بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الزُّمَر
الدَّرس: الثَّالث
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم:
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ * أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:8-10]
– الشيخ : إلى هنا، لا إلهَ إلَّا الله
يذكرُ الله سبحانَه وتعالى في هذهِ الآيات؛ حالَ الإنسانِ المؤمن والكافرِ، أو الكافر والمؤمن {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} وهذهِ حالُ الكافرِ ولهذا قالَ: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} وكذلكَ يُشبهُ ذلك بعضَ المسلمين، لأنَّ من المسلمين مَنْ يُشبه هذهِ الحال، إذا مسَّهُ الضرُّ والضيقُ تضرَّعَ ولجأَ إلى الله، وإذا أنعمَ الله عليه أعرضَ وكفرَ وغفلَ وفرَّطَ، لكن الأصل في هذا: هو الكافر. وَمنَ المُسلمين من تُشبه حالُه حالَ الكافرِ، وإنْ لم يكنْ مثلَه {إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} ينسى ما كانَ يدعُو اللهَ إليه {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}
ثمَّ يذكرُ حالَ المؤمنِ الذي هو على ضدِّ حالِ هذا الإنسان: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} يعني: هل يستوي هذا وهذا؟!، هذانِ ضدَّان، ولهذا قالَ بعدَها: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} القانتُ لربِّه الخائفُ الرَّاجي، هذا هو الذي يعلمُ، هذا هوَ ذو العلمِ والبصيرةِ، والآخرُ هو الظالمُ الجاهلُ، هل يستوي هذان؟ هل يستوي هذَان؟ لا يستويَان. {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} أولي الألبابِ والبصائرِ والعقولِ هم الذين يتذكرون، ويكون لديهم فُرقان، يكون عندَهم فُرقانٌ بين الخيرِ والشرِّ، بينَ أعداءِ اللهِ وأولياءِ الله، بين المُحسنين والمُسِيئين، بينَ الشَّاكرين والكافِرين، بينَ المؤمنين والكفار {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}
{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} هذا أمرٌ من الله لنبيِّه أنْ يُوجِّهَ للمؤمنين هذه الوصيةَ {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} الذين أحسنُوا في هذهِ الدنيا، آمنُوا وعملُوا الصالحات، وأحسنوا العملَ للهِ، وأخلَصُوا دينَهم لله، وأحسَنُوا إلى عبادِ اللهِ لهم حسنةٌ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} ثم قال تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فأرضُ اللهِ واسعةٌ، فمن ضاقَتْ به أرضٌ ولم يتمكَّن من القيامِ بأمرِ الله؛ فأرضُ اللهِ واسعةٌ، فيها مُنتَأى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا … وَسَعَةً} {يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا … وَسَعَةً} [النساء:100] {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56] كلُّ هذا فيهِ توجيهٌ للهجرةِ من البلدِ التي لا يستطيعُ العبدُ أنْ يُقيمَ فيها أمرَ الله، فليُهاجِرْ حتى ولو إلى بعضِ بلادِ الكفَّارِ، فإنَّ المسلمين في مكةَ لمَّا آذاهُم المُشركون هاجرُوا إلى أرضِ الحبشة، لأنَّ فيها ملكًا لا يُظلَمُ الناسُ في أرضِه.
هنا قالَ سبحانَه وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
(تفسيرُ السَّعدي)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمِين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، قالَ الشيخُ عبدُ الرحمن السعدي رحمَه الله تعالى في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ} الآية:
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كَرَمِهِ بِعَبْدِهِ وَإِحْسَانِهِ وَبِرِّهِ، وَقِلَّةِ شُكْرِ عَبْدِهِ، وَأَنَّهُ حِينَ يَمَسُّهُ الضُّرُّ، مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ، أَوْ وُقُوعٍ فِي كَرْبَةِ بَحْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُنْجِيهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ إِلَّا اللَّهُ، فَيَدْعُوهُ مُتَضَرِّعًا مُنِيبًا
– الشيخ : هذا ينطبقُ على حالِ المُشركين، المُشركين الذين يُقِرُّونَ باللهِ وبربوبيَّتِه، وأنَّه خالقُ السماواتِ والأرضَ، وأنَّه الذي يُغِيثُ المُستغِيثين، وهو الذي يُنزلُ المطرَ ويُحيي الأرضَ، وهوَ خالقُهم وخالقُ..، كما في الآياتِ الكثيرةِ، وأمَّا المُلحدون -والعياذُ بالله- الجاحدُون فهؤلاءِ في عمىً دائم، وفي ظلامٍ دامِسٍ، لا يهتدون ولا يُبصرون ولا يتذكَّرون ولا..، نسألُ اللهَ العافية. وإذا أصابَهم ما يُصيبُهم من الضرِّ والكروبِ ليس عندَهم إلَّا الجزع، حتى أنَّهم يلجؤُون في بعضِ الأحيانِ إلى الانتحارِ، ليسَ عندَه ملجأٌ إلَّا أن يستريحَ من هذهِ الحياة، فينتقلَ من حالِه السيئة إلى عذابِ الله وغضبِه.
– القارئ : وَيَسْتَغِيثُ بِهِ فِي كَشْفِ مَا نَزَلَ بِهِ وَيُلِحُّ فِي ذَلِكَ.
{ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ} اللَّهُ {نِعْمَةً مِنْهُ} بِأَنْ كَشْفَ مَا بِهِ مِنَ الضُّرِّ وَالْكُرْبَةِ، {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} أَيْ: نَسِيَ ذَلِكَ الضُّرَّ الَّذِي دَعَا اللَّهَ لِأَجْلِهِ، وَمَرَّ كَأَنَّهُ مَا أَصَابَهُ ضُرٌّ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى شِرْكِهِ.
{وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أَيْ: لِيُضِلَّ بِنَفْسِهِ، وَيُضِلَّ غَيْرَهُ، لِأَنَّ الْإِضْلَالَ فَرْعٌ عَنِ الضَّلَالِ، فَأَتَى بِالْمَلْزُومِ لِيَدُلَّ عَلَى اللَّازِمِ.
{قُلْ} لِهَذَا الْعَاتِي، الَّذِي بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} فَلَا يُغْنِيكَ مَا تَتَمَتَّعُ بِهِ إِذَا كَانَ الْمَآلُ النَّارَ.
{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205-207]
قالَ اللهُ تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} الآية:
هَذِهِ مُقَابَلَةٌ بَيْنَ الْعَامِلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ، وَبَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ، وَأَنَّ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ تَبَايُنُهَا، وَعَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا تَفَاوُتَهَا، فَلَيْسَ الْمُعْرِضُ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، الْمُتَّبِعُ لِهَوَاهُ، كَمَنْ هُوَ قَانِتٌ أَيْ: مُطِيعٌ لِلَّهِ بِأَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَأَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ أَوْقَاتُ اللَّيْلِ، فَوَصَفَهُ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ وَأَفْضَلِهِ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَذَكَرَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْخَوْفِ عَذَابُ الْآخِرَةِ، عَلَى مَا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَأَنَّ مُتَعَلِّقَ الرَّجَاءِ، رَحْمَةُ اللَّهِ، فَوَصَفَهُ بِالْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} رَبَّهُمْ وَيَعْلَمُونَ دِينَهُ الشَّرْعِيَّ وَدِينَهُ الْجَزَائِيَّ، وَمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْحِكَمِ {وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؟ لَا يَسْتَوِي هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ، كَمَا لَا يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالضِّيَاءُ وَالظَّلَامُ، وَالْمَاءُ وَالنَّارُ.
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} إِذَا ذُكِّرُوا {أُولُو الألباب} أَيْ: أَهْلُ الْعُقُولِ الزَّكِيَّةِ الذَّكِيَّةِ، فَهُمُ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ الْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، فَيُؤْثِرُونَ الْعِلْمَ عَلَى الْجَهْلِ، وَطَاعَةَ اللَّهِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، لِأَنَّ لَهُمْ عُقُولًا تُرْشِدُهُمْ لِلنَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ، بِخِلَافِ مَنْ لَا لُبَّ لَهُ وَلَا عَقْلَ، فَإِنَّهُ يَتَّخِذُ إِلَهَهُ هَوَاهُ.
قالَ اللهُ تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} الآية:
أَيْ: قُلْ مُنَادِيًا لِأَشْرَفِ الْخَلْقِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، آمِرًا لَهُمْ بِأَفْضَلِ الْأَوَامِرِ، وَهِيَ التَّقْوَى، ذَاكِرًا لَهُمُ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلتَّقْوَى، وَهُوَ رُبُوبِيَّةُ اللَّهِ لَهُمْ وَإِنْعَامُهِ عَلَيْهِمُ، الْمُقْتَضِي ذَلِكَ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّقُوهُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلتَّقْوَى، كَمَا تَقُولُ: أَيُّهَا الْكَرِيمُ تَصَدَّقْ، وَأَيُّهَا الشُّجَاعُ قَاتِلْ.
وَذَكَرَ لَهُمُ الثَّوَابَ الْمُنَشِّطَ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ {حَسَنَةٌ} وَرِزْقٌ وَاسِعٌ، وَنَفْسٌ مُطَمْئِنَةٌ، وَقَلْبٌ مُنْشَرِحٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}
{وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} إِذَا مُنِعْتُمْ مِنْ عِبَادَتِهِ فِي أَرْضٍ، فَهَاجِرُوا إِلَى غَيْرِهَا، تَعْبُدُونَ فِيهَا رَبَّكُمْ، وَتَتَمَكَّنُونَ مِنْ إِقَامَةِ دِينِكُمْ.
وَلَمَّا قَالَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} كَانَ لِبَعْضِ النُّفُوسِ مَجَالٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ أَنَّ النَّصَّ عَامٌّ، أَنَّهُ كُلُّ مَنْ أَحْسَنَ فَلَهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةٌ، فَمَا بَالُ مَنْ آمَنَ فِي أَرْضٍ يُضْطَهَدُ فِيهَا وَيُمْتَهُنُ، لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ، دَفَعَ هَذَا الظَّنَّ بِقَوْلِهِ: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} وَهُنَا بِشَارَةٌ نَصَّ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَوْلِهِ: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ) تُشِيرُ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَتَرْمِي إِلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ أَرْضَهُ وَاسِعَةٌ، فَمَهْمَا مُنِعْتُمْ مِنْ عِبَادَتِهِ فِي مَوْضِعٍ فَهَاجِرُوا إِلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ مُهَاجِرٍ، مَلْجَأٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَلْجَأُ إِلَيْهِ، وَمَوْضِعٌ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِ فِيهِ.
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ، الصَّبْرِ عَلَى أَقْدَارِ اللَّهِ الْمُؤْلِمَةِ فَلَا يَتَسَخَّطُهَا، وَالصَّبْرِ عَنْ مَعَاصِيهِ فَلَا يَرْتَكِبُهَا، وَالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا، فَوَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِينَ أَجَرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، أَيْ: بِغَيْرِ حَدٍّ وَلَا عَدٍّ وَلَا مِقْدَارٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِفَضِيلَةِ الصَّبْرِ وَمَحَلِّهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ مُعِينٌ عَلَى كُلِّ الْأُمُورِ. قال الله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ
– الشيخ : إلى هنا باركَ الله فيكَ، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.