الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الصافات/(10) من قوله تعالى {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} الآية 99 إلى قوله تعالى {وباركنا عليه وعلى إسحاق} الآية 113

(10) من قوله تعالى {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} الآية 99 إلى قوله تعالى {وباركنا عليه وعلى إسحاق} الآية 113

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الصَّافات

الدَّرس: العاشر

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات:99-113]

– الشيخ : أحسنْتَ، لا إله إلَّا الله، يخبرُ تعالى عن خليله إبراهيمَ أنَّه لما نجَّاه اللهُ من كيدِ قومِه نجَّاه من النارِ؛ {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات:97-98] قالَ عليه السلامُ: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} يريدُ الهجرةَ، أن يهاجرَ من أرضِه من العراق إلى البلاد المباركةِ، {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26]

{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} وأخبرَ تعالى عن دعائِهِ: {قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} يعني: ذريَّةً، يريدُ: هبْ لي من الصالحين ذريَّةً، قالَ الله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} هذا الصحيحُ أنَّ المرادَ به إسماعيل -عليه السلامُ- جدُّ نبيِّنا محمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- فنبيٌّنا -عليه الصلاة والسلامُ- هو من ذريَّةِ إسماعيل بن إبراهيم، وقد قالَ سبحانه وتعالى، أخبرَ عن دعاء إبراهيم وإسماعيل يقول تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا} [البقرة:127-129] هذه دعوةُ إبراهيمَ وإسماعيلَ {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] وقد أجابَ الله دعاءَهما، وبعثَ في ذريتهما خاتمَ النبيِّين وسيِّد المرسلين صلَّى الله عليه وسلَّم.

{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} كبرَ الشابُّ وصار يمشي مع والدِه رجلاً، {بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} سبحان الله، أذبحُك! هذا الغلامُ الَّذي طلبَ من ربِّه أن يهبَه له الآنَ يُؤمَرُ بذبحِه، فرؤيا الأنبياءِ رؤيا الأنبياء وحيٌ، ولهذا قالَ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} لا إله إلَّا الله، وليسَ العجبُ من الأبِ فقط بل من الابنِ كذلك: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} فكلاهما قد تلقَّيا أمرَ اللهِ بالصبر، تلقَّيا أمرَ الله بالصبرِ، {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} قالَ: إنْ شاءَ اللهُ، هذه فيها احتياطٌ واعتمادٌ على ربِّه لا بحوله ولا بقوَّته، {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} كما قال موسى -عليه السلامُ- للخضر: {سَتَجِدُنِي} {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69] {سَتَجِدُنِي} وهنا يقولُ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}

{فَلَمَّا أَسْلَمَا} يعني استسلمَا لأمرِ اللهِ، استسلمَا لأمرِ اللهِ، {وَتَلَّهُ} تلَّ إبراهيمُ إسماعيلَ، {تَلَّهُ لِلْجَبِينِ} يعني: يظهرُ -والله أعلمُ- أنَّه يعني معناهُ طرحَهُ؛ ليذبحَهُ، يعني الآن حصلَ العزمُ الصادقُ، عزم لا بالقلب فقط بل وبالفعل الظاهرِ، سبحانَ الله، أسلمَا استسلمَا للهِ، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} يعني: وقعَ على جبينِه خلاص ليذبحَه، إذاً الآلةُ موجودةٌ، السكينُ موجودةٌ، والعزمُ الصادقُ موجودٌ من الطرفين: مِن الأبِ والابنِ.

اللهُ تعالى نادى إبراهيمُ: {يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} الرؤيا الآن تأوَّلَت، هذا تأويلُها تحقَّقَتْ، لأنَّ المقصودَ هو صدقُ البذلِ وصدقُ الإقدامِ والصبرُ على أمر الله، فلمَّا تحقَّقَ العملُ رفعَ اللهُ ذلكَ عنه، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} خلاص صدّقَتْ الرؤيا، صدَّقَ الرؤيا بهذا الفعلِ.

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِين}، إي واللهِ بلاءٌ، يعني: ابتلاءٌ عظيمٌ بيِّنٌ، بلاءٌ بيِّنٌ عظيمٌ. ولمّا لم يذبحْه، اللهُ فداه، فدى إسماعيلَ بذبحٍ عظيمٍ، ذِبح، الذِّبح هو المذبوحُ، وما يُذبَحُ ذِبح، بذبحٍ عظيمٍ، جاءتْ الآثارُ أنَّ اللهَ أتى إبراهيم بكبشٍ؛ ليذبحَه فدىً لإسماعيل، ويكون هذا تصديقاً لرؤياه أو تأكيداً لصدق رؤياه، وصارَ هذا الذبحُ سنَّةً، سنَّة، سنَّةُ إبراهيمَ وهي الأضحيةُ، سمةُ إبراهيم وسنَّةُ سيِّدِ المرسلين محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، ابن الذبيحِ، الرسولُ ابنُ الذبيحِ، يقالُ له ابنُ الذبيحِ.

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} بلاءٌ عظيمٌ، الناسُ يعني كثير من الناسِ يشقُّ عليه الأضحية أن يذبحَ كبشاً يشتريه بكذا وكذا، هذا صارَ سنَّةً وفيه ابتلاءٌ، التكاليف، التكاليفُ الأوامرُ والشرائعُ هي ابتلاءٌ للعباد، يتبيَّنُ من يمتثل ويطيع ويستجيب ويبذل، ومن يبخلُ، {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38]

{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} وش بعدها؟

– القارئ : {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}

– الشيخ : {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} مثل ما قالَ في نوحٍ: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافَّات:78-79] يعني: أنَّه يُسلَّمُ عليه، كلَّما يُذكَرُ عليه السلام، {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} عليه السلامُ، {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ما فعلَه إبراهيمُ هو من أعظمِ الإحسانِ، إحسانُ امتثالٍ صادقٍ، أيُّ إحسانٍ، امتثالٌ صادقٌ لأمرٍ هو غايةٌ في المشقَّةِ، {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وإسماعيلُ المعروفُ أنَّه ولدٌ لهاجر، الأمةُ الَّتي وهبتْ لسارّة فوهبتْها لإبراهيمَ -عليه السلامُ-.

وقالَ الله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} هذا ابنٌ آخرُ من زوجتِه سارّة، {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} قالَ المفسِّرونَ: المرادُ بشارتُه نعم، بشَّرَهُ بإسحاقَ نبيَّاً، والبشارةُ بإسحاقَ جاءتْ وذُكِرَتْ في القرآن في مواضعَ، وهو المرادُ بقوله تعالى: {وَبَشَّرُوهُ} يعني: الملائكة، {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28] {بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} وفي آياتٍ أخرى كما في سورةِ الذاريات وفي سورةِ هود، {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] فالمُبشَّر به في سورة الذاريات، وفي سورة هود هو إسحاقُ، وكذلك في سورةِ الحجرِ، أمَّا المُبشَّر به في هذه الآيات من سورة الصافات وهو الغلامُ الموصوفُ بالحلم: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} فالعليمُ في الآيات الأخرى هو إسحاقُ، والحليمُ في هذه الآيةِ، والحلمُ يُنبِئُ عن الصبرِ، وقد ظهرَ حلمُه وصبرُه باستقباله أمرَ اللهِ بالطاعة والانقيادِ التَّامِّ.

{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} ذريَّاتُ الأنبياءِ منهم ومنهم، ليسَ كلُّ من كان من ذريَّة الأنبياءِ يكونُ صالحاً، هذا نوحٌ -عليه السلامُ- من ذريَّتِه من صلبِه، من صلبِه، خرجَ ابنُه الكافرُ الَّذي حزنَ عليه نوحٌ -عليه السلامُ-، {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:42-43] وشقَّ على نوحٍ -عليه السلامُ- هلاكَ ابنه هذا مع الهالكين و…، {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]

المقصودُ أنَّ هذهِ قصَّةُ إبراهيمَ معَ ابنه إسماعيل تضمَّنَت هذه الآيات وفيها من الفوائدِ الكثيرة ودلالات عظيمة، وذكرَها اللهُ تنويهاً بفضل خليلِه إبراهيمَ، ودعوةً لأتباعِه إلى الاقتداء به في الصبر وكمالِ الطاعةِ.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-: {وَ} لمَّا فعلُوا فيهِ هذا الفعلَ، وأقامَ عليهم الحجَّةَ، وأعذرَ منهم، {قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} أي: مهاجرٌ إليهِ، قاصدٌ إلى الأرضِ المباركةِ أرضِ الشَّامِ. {سَيَهْدِينِ} يدلُّني إلى ما فيهِ الخيرُ لي، مِن أمرِ ديني ودنياي، وقالَ في الآيةِ الأخرى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48]

{رَبِّ هَبْ لِي} ولداً يكونُ {مِنَ الصَّالِحِينَ} وذلكَ عندَ ما أيسَ مِن قومِهِ، ولم يرَ فيهم خيراً، دعا اللهُ أنْ يهبَ لهُ غلاماً صالحاً، ينفعُ اللهَ بهِ في حياتِهِ، وبعدَ مماتِهِ، فاستجابَ اللهُ لهُ وقالَ: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} وهذا إسماعيلُ -عليهِ السَّلامُ- بلا شكٍّ، فإنَّهُ ذكرَ بعدَهُ البشارةَ بإسحاقَ، ولأنَّ اللهَ تعالى قالَ في بشراهُ بإسحاقَ {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] فدلَّ على أنَّ إسحاقَ غيرَ الذَّبيحِ، ووصفَ اللهُ إسماعيلَ -عليهِ السَّلامُ- بالحلمِ، وهوَ يتضمَّنُ الصَّبرَ، وحسنَ الخلقِ، وسعةَ الصَّدرِ والعفوِ عمَّن جنى.

{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي: أدركَ أنْ يسعى معَهُ، وبلغَ سنَّاً يكونُ في الغالبِ، أحبُّ ما يكونُ لوالديهِ، قد ذهبَتْ مشقَّتُهُ، وأقبلَتْ منفعتُهُ، فقالَ لهُ إبراهيمُ -عليهِ السَّلامُ-: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} أي: قد رأيْتُ في النَّومِ والرُّؤيا، أنَّ اللهَ يأمرُني بذبحِكَ، ورؤيا الأنبياءِ وحيٌ {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} فإنَّ أمرَ اللهِ تعالى، لا بدَّ مِن تنفيذِهِ، فـ{قَالَ} إسماعيلُ صابراً محتسباً، مُرضياً لربِّهِ، وبارَّاً بوالدِهِ: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} أي: امضِ لِما أمرَكَ اللهُ {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} أخبرَ أباهُ أنَّهُ موطِّنٌ نفسَهُ على الصَّبرِ، وقرنَ ذلكَ بمشيئةِ اللهِ تعالى، لأنَّهُ لا يكونُ شيءٌ بدونِ مشيئةِ اللهِ.

{فَلَمَّا أَسْلَمَا} أي: إبراهيمُ وابنُهُ إسماعيلُ، إبراهيمُ جازماً بقتلِ ابنِهِ وثمرةِ فؤادِهِ، امتثالاً لأمرِ ربِّهِ، وخوفاً مِن عقابِهِ، والابنُ قد وطَّنَ نفسَهُ على الصَّبرِ، وهانَتْ عليهِ في طاعةِ ربِّهِ، ورضا والدِهِ، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي: تلَّ إبراهيمُ إسماعيلَ على جبينِهِ، ليضجعَهُ فيذبحَهُ، وقد انكبَّ لوجهِهِ، لئلَّا ينظرَ وقتَ الذَّبحِ إلى وجهِهِ

– الشيخ : ما ندري هذا يحتاجُ إلى… اللهُ أعلمُ

– القارئ : {وَنَادَيْنَاهُ} في تلكَ الحالِ المزعجةِ، والأمرِ المدهشِ: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ} أي: قد فعلْتَ ما أُمِرْتَ بهِ، فإنَّكَ وطَّنْتَ نفسَكَ على ذلكَ، وفعلْتَ كلَّ سببٍ، ولم يبقَ إلَّا إمرارُ السِّكينِ على حلقِهِ {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في عبادتِنا، المقدِّمينَ رضانا على شهواتِ أنفسِهم.

{إِنَّ هَذَا} الَّذي امتحنَّا بهِ إبراهيمَ -عليهِ السَّلامُ- {لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} أي: الواضحُ، الَّذي تبيَّنَ بهِ صفاءُ إبراهيمَ، وكمالُ محبَّتِهِ لربِّهِ وخلَّتِهِ، فإنَّ إسماعيلَ -عليهِ السَّلامُ- لمَّا وهبَهُ اللهُ لإبراهيمَ، أحبَّهُ حبَّاً شديداً، وهوَ خليلُ الرَّحمنِ، والخلَّةُ أعلى أنواعِ المحبَّةِ، وهوَ منصبٌ لا يقبلُ المشاركةَ ويقتضي أنْ تكونَ جميعُ أجزاءِ القلبِ متعلِّقةً بالمحبوبِ، فلمَّا تعلَّقَتْ شعبةٌ مِن شعبِ قلبِهِ بابنِهِ إسماعيلَ، أرادَ تعالى أنْ يصفيَ وُدَّهُ ويختبرَ خلَّتَهُ، فأمرَهُ أنْ يذبحَ مَن زاحمَ حبُّهُ حبَّ ربِّهِ، فلمَّا قدَّمَ حبَّ اللهِ، وآثرَهُ على هواهُ، وعزمَ على ذبحِهِ، وزالَ ما في القلبِ مِن المزاحمِ، بقيَ الذَّبحُ لا فائدةَ فيهِ، فلهذا قالَ: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي: صارَ بدلَهُ ذِبحٌ مِن الغنمِ عظيمٌ، ذبحَهُ إبراهيمُ، فكانَ عظيماً مِن جهةِ أنَّهُ كانَ فداءً لإسماعيلَ، ومِن جهةِ أنَّهُ مِن جملةِ العباداتِ الجليلةِ، ومِن جهةِ أنَّهُ كانَ قرباناً وسنَّةً إلى يومِ القيامةِ.

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} أي: وأبقيْنا عليهِ ثناءً صادقاً في الآخرينَ

– الشيخ : ويمكن أن يكون أيضاً يعني كلّ ما ذُكِرَ من العِظمِ المعنويِّ، ويمكن أن يكونَ عظيماً في ذاتِه وفي جسمِه، يعني ذبحٌ عظيمٌ، يعني يكونُ سميناً كبيرَ الحجم، يمكن أن يكون … {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}

 

– القارئ : كما كانَ في الأوَّلينَ، فكلُّ وقتٍ بعدَ إبراهيمَ -عليهِ السَّلامُ-، فإنَّهُ فيهِ محبوبٌ معظَّمٌ مثنىً عليهِ.

{سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} أي: تحيَّةٌ عليهِ كقولِهِ: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59]

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في عبادةِ اللهِ، ومعاملةِ خلقِهِ، أنْ نفرِّجَ عنهم الشَّدائدَ، ونجعلَ لهم العاقبةَ، والثَّناءَ الحسنَ.

{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} بما أمرَ اللهُ بالإيمانِ بهِ، الَّذينَ بلغَ بهم الإيمانُ إلى درجةِ اليقينِ، كما قالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75]

{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} هذهِ البشارةُ الثَّانيةُ بإسحاقَ، الَّذي مِن ورائِهِ يعقوبُ، فبشَّرَ بوجودِهِ وبقائِهِ، ووجودِ ذريَّتِهِ، وكونِهِ نبيَّاً مِن الصَّالحينَ، فهيَ بشاراتٌ متعدِّدةٌ.

{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} أي: أنزلْنا عليهما البركةَ، الَّتي هيَ النُّموُ والزِّيادةُ في علمِهما وعملِهما وذريَّتِهما، فنشرَ اللهُ مِن ذريَّتِهما ثلاثَ أممٍ عظيمةٍ: أمَّةُ العربِ مِن ذريَّةِ إسماعيلَ، وأمَّةُ بني إسرائيلَ، وأمَّةُ الرُّومِ مِن ذريَّةِ إسحاقَ.

– الشيخ : ما أدري والله، اللهُ أعلمُ، كأنَّ في هذا، كأنَّ ذريَّة يعقوب هم ذريّةُ إسحاق، كما يقولُ اللهُ ليوسف: {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ … إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف:6] وليسَ عندنا دليلٌ على أنَّ إسحاقَ له ذريَّةٌ سوى يعقوب، اللهُ أعلمُ ما ندري، الشيخ، فلا أدري هل ذكر… ولا شيء من… لا إله إلَّا الله

– القارئ : {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} أي: منهم الصَّالحُ والطَّالحُ، والعادلُ والظَّالمُ الَّذي تبيَّنَ ظلمُهُ، بكفرِهِ وشركِهِ، ولعلَّ هذا مِن بابِ دفعِ الإيهامِ، فإنَّهُ لمَّا قالَ: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} اقتضى ذلكَ البركةَ في ذريَّتِهما، وأنَّ مِن تمامِ البركةِ، أنْ تكونَ الذُّريَّةُ كلُّهم مُحسِنينَ، فأخبرَ اللهُ تعالى أنَّ منهم محسناً وظالماً، واللهُ أعلمُ.

– الشيخ : اللهُ المستعانُ

– طالب: أحسن الله إليك يا شيخ: تسميةُ الرسولِ -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- ابن الذبيحَين

– الشيخ : هذا له قصَّة مع… يعني كذلك والدُ النبيِّ -عليه الصلاة والسلامُ- قد تعرَّضَ للذبح على يدِ جدِّه عبد المطَّلب، وله قصَّةٌ في السيرة، له قصَّةٌ، لأنَّ عبدَ المطَّلب نذرَ أنْ يذبحَ أحدَ أولاده فوقعَت القرعةُ على والدِ الرسول -عليه الصلاة والسلام- ففداهُ بمائة بدنةٍ.