الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الزمر/(6) من قوله تعالى {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها} الآية 23 إلى قوله تعالى {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} الآية 31

(6) من قوله تعالى {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها} الآية 23 إلى قوله تعالى {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} الآية 31

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الزُّمَر

الدَّرس: السَّادس

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ *  أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:23-31]

– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلا الله

يُذكِّرُ سبحانه وتعالى بنعمتِهِ ورحمتِهِ لعبادِهِ بإنزالِ القرآنِ العظيمِ المجيدِ، الذي هو أحسنُ الكلامِ {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} القرآنُ هو أَحْسَنُ الْحَدِيثِ، كان النبيٌّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ في خطبتِهِ: (إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ) {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} هو كلامُ ربِّ العالمينَ، فهو خيرُ الكلامِ، وأحسنُ الكلامِ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55] 

{كِتَابًا مُتَشَابِهًا} كتابٌ مكتوبٌ في أمِّ الكِتابِ، ومكتوبٌ في الصُّحُفِ التي في أيدِي الملائكةِ، فهو كتابٌ، {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} يعني: يُشبِهُ بعضُهُ بعضاً، قالَ المفسِّرون: يعني: يُشبِهُ بعضُهُ بعضاً في إحكامِهِ، يُشبِهُ بعضُهُ بعضاً يعني: يُصدِّقُ بعضُهُ بعضاً، ويَشهدُ بعضُهُ لبعضٍ، ويدلُّ بعضُهُ على بعضٍ في أخبارِهِ وفي أحكامِهِ {مُتَشَابِهًا}.

{مَثَانِيَ} تُثَنَّى فيهِ المعاني {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87] قيلَ: أنَّها سورةُ الفاتحةِ؛ لأنَّها تُثنَّى وتُقرأُ مرةً بعدَ مرةٍ.

{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} إذا سمعُوهُ أو تَلَوهُ تحصلُ لهمْ القُشْعَرِيرَةُ في جلودِهم، {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُم؛ خوفاً مِن ربهم، يخشونَ ربَّهم، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}.

{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} هذا القرآنُ هُدَى الله، كما قالَ تعالى في مواضعَ: {لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:77] {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} مِن عبادِه. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] اللهمَّ اهدِنَا بكتابِكَ، اللهمَّ اهدِنَا بكتابِكَ، اللهمَّ اهدِنَا بهذا الكتابِ، لا إله إلا الله.

{يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} لَهُ الحكمةُ البالغةُ، {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93]، لا إلهَ إلا الله. {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ}.

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} مَنْ يُضلَّهُ اللهُ فلا هادِيَ لَه، مَنْ يُضلَّهُ اللهُ فلا هادِيَ لَه، فإنَّ هدايةَ القلوبِ، وشرحَ الصدورِ لقبولِ الحقِّ هذا لا يَقدرُ عليهِ إلا اللهُ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [القصص:56]

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} فالمهتدونَ هم أهلُ العاقبةِ الحميدةِ، والفوزِ العظيمِ والسَّعادةِ الأبديةِ، والضالُّونَ على النَّقِيضِ مِن ذلكَ مصيرُهُم إلى الشَّقاءِ والعذابِ الأليمِ، ولهذا قالَ تعالى في ذِكْرِ مصيرِ الضالينَ الـمُعْرضِينَ عَن ذِكْرِ اللهِ: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني: أَهَذَا الذي يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كمَنْ أنْعَمَ اللهُ عليهِ بالسَّعادةِ والنَّعِيمِ الـمُقيمِ؟ لا يَسْتَويانِ، مِثْلَ ما ذكرَ اللهُ لَمَّا وصفَ ثوابَ المتقينَ قال: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ}؟ [محمد:15] يعني: أهَذا كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ؟ لا يَستَوونَ {أمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ..} [السجدة:19] 

{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} -أسألُ اللهَ العافيةَ- يعني: يَتَّقِي الْعَذَابَ بماذا؟ يَتَّقِيهِ، يَتَّقِي الْعَذَابَ بِوَجْهِهِ، الوَجْهُ الذي هو أهمُّ وأشرفُ عضوٍ في بَدَنِ الإنسانِ، وهو الذي تُتَّخَذُ له الوِقايةُ مِن الأخطارِ والأضرارِ والضَّرَباتِ والسِّهامِ، هذا الـمـُعَذَّبُ يَتَّقِي الْعَذَابَ بِوَجْهِهِ، هذا تعبيرٌ وتصويرٌ عظيمٌ في عِظَمِ الأمرِ وهَوْلِ الحالِ والواقعِ مِنْ حالِ الأشقياءِ! {يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}

{وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ} يُقال لهذا الـمُعذَّبِ: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} هكذا حالُ الأشقياءِ والكَفَرةِ أعداءِ الرسلِ الـمُكذِّبينَ، خِزْيٌ في الدنيا والآخرة، ماذا جَرَى على قومِ نوحٍ، وعادٍ، وثمودَ، وقومِ لوطٍ، وفرعونَ وقومِهِ؟ {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أكبرُ مِن عذابِ الدنيا {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم:33]

قال الله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [طه:13] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} هذا مَثَلٌ ضَربَهُ اللهُ للمُشْرِكِ والـمُوحِّدِ، فالـمُوَحِّدُ يَعبدُ إلهاً واحداً، مثَّلَهُ بعبدٍ ليسَ له إلا مالِكٌ واحدٌ، سَيِّدٌ، فهو قائمٌ بأمرِهِ، وسيِّدُهُ مُكرِمٌ لَهُ، وآخرُ لَهُ مُلَّاكٌ، عددٌ، وهم مُتنازِعُونَ فيهِ، هذا يأمرُهُ، وهذا يأمرُهُ، فهم مُتَشَاكِسُونَ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}؟ لا يَسْتَوِيَانِ، لا يَسْتَوي مَنْ هو مملوكٌ لواحدٍ يَقُومُ بأمرِهِ ويُحسِنُ مُعاملتَهُ، وسيِّدُهُ يُحسِنُ إليهِ ويُكرمُهُ، وآخرُ لَهُ مُلَّاكٌ يَتَنَازَعُونَ فيهِ، كما يُقالُ: لا يَدْري مَنْ يُرضِي.

 

(تفسيرُ السَّعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ رحمَه اللهُ تعالى في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} الآية.

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كِتَابِهِ الَّذِي نَزَّلَهُ أَنَّهُ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ هَذَا الْقُرْآنُ، وَإِذَا كَانَ هُوَ الْأَحْسَنُ عُلِمَ أَنَّ أَلْفَاظَهُ أَفْصَحُ الْأَلْفَاظِ وَأَوْضَحُهَا، وَأَنَّ مَعَانِيَهُ أَجَلُّ الْمَعَانِي؛ لِأَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، {مُتَشَابِهًا} فِي الْحُسْنِ وَالِائْتِلَافِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، حَتَّى إِنَّهُ كُلَّمَا

– الشيخ : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:82] يعني اختلافاً، تناقُضَاً وتعارُضَاً، وقد بَرَّأَ اللهُ كتابَهُ مِن ذلك، فليسَ فيه تناقضٌ ولا اضطرابٌ ولا..، وما يحصلُ لبعضِ الأفهامِ مِن تعارضٍ في بعضِ الآياتِ، يقولون: "هذهِ الآياتُ مُتعارضةٌ"، لكن ليسَتْ متعارضةً في الحقيقةِ، بل هي مُتعارضةٌ في الظاهرِ، لا بدَّ مِن هذا القيدِ، هي متعارضةٌ في الظاهرِ، أو يَظهرُ بينَها التعارضُ، يظهر كذا، لكن هِي في الحقيقةِ لا تعارضَ بينها.

 

– القارئ : حَتَّى إِنَّهُ كُلَّمَا تَدَبَّرَهُ الْمُتَدَبِّرُ، وَتَفَكَّرَ فِيهِ الْمُتَفَكِّرُ رَأَى مِنِ اتِّفَاقِهِ حَتَّى فِي مَعَانِيهِ الْغَامِضَةِ، مَا يُبْهِرُ النَّاظِرِينَ وَيَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ، هَذَا الْمُرَادُ بِالتَّشَابُهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] فَالْمُرَادُ بِهَا الَّتِي تَشْتَبِهُ عَلَى فُهُومِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَزُولُ هَذَا الِاشْتِبَاهُ إِلَّا بِرَدِّهَا إِلَى الْمُحْكَمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فَجَعَلَ التَّشَابُهَ لِبَعْضِهِ، وَهُنَا جَعَلَهُ كُلَّهُ مُتَشَابِهًا أَيْ: فِي حُسْنِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} وَهُوَ سُوَرٌ وَآيَاتٌ، وَالْجَمِيعُ يُشْبِهُ بَعْضَهُ بَعْضًا كَمَا ذَكَرْنَا.

{مَثَانِيَ} أَيْ: تُثَنَّى فِيهِ الْقَصَصُ وَالْأَحْكَامُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَصِفَاتُ أهل الْخَيْرِ وَصِفَاتُ أهل الشَّرِّ، وَتُثَنَّى فِيهِ أَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتُهِ، وَهَذَا مِنْ جَلَالَتِهِ وَحُسْنِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ احْتِيَاجَ الْخَلْقِ إِلَى مَعَانِيهِ الْمُزَكِّيَةِ لِلْقُلُوبِ الْمُكَمِّلَةِ لِلْأَخْلَاقِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ لِلْقُلُوبِ، بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ لِسَقْيِ الْأَشْجَارِ، فَكَمَا أَنَّ الْأَشْجَارَ كُلَّمَا بَعُدَ عَهْدُهَا بِسَقْيِ الْمَاءِ نَقَصَتْ، بَلْ رُبَّمَا تَلَفَتْ، وَكُلَّمَا تَكَرَّرَ سَقْيُهَا حَسُنَتْ وَأَثْمَرَتْ أَنْوَاعَ الثِّمَارِ النَّافِعَةِ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ يَحْتَاجُ دَائِمًا إِلَى تَكَرُّرِ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ،

– الشيخ : اللهمَّ انْفَعْنَا بِهِ

– القارئ : وَأَنَّهُ لَوْ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مَرَّةً وَاحِدَةً فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ مَوْقِعًا وَلَمْ تَحْصُلِ النَّتِيجَةُ مِنْهُ، وَلِهَذَا سَلَكْتُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ هَذَا الْمَسْلَكَ الْكَرِيمَ، اقْتِدَاءً بِمَا هُوَ تَفْسِيرٌ لَهُ، فَلَا تَجِدُ فِيهِ الْحَوَالَةَ عَلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، بَلْ كُلُّ مَوْضِعٍ تَجِدُ تَفْسِيرَهُ كَامِلَ الْمَعْنَى، غَيْرَ مُرَاعٍ لِمَا مَضَى مِمَّا يُشْبِهُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمَوَاضِعِ يَكُونُ أَبْسَطَ مِنْ بَعْضٍ وَأَكْثَرَ فَائِدَةً، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْقَارِئِ لِلْقُرْآنِ، الْمُتَدَبِّرِ لِمَعَانِيهِ، أَنْ لَا يَدَعَ التَّدَبُّرَ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَنَفْعٌ غَزِيرٌ.

وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ بِهَذِهِ الْجَلَالَةِ وَالْعَظَمَةِ، أَثَّرَ فِي قُلُوبِ أُولِي الْأَلْبَابِ الْمُهْتَدِينَ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّخْوِيفِ وَالتَّرْهِيبِ الْمُزْعِجِ، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ: عِنْدَ ذِكْرِ الرَّجَاءِ وَالتَّرْغِيبِ، فَهُوَ تَارَةٌ يُرَغِّبُهُمْ لِعَمَلِ الْخَيْرِ، وَتَارَةً يُرَهِّبُهُمْ مِنْ عَمَلِ الشَّرِّ.

{ذَلِكَ} الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْقُرْآنِ فِيهِمْ {هُدَى اللَّهِ} أَيْ: هِدَايَةٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَيْهِمْ، {يَهْدِي بِهِ} أَيْ: بِسَبَبِ ذَلِكَ {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ} أَيِ: الْقُرْآنُ الَّذِي وَصَفْنَاهُ لَكُمْ {هُدَى اللَّهِ} الَّذِي لَا طَرِيقَ يُوَصِّلُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا مِنْهُ {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} مِنْ عِبَادِهِ مِمَّنْ حَسُنَ قَصْدُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:16]

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ يُوَصِّلُ إِلَيْهِ إِلَّا تَوْفِيقُهُ، وَالتَّوْفِيقُ لِلْإِقْبَالِ عَلَى كِتَابِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْهُدَى، وَمَا هُوَ إِلَّا الضَّلَالُ الْمُبِينُ وَالشَّقَاءُ.

قال الله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآيات

– الشيخ : أعوذُ بالله

– القارئ : أَيْ: هل يَسْتَوِي هَذَا الَّذِي هَدَاهُ اللَّهُ، وَوَفَّقَهُ لِسُلُوكِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ لِدَارِ كَرَامَتِهِ، كَمَنْ كَانَ فِي الضَّلَالِ وَاسْتَمِرَّ عَلَى عِنَادِهِ حَتَّى قَدِمَ الْقِيَامَةَ، فَجَاءَهُ الْعَذَابُ الْعَظِيمُ فَجَعَلَ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، وَأَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الْعَذَابِ يُؤَثِّرُ فِيهِ، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ سُوءَ الْعَذَابِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ غُلَّتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ؟

{وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ} أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}.

{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مِنَ الْأُمَمِ كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ {فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} جَاءَهُمْ فِي غَفْلَةٍ أَوَّلَ نَهَارٍ، أَوْ هُمْ قَائِلُونَ.

{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ} بِذَلِكَ الْعَذَابِ {الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فَافْتَضَحُوا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ خَلْقِهِ {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. فَلْيَحْذَرْ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُقَامِ عَلَى التَّكْذِيبِ، فَيُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ مِنَ التَّعْذِيبِ.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ}

– الشيخ : حَسْبُكَ.