الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الزمر/(9) من قوله تعالى {الله يتوفى الأنفس} الآية 42 إلى قوله تعالى {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالأخرة} الآية 45
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(9) من قوله تعالى {الله يتوفى الأنفس} الآية 42 إلى قوله تعالى {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالأخرة} الآية 45

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الزُّمَر

الدَّرس: التَّاسع

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ:

اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:42-45]

– الشيخ : إلى هنا، سبحان الله، لا إله إلا الله.

يُخبِرُ سبحانه وتعالى عَن تصرُّفِهِ في نفوسِ العِباد، فهوَ خالقُها ومالكُها ومُدبِّرُهَا، النفوسُ، نفوسُ العبادِ -أرواحُهم-، فهو الذي يُخبر أنه يَتَوفَّاها إمَّا بالموتِ وإمَّا بالنومِ كلٌّ منهما تَوَفٍّ {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [يونس:104] وفي النوم يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60] يَتَوفَّاها، يستخرجُها مِن أبدانِها، فالأرواحُ تُفارِقُ الأبدانَ لكن على وجهينِ، الأرواحُ مِن مخلوقاتِ اللهِ العظيمةِ التي تخفى حقيقتُها على الخلقِ، لها شأنٌ، الروح لها شأنٌ، هي قِوامُ الأبدانِ، هي التي بها الحياة، يحصلُ بوجودِها في الأبدانِ الحِسُّ والحركةُ، لا إله إلا الله.

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} يتوفَّاها فِي مَنَامِهَا {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} يتوفَّاها فِي مَنَامِهَا {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}

{فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى} يمسكُ التي..، لا تعودُ، لا تعودُ إلى البدنِ إلا حينَ تُعَادُ الأرواحُ إلى الأبدانِ، {وَيُرْسِلُ الأُخْرَى} يُرسلُها فيستيقظُ الإنسانُ، يُرسلُها فيستيقظُ، ومما يشهدُ لهذا المعنى ما جاءَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن الذِّكرِ عندَ النومِ والاضطجاعِ يقول: (بِاسمِكَ اللَّهُمَّ وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا، فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ)

هذا فيهِ التصريحُ بالإمساكِ والإرسالِ نظيرَ ما في هذه الآيةِ، (بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا)، فاللهُ هو الذي يُحيي ويُميتُ، يُحيي ويُميتُ، أحيا الإنسان في مبدأِ خلقِه يومَ كان جنيناً فنُفخِتْ فيه الروحُ فصارَ حيًّا ثم مات، ثم يموتُ، ثم يُحيي، {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28]

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} {إِلَى أَجَلٍ}، وإلا فَسَتُفَارِقُ وتـُمْسَكُ.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يعني: النومُ واليقظةُ والموتُ والحياةُ مِن الآياتِ الدَّالَّةِ على قدرتِهِ تعالى وحكمتِهِ، سبحان الله! وهذه أمورٌ مُشاهَدَةٌ للناسِ، يُشاهدونَها، يشاهدون الأمواتَ، يشاهدون أحوالَهم بالنومِ، الإنسانُ إذا نام ليسَ هو الذي يُوقِظُ نفسَهُ لكن لِيَقَظَتِهِ أسبابٌ كالـمُنَبِّهَاتُ التي تُوقِظُ الإنسانَ.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا}؟ هذا فيهِ الإنكارُ على المشركين الذين اتخذوا مِن دونِ الله أنداداً يدعونَهم ويعبدونَهم ويزعمونَ أنَّهم شفعاءُ، أنهم يشفعونَ لهم {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} [يونس:18] {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فالشفاعةُ للهِ وحدَه، هو الذي يُشَفِّعُ مَن شاءَ، ويأذنُ بالشفاعةِ لِمَن شاءَ، يأذنُ بالشفاعة لِمَن شاءَ، فلا أحدٌ يشفع عندَه إلا بإذنه، والآياتُ في هذا معلومةٌ: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [النجم:26] {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23] {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}

ثمَّ يَذكرُ الله شيئاً مِن جهلِ المشركين وضَلالِهم وفسادِ عقولهِم {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} ينفرونَ مِن التوحيدِ، ولهذا لَمَّا قالَ لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (قُولوا لا إله إلا الله تُفْلِحُوا) نَفَروا من ذلك {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] يستكبرونَ ويَنْفِرُونَ.

{اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وهذا معلومٌ مِن حالِ البشرِ، كلُّ مَن اتخذَ معبوداً إذا ذُكِرَ معبودُهُ هذا تَهَلَّلَ واستبشَرَ وفرحَ؛ لأنه مُعَظَّمٌ في قلبِه، وإذا ذُكِرَ التوحيدُ، وذُكرَ أنه لا إله إلا الله انقبضَ واشمأزَّ وأَعْرَضَ هذا أمرٌ -أيضاً- مشاهدٌ أيضاً مِن حالِ المشركينَ. الظاهرٌ في مثلِ الرافضةِ والقُبوريَّةِ مِن الصوفيةِ أبداً يَفرحونَ بذكْرِ مُعظَّمِيهم ومعبودِيْهِم، وإذا ذُكِّرُوا أو دُعُوا للتوحيدِ انْقَبَضُوا وأعرضُوا واستكبروا ونَفَرُوا {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}.

 

(تفسير السعدي): 

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبِه أجمعين، قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعدي -رحمَه اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ -تعالى-: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الآيةَ.

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالتَّصَرُّفِ بِالْعِبَادِ، فِي حَالِ يَقَظَتِهِمْ وَنَوْمِهِمْ، وَفِي حَالِ حَيَاتِهِمْ وَمَوْتِهِمْ، فَقَالَ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} وَهَذِهِ الْوَفَاةُ الْكُبْرَى، وَفَاةُ الْمَوْتِ.

وَإِخْبَارُهُ أَنَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ وَإِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى نَفْسِهِ، لَا يُنَافِي أَنَّهُ قَدْ وَكَّلَ بِذَلِكَ مَلَكَ الْمَوْتِ وَأَعْوَانَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11] {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]

– الشيخ : يعني هذا التَّوفي بمشيئةِ اللهِ وأمرِهِ وتدبيرِهِ، والملائكةُ هم يُباشِرُونَ هذا، فيستخرجونَ الأرواحَ {وَلَوْ تَرَى} في شأنِ.. {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ} الا إله إلا الله {وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93] {بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} إمَّا لقبضِ الأرواحِ أو لضربِهِم؛ لأنَّ اللهَ قالَ في شأنِ الظالمين: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50] وإنْ كانَ الناسُ لا يُشاهِدُنَ هذا، ما يدركونهُ، يكون -والعياذ بالله-: الـمُحتضَرُ معذَّبٌ وأهلُهُ لا يدرونَ عن حالِهِ، لأنَّ حالاتِ الغيبِ خفيةً، يقول: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] الملائكةُ أقربُ إلى الميتِ مِن أهلِه ونظائرُ هذا كثيرةٌ، ها! هؤلاءِ الملائكة معنا الـمُوكَلُونَ بكتابةِ الأعمال {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار:10] ونحنُ لا.. لكن نحنُ نؤمِنُ بِه لخبرِ اللهِ ورسولِهِ، سبحان الله!

 

– القارئ : لِأَنَّهُ تَعَالَى يُضِيفُ الْأَشْيَاءَ إِلَى نَفْسِهِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ، وَيُضِيفُهَا إِلَى أَسْبَابِهَا، بِاعْتِبَارِ أَنَّ مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى وَحَكْمَتِهِ أَنْ جَعْلَ لِكُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ سَبَبًا.

وقوله: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} وَهَذِهِ الْمَوْتَةُ الصُّغْرَى، أَيْ: وَيُمْسِكُ النَّفْسَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، فَيُمْسِكُ مِنْ هَاتَيْنِ النَّفْسَيْنِ النَّفْسِالَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَهِيَ نَفْسُ مَنْ كَانَ مَاتَ، أَوْ قُضِيَ أَنْ يَمُوتَ فِي مَنَامِهِ.

{وَيُرْسِلُ} النَّفْسَ {الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أَيْ: إِلَى اسْتِكْمَالِ رِزْقِهَا وَأَجَلِهَا. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} عَلَى كَمَالِ اقْتِدَارِهِ، وَإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى بَعْدَ مَوْتِهِمْ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ وَالنَّفْسَ جِسْمٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، مُخَالِفٌ جَوْهَرُهُ جَوْهَرَ الْبَدَنِ، وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مُدَبَّرَةٌ، يَتَصَرَّفُ اللَّهُ فِيهَا فِي الْوَفَاةِ وَالْإِمْسَاكِ وَالْإِرْسَالِ، وَأَنَّ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ تَتَلَاقَى فِي الْبَرْزَخِ، فَتَجْتَمِعُ، فَتَتَحَادَثُ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ، وَيُمْسِكُ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ.

– الشيخ : على كلِّ حالٍ، مسألةُ الروحِ محلُّ خوضٍ واسعٍ بينَ الطوائفِ، الروحُ يتكلَّمَ عنها مختلفُ الطوائفِ: الفلاسفةِ والمتكلمون وأهلُ الشريعة، فمنهمْ مَن يُبالِغُ فيقولُ: "إنَّها ليسَتْ كذا، ولا كذا، ليسَتْ جِسماً، ولا عَرَضاً ولا كذا، ولا هي داخلَ البدنِ، ولا خارجَ البدنِ"، مِن الكلامِ غيرِ المعقول، كلامٌ غيرُ معقولٍ! معَ أنَّ الذي يدَّعِيهِ الفلاسفةُ الذين يدَّعونَ لأنفسهم أنهم أصحابُ العقولِ وأصحاب الفِكْرِ، وكذلك طوائفُ المتكلمين مثلُ الجهميةِ والمعتزلةِ وأشباهُهم يدَّعُونَ أنَّ الروحَ عَرَضٌ، كثيرٌ منهم يقولونَ: إنَّ الروحَ عَرَضٌ، العرضُ مثلُ اللونِ، يعني الأشياءُ التي ليسَتْ لها حقيقةٌ قائمةٌ بنفسِها، فالأعراضُ تقومُ بالأبدانِ.

والحقيقةُ أنَّ الروحَ ليست عَرَضاً، بل أمرٌ له حقيقةٌ، وله وجودٌ، ولها تصرُّفٌ: تذهبُ، وتجيءُ، وتَصِلُ بالبدن، وتنفصلُ، وتصعدُ، وتهبطُ، وتُنَعَّمُ، وتُعَذَّبُ، لها صفاتٌ دلَّتْ عليها النصوصُ، وإن كانَتْ لا نُدرك كُنْهَهَا وحقيقَتَها.

الروحُ مخلوقٌ عجيب! والناس فيها مضطربونَ اضطرابا كثيراً، فمَن اعتصمَ بالكتابِ والسنة هُدِيَ إلى الصراطِ المستقيم، هُدِيَ إلى الصراطِـ في شأنِ الروحِ وغيرها.

والذين يقولون: "أنَّها عَرَضٌ" معناه: إذا فارقَتْ البدنَ ما لها وجودٌ، العَرَض إذا زالَ زالَ ما لَهُ، لا، الأرواحُ لها وجودٌ، ولها شأنٌ، ولها كيانٌ؛ ولهذا تُقبَضُ، تقبضُها الملائكةُ الموكَّلُون بقبضِ الأرواحِ -أرواحِ الظالمين وأرواحِ الطيبينَ والفلحين- {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [النحل:32]

 

– القارئ : قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} الآيات.

يُنْكِرُ تَعَالَى، عَلَى مَنِ اتَّخَذَ مَنْ دُونِهِ شُفَعَاءَ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ وَيَسْأَلُهُمْ وَيَعْبُدُهُمْ. قُلْ لَهُمْ -مُبَيِّنًا جَهْلَهُمْ، وَأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ الْعِبَادَةِ-: {أَوَلَوْ كَانُوا} أَيْ: مَنِ اتَّخَذْتُمْ مِنَ الشُّفَعَاءِ {لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا} أَيْ: لَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ، بَلْ وَلَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يُمْدَحُوا بِهِ؛ لِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ مِنْ أَحْجَارٍ وَأَشْجَارٍ وَصُوَرٍ وَأَمْوَاتٍ، فَهَلْ يُقَالُ: إِنَّ لِمَنِ اتَّخَذَهَا عَقْلًا؟ أَمْ هُوَ مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ وَأَجْهَلِهِمْ وَأَعْظَمِهِمْ ظُلْمًا؟

{قُلْ} لَهُمْ: {لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} لِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَكُلُّ شَفِيعٍ فَهُوَ يَخَافُهُ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِذَا أَرَادَ رَحْمَةَ عَبَدِهِ أَذِنَ لِلشَّفِيعِ الْكَرِيمِ عِنْدَهُ أَنْ يَشْفَعَ؛ رَحْمَةً بِالِاثْنَيْنِ.

ثُمَّ قَرَّرَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ كُلَّهَا لَهُ بِقَوْلِهِ: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أَيْ: جَمِيعُ مَا فِيهِمَا مِنَ الذَّوَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُطْلَبَ الشَّفَاعَةُ مِمَّنْ يَمْلِكُهَا، وَتُخْلَصَ لَهُ الْعِبَادَةُ. {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فَيُجَازِي الْمُخْلِصَ لَهُ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَمَنْ أَشْرَكَ بِهِ بِالْعَذَابِ الْوَبِيلِ.

{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} الآيات

يذكرُ تعالى حالةَ المشركينَ، وما الذي اقتضَاهُ شِرْكُهُم أنَّهم: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} توحيداً لَه، وأمرَ بإخلاصِ الدِّين لَه، وتركِ ما يعبدُ مِن دونِهِ، أنَّهم يَشْمَئِزُّونَ وينفرونَ، ويكرهونَ ذلكَ أشدَّ الكراهةِ.

{وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} مِن الأصنامِ والأندادِ، ودعا الدَّاعي إلى عبادتِها ومدحِها

– الشيخ : سواءً كانتْ أصناماً أو أعلاماً مُعظَّمِينَ مِن الناسِ، {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} الذين يعبدونَهم سواءٌ كانَ مِن الملائكةِ أو مِن الأنبياءِ أو من الصالحينَ، أو كانَت أشجاراً وأحجاراً وأصناماً وتماثيلاً.

– القارئ: {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} بذلكَ، فرحاً بذكرِ معبوداتِهم، ولِكَونِ الشِّركِ موافقاً لأهوائِهم، وهذهِ الحالُ أشرُّ الحالاتِ وأشنعِها، ولكن موعدُهم يومُ الجزاءِ، فهناكَ يؤخَذ الحقُّ منهمْ، ويُنْظَر: هلْ تنفعُهم آلهتُهم التي كانوا يدْعُونَ مِن دونِ اللهِ شيئاً؟