقطُ من طائراتٍ، وينجو من شاءَ الله منها، ليبلُغُوا آجالَهم، {وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا} هذا ذمٌّ من اللهِ للكفارِ، وهو تعالى يأمرُهم أن يحذرُوا، العقوباتِ الماضية، والعقوباتِ الآتيةَ، سنَّةُ الله ماضيةٌ، سُنَّةُ الله في الكافرينَ والمُكذِّبينَ والعُصاةِ ماضيةٌ.

{إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} قيلَ للكفارِ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} تتصدَّقُ على الفقراءِ! الله هو الذي أفقرَهم! وهذا من الآياتِ التي فيها ذكرُ احتجاجِ الكفارِ والجُهَّالِ بالقدرِ، لسنا مُكلَّفين بهم، لو شاءَ اللهُ لأعطَاهم، وهذا من العجبِ العُجابِ والشُّبهاتِ الشيطانية، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} كأنهم يطعنون في [….] لو شاءَ اللهُ لأطعمَهم، {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} نعم يا محمد.

 

(تفسيرُ السَّعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى- في تفسيرِ قولِ الله تعالى:

{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} الآيات [يس:41-50]

أَيْ: وَدَلِيلٌ لَهُمْ وَبُرْهَانٌ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ الْمَعْبُودُ، لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ بِالنِّعَمِ الصَّارِفُ لِلنِّقَمِ، الَّذِي مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِهِ {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ: آبَاؤُهُمْ.

{وَخلقْنَا لَهُم} أَيْ: لِلْمَوْجُودِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ {مِنْ مِثْلِهِ} أَيْ: مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْفُلْكِ، أَيْ: جِنْسِهِ {مَا يَرْكَبُونَ} بِهِ، فَذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلَى الْآبَاءِ بِحَمْلِهِمْ فِي السُّفُنِ، لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَلَيْهِمْ، نِعْمَةٌ عَلَى الذُّرِّيَّةِ.

وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ أَشْكَلِ الْمَوَاضِعِ عَلَيَّ فِي التَّفْسِيرِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذُّرِّيَّةِ الْآبَاءُ، مِمَّا لَا يُعْهَدُ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الذُّرِّيَّةِ عَلَى الْآبَاءِ، بَلْ فِيهَ مِنَ الْإِيهَامِ، وَإِخْرَاجِ الْكَلَامِ عَنْ مَوْضُوعِهِ، مَا يَأْبَاهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِرَادَتُهُ الْبَيَانَ وَالتَّوْضِيحَ لِعِبَادِهِ.

وَثَمَّ احْتِمَالٌ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذُّرِّيَّةِ الْجِنْسُ، وَأَنَّهُمْ هُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُمْ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ بَنِي آدَمَ، وَلَكِنْ يَنْقُضُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُه: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}إِنْ أُرِيدَ: وَخَلَقْنَا مِنْ مَثَلِ ذَلِكَ الْفُلِكِ، أَيْ: لِهَؤُلَاءِ الْمُخَاطَبِينَ، مَا يَرْكَبُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُلْكِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَكْرِيرًا لِلْمَعْنَى، تَأْبَاهُ فَصَاحَةُ الْقُرْآنِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}الْإِبِلُ، الَّتِي هِيَ سُفُنُ الْبَرِّ، اسْتَقَامَ الْمَعْنَى وَاتَّضَحَ، إِلَّا أَنَّهُ يَبْقَى أَيْضًا، أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِيهِ تَشْوِيشٌ، فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى، لَقَالَ: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَاهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}: فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ فِي الْأَوَّلِ: حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ، وَفِي الثَّانِي: حَمَلْنَاهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْمَعْنَى، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الذُّرِّيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. فَلَمَّا..

– الشيخ : المقصودُ أنَّ الآيةَ مُشكلةٌ عند الشيخ فتكونُ من المُتشابهِ، والله أعلمُ فالذي يظهرُ أنَّه مثل ما قالَ المُفسِّرون، المُراد بآيةِ السفينة التي صنعَها نوحٌ فكانت آية، كلُّها نفسُ هذا الجنسِ، السفنُ آيةٌ، وحملَ الله عليها أسلافَهم وهم العبرةُ في الجنسِ، مثل ما قالَ في الاحتمالِ الثاني، واللهُ أعلم. والمعنى المقصودُ ولله الحمدُ بيِّنٌ، وهو تنبيهُ العباد على هذهِ الآيةِ العظيمةِ التي أوَّلُها سفينةُ نوحٍ -عليه السلام-، ثم صارَت معروفةً للناسِ، وذكرَ اللهُ هذا المعنى، ومن آياتِه: عدَّ السفنَ آياتٍ، {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى:32] إنْ يشأْ يُسكن الريحَ فيظلَلْنَ رواكدَ على ظهرِه.

ثم هذا المعنى لا يقتصرُ، يعني الآيةُ والدلالاتُ على القدرةِ لا تقتصرُ على هذا، هذا من آياتِه، وآياتُ الله كثيرةٌ تشملُ أنواعَ المراكبِ الحيوانيةِ والمصنوعاتِ وغيرِها، كلُّها آياتٌ.

 

– القارئ : فَلَمَّا وَصَلتُ فِي الْكِتَابَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، ظَهَرَ لِي مَعْنًى لَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَرَفَ جَلَالَةَ كِتَابِ اللَّهِ وَبَيَانَهُ التَّامَّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لِلْأُمُورِ الْحَاضِرَةِ وَالْمَاضِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَأَنَّهُ يُذْكَرُ مَنْ كُلِّ مَعْنًى أَعْلَاهُ وَأَكْمَلُ مَا يَكُونُ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَكَانَتِ الْفُلْكُ مِنْ آيَاتِهِ تَعَالَى وَنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ، مِنْ حِينِ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِتَعَلُّمِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَمْ تَزَلْ مَوْجُودَةً فِي كُلِّ زَمَانٍ، إِلَى زَمَانِ الْمُوَاجَهِينَ بِالْقُرْآنِ.
فَلَمَّا خَاطَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقُرْآنِ، وَذَكَرَ حَالَةَ الْفُلْكِ، وَعَلِمَ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَكُونُ أَعْظَمَ آيَاتِ الْفُلْكِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِمْ، وَفِي غَيْرِ زَمَانِهِمْ، حِينَ يُعَلِّمُهُمْ صَنْعَةَ الْفُلْكِ الْبَحْرِيَّةِ الشِّرَاعِيَّة مِنْهَا وَالنَّارِيَّةِ، وَالْجَوِّيَّةِ السَّابِحَةِ فِي الْجَوِّ، كَالطُّيُورِ وَنَحْوِهَا

– الشيخ : عجيب!

– القارئ : وَالْمَرَاكِبِ الْبَرِّيَّةِ مِمَّا كَانَتِ الْآيَةُ الْعُظْمَى فِيهِ لَمْ تُوجَدْ إِلَّا فِي الذُّرِّيَّةِ، نَبَّهَ فِي الْكِتَابِ عَلَى أَعْلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ آيَاتِهَا فَقَالَ: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أَيِ: الْمَمْلُوءِ رُكْبَانًا وَأَمْتِعَةً. فَحَمَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَجَّاهُمْ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي عَلَّمَهُمُ اللَّهُ بِهَا مِنَ الْغَرَقِ.

ولِهَذَا نَبَّهَهُمْ عَلَى نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ أَنْجَاهُمْ مِنَ الْغَرَقِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَال: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} أَيْ: لَا أَحَدَ يَصْرُخُ لَهُمْ فَيُعَاوِنُهُمْ عَلَى الشِّدَّةِ، وَلَا يُزِيلُ عَنْهُمُ الْمَشَقَّةَ، وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ مِمَّا هُمْ فِيهِ.

{إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}: حَيْثُ لَمْ نُغْرِقْهُمْ لُطْفًا بِهِمْ، وَتَمْتِيعًا لَهُمْ إِلَى حِينٍ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أَوْ يَسْتَدْرِكُونَ مَا فَرَطَ مِنْهُمْ.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُم} أَيْ: مِنْ أَحْوَالِ الْبَرْزَخِ وَالْقِيَامَةِ، وَمَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعُقُوبَاتِ، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَرْفَعُوا بِهِ رَأْسًا، وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ.
وَلِهَذَا قَال: {
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِين} وَفِي إِضَافَةِ الْآيَاتِ إِلَى رَبِّهِمْ، دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِهَا وَوُضُوحِهَا، لِأَنَّهُ مَا أَبْيَنُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَلَا أَعْظَمُ بَيَانًا. وَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ تَرْبِيَةِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ أَنْ أَوْصَلَ إِلَيْهِمُ الْآيَاتِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى مَا يَنْفَعُهُمْ، فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُم.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّه} أَيْ: مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي مَنَّ بِهِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ شَاءَ لَسَلَبَكُمْ إِيَّاهُ، {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} مُعَارِضِينَ لِلْحَقِّ، مُحْتَجِّينَ بِالْمَشِيئَةِ: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ } أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ {لَفِي ضَلالٍ مُبِين} حَيْثُ تَأْمُرُونَنَا بِذَلِكَ. وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِمُ الْعَظِيمِ، أَوْ تَجَاهُلِهِمُ الْوَخِيمِ، فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ لَيْسَتْ حُجَّةً لِعَاصٍ أَبَدًا، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى مَكَّنَ الْعِبَادَ وَأَعْطَاهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَقْدِرُونَ عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ، فَإِذَا تَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ كَانَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُمْ، لَا جَبْرًا لَهُمْ وَلَا قَهْرًا.

ويقولون عَلَى وَجْهِ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِعْجَالِ: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.

– الشيخ : لا لا، قِفْ على هذا.