بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الصَّافات
الدَّرس: الرَّابع عشر
*** *** ***
– القارئ : عفا الله عنك، أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيمِ:
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُون * أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:149-160]
– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، الحمدُ للهِ هذا السياقُ إلى الكلامِ في شأنِ المشركين، في أولِ السورةِ ذكرَ -سبحانه وتعالى- مِن أقوالِ الكفرةِ والمشركين إنكارُ البعثِ: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ * بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُون * وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات:11-18]
لكن هنا تضمَّنتْ هذه الآياتُ الكلامَ في أمرٍ آخرٍ مِن ضلالِ المشركين وهو نسبةُ الولدِ إلى اللهِ وقولُهم: إنَّ الملائكةَ بناتُ الله {فَاسْتَفْتِهِمْ} اسألْهُم سؤالَ توبيخٍ وتقريعٍ {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} حتى لما نسبُوا لله -تعالى- الولدَ وهو -تعالى- لم يلدْ ولم يولدْ، نسبُوا إليه البناتِ معَ أنَّ البناتَ عندَهم مكروهاتٍ لا يختارونهنَّ لأنفسِهم {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} كما قال في الآية الاخرى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22] {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ}
{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُون} يعني: حضرُوا خلقَ اللهِ للملائكةِ حتى يقولوا أنَّهم إناثٌ؟ أنهم بناتٌ؟ سبحانَ اللهِ العظيم! سبحان الله! الحمد لله.
جمعُوا بين التنقُّصِ لربِّ العالمين بنسبةِ الولدِ الذي هو أدنى في نظرِهم وعندَهم، وافتَرُوا في شأنِ الملائكةِ ما لا علمَ لهمْ به {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} كما في الآية الأخرى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف:19] {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ}
{أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ}: مِنْ كَذِبِهِم {لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} [القلم:37]
{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعني: ليسَ لهم في هذا القولِ حجةٌ لا مِن عقلٍ ولا شرعٍ {لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ} كلُّها استفهاماتُ إنكارٍ وتوبيخٍ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} يعني: حجةٌ، لكم حجةٌ؟ {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} الِجنَّةُ: الجِنُّ، جاءَ عن بعضِ السلفِ أنَّ مِن أهلِ الجاهلية مَنْ يزعمُ أنَّ اللهَ صَاهَرَ سَرَواتِ الجِنِّ تعالى الله عَنْ قولِ الـمـُفترينَ والجاهلينَ علوَّاً كبيراً.
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا * وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} يعني: مُحْضَرُونَ في العذابِ {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُهُ به الجاهلونَ والمشركونَ والمـُفترون {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} فأولئكَ..، وهذا كما سيأتي في آخر السورة: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:180-181] فالـمُخلَصُون مِن عبادِ اللهِ مِنَ الرُّسُلِ وأتباعِهم هؤلاءِ هُم الذين يَصِفونَ اللهَ بما يليقُ بِه ويُنزهونَهُ عَن النقائصِ والعيوبِ، وإنما يصفُ اللهَ بالنقائصِ والعيوبِ الجاهلون والمفترون والـمُشركون.
تفسير السعدي:
– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ -رحمَه اللهُ تعالى- في تفسير قول الله تعالى:
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} الآيات.
يقولُ تعالى لنبيهِ محمدٍ صلى اللّه عليه وسلم: {فَاسْتَفْتِهِمْ} أيْ: اسألِ المشركينَ باللّهِ غيرَهُ، الذينَ عبدُوا الملائكةَ، وزعمُوا أنَّها بناتُ اللّهِ، فجمَعوا بينَ الشِّركِ باللّهِ، ووصفِهِ بما لا يليقُ بجلالِهِ، {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} أيْ: هذهِ قِسْمَةٌ ضِيزى، وقولٌ جائرٌ، مِن جهةِ جعلِهم الولدَ للّهِ تعالى، ومِن جهةِ جعلِهم أردأَ القِسمينِ وأخَسِّهِمَا لَه وهو البناتُ التي لا يرضونهنَّ لأنفسِهم، كمَا قالَ في الآيةِ الأخرى {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57] ومِن جهةِ جعلِهم الملائكةَ
– الشيخ : ومِن كراهتِهم للإناثِ ما ذكرَه الله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ} [النحل:58-59] وكانوا يقتلونَ البناتِ؛ خشيةَ العارِ، ويقتلونَ أولادَهم عموماً؛ خشيةَ الفقرِ، اللهمَّ لكَ الحمد، هكذا يتلاعبُ الشيطانُ بمن لمْ يتلقَّى ولمْ يقبلْ هدى الله.
– القارئ : ومِن جهةِ جعلِهم الملائكةَ بناتَ للّهِ، وحكمِهم بذلكَ.
قالَ تعالى في بيانِ كذبِهم: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} خَلَقَهُم؟ أيْ:
– الشيخ : خلْقَهم، شاهِدُونَ خَلْقَهُم.
– القارئ : أيْ ليسَ الأمرُ كذلكَ، فإنَّهم ما شهدُوا خلقَهم، فدلَّ على أنَّهم قالوا هذا القولَ بلا علمٍ، بل افتراءٌ على اللّهِ، ولهذا قالَ: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ} أيْ: كَذِبَهُم الواضحُ {لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}
{أَصْطَفَى} أي: اختارَ
– الشيخ : {أَصْطَفَى} فيها همزةُ استفهامٍ يعني: أأصطفى؟ أأصطفى؟ {أَصْطَفَى} الله {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}
– القارئ : {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكمُ الجائرُ {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وتُميِّزونَ هذا القولَ الباطلَ الجائرَ فإنَّكم لو تذكرْتُم لمْ تقولُوا هذا القولَ.
{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} أيْ: حُجَّةٌ ظاهرةٌ على قولِكم مِنْ كتابٍ أو رسولٍ، وكلُّ هذا غيرُ واقعٍ، ولهذا قال: {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فإنَّ مَن يقولُ قولاً لا يُقيمُ عليهِ حجةً شرعيةً فإنه كاذبٌ مُتعمِّدٌ أو قائلٌ على اللّهِ بلا علمٍ.
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} الآيات.
أي: جعلَ هؤلاءِ المشركونَ باللّهِ بينَ اللّهِ وبينَ الجِنَّةِ نسباً، حيثُ زعموا أنَّ الملائكةَ بناتُ اللّهِ، وأنَّ أمهاتِهم سَرَواتُ الجِنِّ، والحالُ أنَّ الجِنَّةَ قدْ علمتْ أنَّهم مُحضرونَ بينَ يدي اللّهِ، يُجازيهِم فهمْ عبادٌ أذِلَّاءٌ، فلو كانَ بينَهم وبينَه نسبٌ، لم يكونوا كذلكَ.
{سُبْحَانَ اللَّهِ} الملِكِ العظيمِ، الكاملِ الحليمِ، عَمَّا يصفُهُ به المشركونَ مِن كلِّ وصفٍ أوجبَهُ كُفرُهُم وشركُهمُ.
{إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} فإنَّه لمْ يُنَزِّهْ نفسَهُ عمَّا وصفوهُ بِه، لأنَّهم لمْ يصفوهُ إلا بما يليقُ بجلالِهِ، وبذلكَ كانوا مُخلَصِينَ.
قال الله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ}
– الشيخ : إلى هنا وقف
– القارئ : أحسنَ الله إليك.