الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الزمر/(2) من قوله تعالى {خلقكم من نفس واحدة} الآية 6 إلى قوله تعالى {إن تكفروا فإن الله غني عنكم} الآية 7
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(2) من قوله تعالى {خلقكم من نفس واحدة} الآية 6 إلى قوله تعالى {إن تكفروا فإن الله غني عنكم} الآية 7

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الزُّمَر

الدَّرس: الثَّاني

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيمِ:

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الزمر:6-7]

– الشيخ : لا إلهَ إلا الله، يقولُ سبحانه وتعالى مُذكِّرًا بمَبْدأ خَلْقِ الإنسانِ، وأنَّ أصلَ البشريةِ كلّها فردٌ واحدٌ، نفسٌ واحدةٌ، كلُّ هذه البشريةِ الحاضرةِ والماضيةِ والمُستقبلةِ كلُّها، كلُّها ترجعُ إلى أصلٍ واحدٍ وهو: آدمُ الذي خلقَهُ اللهُ مِن طينٍ {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}

{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ذكرَ اللهُ هذا المعنى في مواضعَ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] فهذانِ هما الأبوانِ الّذَين أخبرَنَا اللهُ عن قصةِ ابتلائِهِما بالشيطانِ. {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}

{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وهذه الثمانيةُ فصَّلها في سورةِ الأنعامِ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] {وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:144] هذه ثمانيةُ أزواجٍ يعني: أصنافٍ وأنواعٍ، فهذه بهيمةُ الأنعامِ، بهيمةُ الأنعامِ، أو الأنعامُ هي: الإبل، والبقر، والغنم، وهي ثمانية أزواجٍ، ثمانية أزواجٍ: مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ، مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، مِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ، مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ.

{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} خلقَ اللهُ هذه الأنعامَ؛ إنعامًا مِن اللهِ على عبادِهِ لما فيها مِن المنافعِ: منافعِ الأكلِ والشُّربِ والركوبِ والحَرثِ، هذه البهائمُ لها منافعُ {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:5-6] قالَ المفسرونَ: أنزلَها يعني: أنزلَها مِن ظهورِ الفحولِ ومِن بطونِ الإناثِ، كلُّه فيهِ نزولٌ، أنزلَها مِن ظهورِ الفحولِ ثمَّ أنزلَها مِن بطونِ الإناثِ {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}

{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} هذا هو الخَلْقِ، الذّريةُ -ذريةُ آدمَ-، يعني: آدمُ خلقَهُ اللهُ مِن طينٍ، وحواءُ خلقَها اللهُ مِن آدمَ مِنْ ضِلَعِهِ، أمَّا الباقي يُخلقُونَ في بطونِ الأمهاتِ {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}

{خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} نطفةٌ، ثمَّ نطفةٌّ تُخلَقُ عَلَقةً، ثمَّ العَلَقةُ تُخلقُ مُضْغَةً، والـمُضْغةُ تُخلقُ وتصيرُ عظمًا، والعظامُ تُكسَى لحمًا، كما فصَّلَ اللهُ ذلكَ في آياتٍ، كما في سورةِ المؤمنونِ، وفي سورةِ الحجِّ، وغيرهما، {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ}

{فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} الله أكبر، لا إلهَ إلا الله، قالوا: ظُلْمَةُ البَطْنِ، وظُلمَةُ الرَّحِمِ، وظُلمَةُ الـمَشِيْمَةِ، كلُّها طبقاتٌ، هذا الإنسانُ يتكوَّنُ ويتطوَّرُ أطوارًا في هذهِ الظلماتِ، ومِن وراءِ هذه الحواجزِ وهذه الأغْشِيَةِ التي تكونُ سَبَبًا لِحِفْظِهِ، ويأتيهِ الغِذاءُ، الغذاءُ يأتيه؛ لأنَّهُ مرتبطٌ بأُمِّهِ، ويأتيهِ الغذاءُ مِن دَمِها {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ}

{ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ} يعني: الفاعلُ لهذا هو ربُّكم {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ} نعم اقرأِ الآيةَ.

– القارئ : {لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}

– الشيخ : {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} هو ربُّ كلِّ شيءٍ، وهو الإلهُ الحقُّ، وهذا فيهِ إثباتُ الربوبيةِ -ربوبيتهِ تعالى للعبادِ- وإلهيتِهِ، فهو ربُّنا وإلهُنا {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:3] لا إله غيره.

{ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} كيفَ تُصْرَفُونَ عَن هذه الحقيقةِ الجَلِيَّةِ الواضحةِ؟ إنَّهُ لعَمَىً وضلالٌ مبينٌ! كيفَ تُصْرَفُونَ عَن الإيمانِ باللهِ؟ بربوبيتِهِ وإلهيتِهِ؟! {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}

{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنْكُمْ} اللهُ غنيٌّ {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12] لا يَضرُّهُ كفرُ الكافرينَ، ولا معصيةُ العاصينَ، كما لا تنفعُهُ طاعةُ الـمُطيعين، {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ}

{وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} هذا لكمْ، إذا شكرتُمُ اللهَ فَنَفْعُ ذلكَ عائدٌ إليكمْ {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} واللهُ يَرْضَى مِن عبادِهِ أنْ يشكروهُ على ما أَوْلاهُمْ وعلى ما أنْعَمَ بِه عليهمْ {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} كلٌّ إنَّما يحملُ وِزْرَ نفسِهِ، ولا يحملُ أحدٌ وِزْرَ أحدٍ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} النهايةُ: الرجوعُ إلى اللهِ {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.

 

 (تفسيرُ السعديّ):

– القارئ : بسمِ الله الرحمنِ الرحيم، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمن السَّعديّ -رحمَه الله تعالى- في تفسيرِ قولِ الله تعالى:

{لَوْ أَرَادَ الله أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} الآية.

أيْ: {لَوْ أَرَادَ الله أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} كمَا زعمَ ذلكَ مَنْ زعمَهُ مِن سُفهاءِ الخلقِ {لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشَاءُ} أيْ: لَاصْطَفَى مِن مخلوقاتِهِ التي يَشاءُ اصطفاءَهُ، واختصَّهُ لنفسِهِ وجعلَهُ بمنزلةِ الولدِ، ولمْ يكنْ حاجةٌ إلى اتخاذِ الصاحبةِ.

{سُبْحَانَهُ} عمَّا ظنَّهُ بِهِ الكافرونَ، أو نسبَهُ إليهِ الـملحدونَ.

– الشيخ : وإذا اصْطَفَى مِنْ خلقِهِ ولدًا يصيرُ ولداً؟ لا، يصير مخلوقاً، يصيرُ مخلوقاً مِن جملةِ المخلوقاتِ، لكنَّهُ مُصْطَفَىً ومُختارٌ ومُفضَّلٌ على غيرِه بس، ولّا هو مخلوقٌ، فيستحيلُ أنْ يكونَ للهِ ولدٌ، وجميعُ الموجودات خلقُهُ، هِيَ كلُّها مُلْكُهُ، فيمتنعُ أن يكونَ شيءٌ منها هو ولدُهُ، يعني الولدُ جزءٌ مِن والدِهِ، ولو أرادَ اللهُ أنْ يكونَ لَهُ ولدٌ أو يتخذَ ولدًا لكانَ غايةُ الأمرِ أنْ يَختارَ مِن مخلوقاتِهِ أحدًا أو ما شاءَ ليكونَ بمنزلةِ الولد

 

– القارئ : {سُبْحَانَهُ} عمَّا ظنَّهُ بِه الكافرونَ، أو نسبَهُ إليهِ الـمُلحدونَ.

{هُوَ الله الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أيْ: الواحدُ في ذاتِهِ، وفي أسمائِهِ، وفي صفاتِهِ، وفي أفعالِهِ، فلا شبيهَ لَهُ في شيءٍ مِن ذلكَ ولا مماثلَ، فلو كانَ لَهُ ولدٌ لاقْتَضَى أنْ يكونَ شبيهاً لَهُ في وحدتِهِ؛ لأنَّهُ بعضُهُ وجزءٌ منه.

{الْقَهَّارُ} لجميعِ العالمِ العُلويِّ والسفليِّ، فلو كانَ لَهُ ولدٌ لمْ يكنْ مقهوراً، ولكانَ لَهُ إدلالٌ على أبيهِ ومناسبةٌ منه.

ووحدتُه تعالى وقهرُهُ متلازمانِ؛ فالواحدُ لا يكونُ إلا قَهَّاراً، والقَهَّارُ لا يكونُ إلا واحداً، وذلكَ ينفي الشِّركةَ لَهُ مِنْ كلِّ وجهٍ.

قال الله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ} الآيات.

يُخبِرُ تعالى أنَّه: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ} أيْ: بالحكمةِ والمصلحةِ، وليأمرَ العبادَ وينهاهُم، ويثيبَهُمْ ويعاقبَهُمْ.

{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} أي: يُدخِلُ كلًّا منهما على الآخرِ، ويُحِلَّهُ مَحَلَّهُ، فلا يجتمعُ هذا وهذا، بلْ إذا أتى أحدُهما انعزلَ الآخرُ عَنْ سلطانِهِ.

{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} بتسخيرٍ مُنَظَّمٍ، وسَيرٍ مُقنَّنٍ {كُلٌّ} مِن الشمسِ والقمرِ {يَجْرِي} متأثراً عَن تسخيرِهِ تعالى {لأجَلٍ مُسَمًّى} وهو انقضاءُ هذه الدارِ وخرابُها، فَيُخربُ اللهُ آلاتَها وشمسَها وقمرَها، ويُنشئُ الخلقَ نشأةً جديدةً؛ ليستقرُّوا في دارِ القرارِ، الجنةُ أو النُّارُ.

{أَلا هُوَ الْعَزِيزُ} الذي لا يُغالَبُ، القاهرُ لكلِّ شيءٍ، الذي لا يستعصي عليهِ شيءٌ، الذي مِنْ عِزَّتِهِ أوجدَ هذهِ المخلوقاتِ العظيمةِ، وسخَّرَها تجري بأمرِهِ {الْغَفَّارُ} لذنوبِ عبادِهِ التوابينَ المؤمنينَ، كما قالَ تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] الغفارُ لمنْ أشركَ بِهِ بعدَ مَا رأى مِن آياتِهِ العظيمةِ، ثمَّ تابَ وأنابَ.

ومِنْ عزَّتِهِ أنْ {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} على كَثْرَتِكُم وانتشارِكُم في أنحاءِ الأرضِ، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وذلك ليَسْكُنَ إليها وتَسْكُنَ إليهِ، وتتمَّ بذلكَ النعمةُ {وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ} أي: خَلَقَهَا بِقَدَرٍ نازلٍ منه؛ رحمةً بكم.

قالَ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وهِيَ التي ذكرَهَا في سورةِ الأنعامِ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:144]

وخَصَّهَا بالذِّكْرِ معَ أنَّه أنزلَ لـِمصالحِ عبادِهِ مِن البهائمِ غيرَها؛ لكثرةِ نفعِها، وعمومِ مصالحِها، ولشرفِها، ولاختصاصِها بأشياءَ لا يصلحُ غيرُها، كالأضحيةِ والهدي، والعقيقةِ، ووجوبِ الزكاةِ فيها، واختصاصِها بالدِّيَةِ.

ولـمَّا ذكرَ خلقَ أبينَا وأُمِّنَا، ذكرَ ابتداءَ خلقِنَا، فقالَ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} أي: طَوراً بعدَ طَورٍ، وأنتمْ في حالٍ لا يَدُ مخلوقٍ تمسُّكُم، ولا عينٌ تنظرُ إليكمْ، وهو قدْ رَبَّاكُم في ذلكَ المكانِ الضيقِ {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} ظلمةُ البطنِ، ثمَّ ظلمةُ الرَّحِمِ، ثمَّ ظُلمةُ المشيمةِ، {ذَلِكُمْ} الذي خلقَ السماواتِ والأرضَ، وسخَّرَ الشمسَ والقمرَ، وخلقَكُم وخلقَ لكمُ الأنعامَ والنَّعَمَ {الله رَبُّكُمْ} أي: المألوهُ المعبودُ، الذي رَبَّاكُم ودَبَّرَكُم، فكمَا أنَّهُ الواحدُ في خلقِهِ وتربيتِهِ لا شريكَ لَهُ في ذلكَ، فهو الواحدُ في ألوهيتِهِ، لا شريكَ لَهُ، ولهذا قالَ:

{لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} بعدَ هذا البيانِ أتبعَه ببيانِ استحقاقِهِ تعالى للإخلاصِ وحدَهُ دونَ عبادةِ الأوثانِ التي لا تُدَبِّرُ شيئًا، وليسَ لها مِن الأمرِ شيءٌ.

{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنْكُمْ} لا يضرُّهُ كفركُمْ، كما لا ينتفعُ بطاعتِكُمْ، ولكن أمرُهُ ونهيُهُ لكمْ مَحْضُ فضلِهِ وإحسانِهِ عليكمْ.

{وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} لكمالِ إِحْسانِهِ بهمْ، وعِلْمِهِ أنَّ الكفرَ يُشقيهِمْ شقاوةً لا يَسعدونَ بعدَهَا، ولأنَّهُ خلقَهُم لعبادتِهِ، فهِيَ الغايةُ التي خَلَقَ لها الخَلْقَ، فلا يَرضى أنْ يَدَعُوا ما خَلقَهُم لأجلِهِ.

{وَإِنْ تَشْكُرُوا} للهِ تعالى بتوحيدِهِ، وإخلاصِ الدينِ لَهُ {يَرْضَهُ لَكُمْ} لرحمتِهِ بكمْ، ومحبتِهِ للإحسانِ عليكمْ، ولِفِعْلِكُم ما خلقَكُم لأجلِهِ.

وكمَا أنَّهُ لا يتضرَّرَ بشِركِكُم ولا ينتفعُ بأعمالِكُم وتوحيدِكُم، كذلكَ كلُّ أحدٍ منكمْ لَهُ عملُهُ، مِن خيرٍ وشَرٍّ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} في يومِ القيامةِ {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} إخبارًا أحاطَ بِهِ علمُهُ، وجَرَى عليهِ قلمُهُ، وكَتَبَتْهُ عليكمْ الحَفَظَةُ الكِرَامُ، وشهدَتْ بِه عليكُمْ الجوارحُ، فيُجازي كلًّا منكمْ بما يَسْتَحِقُّهُ.

{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أيْ: بِنَفْسِ الصُّدورِ، وما فيها مِن وصفِ بِرٍّ أو فجورٍ، والمقصودُ مِن هذا الإخبارُ بالجزاءِ بالعَدْلِ التامِّ.

{وإذا مسَّ الإنسان}

– الشيخ : نعم تفضَّل بعده.