الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الزمر/(12) من قوله تعالى {قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} الآية 53 إلى قوله تعالى {وينجي الله الذين اتقوا} الآية 61
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(12) من قوله تعالى {قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} الآية 53 إلى قوله تعالى {وينجي الله الذين اتقوا} الآية 61

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الزُّمَر

الدَّرس: الثَّاني عشر

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ *وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:53-61]

– الشيخ : إلى هنا. لا إله إلا الله. الحمد لله، يأمرُ اللهُ نبيَهُ أن يُبلِّغَ عبادَهُ الذين أسرفُوا على أنفسِهم بمعاصي اللهِ بالشِّركِ وما دونَ الشِّركِ، أن يُبلِّغَهُم ويُبشرَهم أنَّ اللهَ يغفرُ الذنوبَ جميعاً لِمَنْ تابَ إليه، فلا تَقْنَطوا مِن رحمةِ اللهِ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ} هذا خطابٌ مِن اللهِ للعبادِ يُبَلِّغَهُ عبدُهُ ورسولُهُ صلى الله عليه وسلم

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} والقُنوطُ: شِدَّةُ اليأسِ {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} بسببِ إسرافِكم على أنفسِكم {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} والمقصودُ: مَن يتوبُ إليهِ، يغفرُ الذنوبَ جميعاً لِمَنْ تابَ، أمَّا مَن لمْ يَتُبْ ففيهِ تفصيلٌ هو المذكور في قولِه تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:48-116] مَنْ لمْ يَتُبْ إنْ كانَ ذنبُهُ الشِّركُ فإنَّهُ لا يُغْفَرُ {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} وإنْ كانَ ذنبُه ما دونَ الشِّركِ فهو تحتَ مشيئةِ الله {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}.

ففي آيةِ النساءِ فيها تفصيلٌ وتقييدٌ، وأمَّا هذه الآية ففيها عمومٌ {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}، وبهذا يظهرُ الجمعُ بين الآيتين، فالآيةُ التي في سورةِ النساءِ في حَقِّ مَن لمْ يَتُبْ، وهذه الآية في حقِّ مَن تابَ، مَن تابَ توبةً صادقةً، توبةً نصوحاً تابَ اللهُ عليهِ وغفرَ له، التوبةُ تَسْتَلْزِمُ المغفرةَ، مَن تابَ تابَ اللهُ عليهِ وغفرَ له {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.

{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} هذه دعوةٌ مِن اللهِ للعبادِ أنْ يُنِيبُوا وأنْ يَتوبُوا وأنْ يَسْتَسلِموا ويَنْقَادُوا لربِّهم بالطاعةِ والتقوى {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}

{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وهو هذا الكتابُ، قد تقدَّمَ في نفسِ السورةِ {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر:23] {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} وهنا قَالَ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً} {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.

{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} عندَ ذلكَ عندما يأتي العذابُ بغتةً يَنْدمُ الـمُفرِّط ويَسْتَحْسِرُ: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا} هذا تحسُّرٌ {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} يعني: في جانبِهِ، وفي حقِّهِ سبحانه وتعالى.

{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} هذه عندما يأتي العذابُ بغتةً تكونُ النفوسُ..، تتفكَّرُ بالأسبابِ، وتُعبِّرُ عَن النَّدَمِ الشديدِ {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} هَيْهَاتَ {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} لو أنَّ لي رجوعٌ إلى الدنيا {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وجاءَ الرد:

{بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} الذين افترَوا الكذبَ على اللهِ {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} قَالَ الله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} فالناسُ فريقانِ:

الكفارُ العصاةُ المتكبرونَ هذا مصيرُهم {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}. وخِلافُهم المتقونَ {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} لَا يَمَسُّهُمُ ما يَسُوؤُهم، لَا يَمَسُّهُمُ العذابُ {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}

ففِي هذه الآياتِ وعدٌ ووعيدٌ، وعدٌ للمُستكبرين الـمُتكبرين الـمُفرِّطين، الـمُفرِّطين الـمُتكبرين، ووعدٌ للمتقينَ الذين اتَّقوا ربَّهم واستقامُوا على دينِه، واتَّبعوا ما جاءَهم مِن عندِ اللهِ، واتَّبَعوا رسلَ اللهِ.

 

 (تفسيرُ السَّعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين، قَالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ رحمه الله تعالى في تفسير قول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآيات.

يُخْبِرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُسْرِفِينَ بِسَعَةِ كَرَمِهِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْإِنَابَةِ قَبْلَ أَنْ لَا يُـمـْكِنَهُمْ ذَلِكَ فَقَالَ: {قُلْ} يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ مِنَ الدُّعَاةِ لِدِينِ اللَّهِ، مُخْبِرًا لِلْعِبَادِ عَنْ رَبِّهِمْ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} بِاتِّبَاعِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالسَّعْيِ فِي مَسَاخِطِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ.

{لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} أَيْ: لَا تَيْأَسُوا مِنْهَا، فَتُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَتَقُولُوا: قَدْ كَثُرَتْ ذُنُوبُنَا وَتَرَاكَمَتْ عُيُوبُنَا، فَلَيْسَ لَهَا طَرِيقٌ يُزِيلُهَا وَلَا سَبِيلَ يَصْرِفُهَا،

– الشيخ : هذه مِن مداخلِ الشيطان، مِن مداخلِ الشيطان أنْ يُقنِّط العاصي، وَيُؤَيِّسَهُ مِن الرحمةِ مما يجعلُه لا يتوب، يَتَمَادَى في المعصية يقولُ: "أنا أسرفْتُ، وبلغتُ كثرةَ الذنوب، ما، لَنْ يَقبلَ الله مِنِّي توبةً، ولَنْ يغفرَ الله لي بعدَ هذه الحالِ"، فَيُقَنِّطُهُ من الرحمة، يُقَنِّطُهُ، فيرتكبُ بذلك ذنوباً أخرى، القنوطُ مِن رحمةِ اللهِ مِن كبائر الذنوب، نَفْسُ القنوطِ مِن رحمةِ اللهِ هو مِن كبائرِ الذنوب، فهو بقنوطِهِ يُضِيفُ إلى ذنوبِهِ ذنباً عظيماً، ويَسُدُّ عليه بابَ الرجوعِ والتوبةِ إلى الله.

 

– القارئ : وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ مِنَ الدُّعَاةِ لِدِينِ اللَّهِ، مُخْبِرًا لِلْعِبَادِ عَنْ رَبِّهِمْ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} بِاتِّبَاعِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالسَّعْيِ فِي مَسَاخِطِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ.

{لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} أَيْ: لَا تَيْأَسُوا مِنْهَا، فَتُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ

– الشيخ : إنا لله وإنا إليه راجعون.

– القارئ : وَتَقُولُوا قَدْ كَثُرَتْ ذُنُوبُنَا وَتَرَاكَمَتْ عُيُوبُنَا، فَلَيْسَ لَهَا طَرِيقٌ يُزِيلُهَا وَلَا سَبِيلَ يَصْرِفُهَا، فَتَبْقُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُصِرِّينَ عَلَى الْعِصْيَانِ، مُتَزَوِّدِينَ مَا يُغْضِبُ عَلَيْكُمُ الرَّحْمَنَ، وَلَكِنِ اعْرفُوا رَبَّكُمْ بِأَسْمَائِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَرَمِهِ وَجُودِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ

– الشيخ : يا الله، اللهمَّ اغفر، اللهمَّ اغفرْ وارحم. اللهمَّ اغفرْ.

 – القارئ : وَاعْلَمُوا {إنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} مِنَ الشِّرْكِ، وَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَالرِّبَا، وَالظُّلْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ.

{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أَيْ: وَصْفُهُ، الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ وَصَفَّانِ لَازِمَانِ ذَاتِيَّانِ لَا تَنْفَكُّ ذَاتُهُ عَنْهُمَا، وَلمْ تَزَلْ آثَارُهُمَا سَارِيَةً فِي الْوُجُودِ، مَالِئَةً لِلْمَوْجُودِ، تَسِحُّ يَدَاهُ مِنَ الْخَيِّرَاتِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيُوَالِي النِّعَمَ عَلَى الْعِبَادِ وَالْفَوَاضِلِ فِي السِّرِّ وَالْجِهَارِ، وَالْعَطَاءُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمَنْعِ، وَالرَّحْمَةُ سَبَقَتِ الْغَضَبَ وَغَلَبَتْهُ، وَلَكِنْ لِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَنَيْلِهِمَا أَسْبَابٌ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا الْعَبْدُ فَقَدْ أَغْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، أَعْظَمُهَا وَأَجَلُّهَا -بَلْ لَا سَبَبَ لَهَا غَيْرُهُ-: الْإِنَابَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّأَلُّهِ وَالتَّعَبُّدِ، فَهَلُمَّ إِلَى هَذَا السَّبَبِ الْأَجَلِّ، وَالطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ.

وَلِهَذَا أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهَا فَقَالَ: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} بِقُلُوبِكُمْ {وَأَسْلِمُوا لَهُ} بِجَوَارِحِكُمْ، إِذَا أُفْرِدَتِ الْإِنَابَةُ دَخَلَتْ فِيهَا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ، وَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا -كَمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ- كَانَ الْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا.

وَفِي قَوْلِهِ: {إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} دَلِيلٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَأَنَّهُ مِنْ دُونِ إِخْلَاصٍ لَا تُفِيدُ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ

– الشيخ : لقوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} ارجعُوا إليه، فمَنْ تَرَكَ المعاصي لسببٍ مِن الأسبابِ غيرَ الإنابةِ إلى اللهِ لا تنفعُهُ، لا ينفعُهُ تَرْكُهَا؛ لأنه ما ترَكَهَا لله، فمَن تَرَكَ الذنبَ -مثلاً-؛ لأنه كذا وكذا وكذا، لأنَّه يترتَّب عليه أضرارٌ دنيويةٌ، يترتبُ عليهِ أضرارٌ بدنيةٌ، ما تركَهَا لله، فلا بدُّ أنْ يتركَهَا إيماناً واحتساباً.

 

– القارئ : دَلِيلٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَأَنَّهُ مِنْ دُونِ إِخْلَاصٍ، لَا تُفِيدُ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ شَيْئًا.

{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} مَجِيئًا لَا يُدْفَعُ {ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هِيَ الْإِنَابَةُ وَالْإِسْلَامُ؟ وَمَا جُزْئِيَّاتُهَا وَأَعْمَالُهُما؟

فَأَجَابَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} مِمَّا أَمَرَكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ: كَمَحَبَّةِ اللَّهِ، وَخَشْيَتِهِ، وَخَوْفِهِ، وَرَجَائِهِ، وَالنُّصْحِ لِعِبَادِهِ، وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَتَرْكِ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ.

وَمِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ: كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالصَّدَقَةِ، وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا، فَالْمُتَّبِعُ لِأَوَامِرِ رَبِّهِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَحْوِهَا هُوَ الْمُنِيبُ الْمُسْلِمُ.

{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} وَكُلُّ هَذَا حَثٌّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ وَانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ، ثُمَّ حَذَّرَهُمْ {أَنْ} لا يَسْتَمِرُّوا عَلَى غَفْلَتِهِمْ،

– الشيخ : لا، ثمَّ حَذَّرَهُمْ؟

القارئ : ثُمَّ حَذَّرَهُمْ {أَنْ} لا يَسْتَمِرُّوا

– الشيخ : لا، عندكَ ونصحهم؟

– طالب: نعم.

الشيخ : ثُمَّ حَذَّرَهُمْ

القارئ : هنا يقول -نسخة-: ثُمَّ حَذَّرَهُمْ {أَنْ} يَسْتَمِرُّوا

الشيخ : {أَنْ} يَسْتَمِرُّوا، هذا الصوابُ، سبحان الله! يُثْبِتُ الخطأَ ويُشيرُ إلى الصوابِ! ثُمَّ حَذَّرَهُمْ {أَنْ} يَسْتَمِرُّوا، ما في "لالا.

القارئ : ثُمَّ حَذَّرَهُمْ {أَنْ} يَسْتَمِرُّوا عَلَى غَفْلَتِهِمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ يَوْمٌ يَنْدَمُونَ فِيهِ، وَلَا تَنْفَعُ النَّدَامَةُ. وَ{تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} أَيْ: فِي جَانِبِ حَقِّهِ. {وَإِنْ كُنْتُ} فِي الدُّنْيَا {لَمِنَ السَّاخِرِينَ} فِي إِتْيَانِ الْجَزَاءِ، حَتَّى رَأَيْتُهُ عَيَانًا.

{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} و"لَوْ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلتَّمَنِّي، أَيْ: لَيْتَ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي فَأَكُونُ مُتَّقِيًا لَهُ، فَأَسْلَمُ مِنَ الْعِقَابِ وَأَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ، وَلَيْسَتْ "لَوْ" هُنَا شَرْطِيَّةً؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ شَرْطِيَّةً لَكَانُوا مُحْتَجِّينَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَهُوَ حُجَّةٌ بَاطِلَةٌ،

الشيخ : اصبر، اصبر، اصبر، اصبر، اصبر، أيش قَالَ الشيخ على {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}؟ أيش قَالَ؟ {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} في شيء؟

القارئ : نعم، يقول: وَ{تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} أَيْ: فِي جَانِبِ حَقِّهِ.

الشيخ : إي، فِي جَانِبِ حَقِّهِ، يعني ليسَ في الآيةِ -على الصحيح- ليسَ فيها إثباتُ الجَنْبِ لله، فلمْ يذكر أحدٌ مِن أئمةِ السُّنةِ أنَّ للهِ كذا، له يدانِ، وله جَنْبٌ وله..، لا، فهُنا {فِي جَنْبِ اللَّهِ} يعني: في حَقِّهِ أو في جَنْبِ كذا {تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ} في جانبِ اللهِ، وفي حقِّهِ سبحانه وتعالى.

 

القارئ : وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَضْمَحِلُّ كُلُّ حُجَّةٍ بَاطِلَةٍ.

{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} وَتَجْزِمُ بِوُرُودِهِ {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} أَيْ: رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} قَالَ تَعَالَى في أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَلَا مُفِيدٍ، وَأنَّ هَذِهِ أَمَانِيٌّ بَاطِلَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، إِذْ لَا يَتَجَدَّدُ لِلْعَبْدِ لَوْ رُدَّ بَيَانٌ بَعْدَ الْبَيَانِ الْأَوَّلِ.

{بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} الدَّالَّةُ على الحقِّ دَلَالَةً لَا يُمْتَرَى فِيهَا {فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} عَنِ اتِّبَاعِهَا {وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} فَسُؤَالُ الرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا نَوْعُ عَبَثٍ، {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]

قَالَ الله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} الآيات.

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ خِزْيِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَيْهِ، وَأَنَّ وُجُوهَهُمْ تكونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُسْوَدَّةٌ كَأَنَّهَا اللَّيْلُ الْبَهِيمُ، يَعْرِفُهُمْ بِذَلِكَ أَهْلُ الْمَوْقِفِ، فَالْحَقُّ أَبْلَجُ وَاضِحٌ كَأَنَّهُ الصُّبْحُ، فَكَمَا سَوَّدُوا وَجْهَ الْحَقِّ بِالْكَذِبِ، سَوَّدَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ؛ جَزَاءً مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ. فَلَهُمْ سَوَادُ الْوُجُوهِ، وَلَهُمُ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ فِي جَهَنَّمَ

الشيخ : نعوذُ بالله من النار، نعوذُ بالله مِن الشِّقوة، أعوذُ بالله مِن الشِّقوة، أعوذُ بالله مِن الشِّقوة.

القارئ : ولهذا قَالَ: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} عَنِ الْحَقِّ، وَعَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمُ، الْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ؟ بَلَى وَاللَّهِ، إِنَّ فِيهَا لِعُقُوبَةً وَخِزْيًا وَسُخْطًا يَبْلُغُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ كُلَّ مَبْلَغٍ، وَيُؤْخَذُ الْحَقُّ مِنْهُمْ بِهَا.

وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ يَشْمَلُ الْكَذِبَ عَلَيْهِ بِاتِّخَاذِ الشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ، وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، أَوِ ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ، أَوِ الْقَوْلِ فِي شَرْعِهِ بِمَا لَمْ يَقُلْهُ، وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ قَالَهُ وَشَرَعَهُ.

وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَةَ الْمُتَكَبِّرِينَ ذَكَرَ حَالَةَ الْمُتَّقِينَ فَقَالَ: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} أَيْ: بِنَجَاتِهِمْ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعَهُمُ آلَةَ النَّجَاةِ، وَهِيَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ الْعُدَّةُ عِنْدَ كُلِّ هَوْلٍ وَشِدَّةٍ.

{لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} أَيِ: الْعَذَابُ الَّذِي يَسُوؤُهُمْ {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فَنَفَى عَنْهُمْ مُبَاشَرَةَ الْعَذَابِ وَخَوَّفَهُ، وَهَذَا غَايَةُ الْأَمَانِ.

فَلَهُمُ الْأَمْنُ التَّامُّ يَصْحَبُهُمْ حَتَّى يُوَصِّلَهُمْ إِلَى دَارِ السَّلَامِ، فَحِينَئِذٍ يَأْمَنُونَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَمَكْرُوهٍ، وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ، وَيَقُولُونَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34]

الشيخ : إلى هنا .