الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الزمر/(13) من قوله تعالى {الله خالق كل شيء} الآية 62 إلى قوله تعالى {وما قدروا الله حق قدره} الآية 67
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(13) من قوله تعالى {الله خالق كل شيء} الآية 62 إلى قوله تعالى {وما قدروا الله حق قدره} الآية 67

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الزُّمَر

الدَّرس: الثَّالث عشر

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ:

اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:62-67]

– الشيخ : إلى هنا، سبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم.

يخبرُ سبحانه وتعالى عَن مُلْكِهِ للسمواتِ والأرضِ، وأنَّهُ الـمُتَصِّرفُ فيها؛ لأنَّهُ خالقُها، خالقُ السمواتِ {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} خالقُ السمواتِ والأرضِ وما فيهنَّ وما بينهنَّ مِن صغيرٍ وكبيرٍ، اللهُ خالقُها، فكلُّ الموجوداتِ هو خالقُها، وهو خلقَ ويخلقُ كما يشاءُ سبحانه.

{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} على كلِّ شيءٍ رقيبٌ وحفيظٌ، فهو الـمُدَبِّرُ لكلِّ شيءٍ {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}.

{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} المقاليدُ: جمعُ مِقْلَاد وهو..، فهذا يَدُلُّ على أنه هو الوليُّ عليها والـمُدبرُ فيها والـمُتصرِّف فيها {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} كفرُوا بآياتِ اللهِ الشرعيةِ الـمُنَزَّلَة، وبآياتِه الكونيةِ وهي المخلوقاتُ، فَجَحَدُوا ربوبيتَهُ وجَحَدُوا إلهيَّتَهُ هؤلاء همُ الخاسرونَ حقاً {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}

ثمَّ قالَ تعالى: {قُلْ} قلْ لأولئكَ المشركين {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} هؤلاءِ المشركون يَدعونَ إلى شركِهم، حتى يطالبونَ الرسولَ بأنَّ يَعبدَ آلهتَهم {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}.

{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} الله تعالى قد أمرَ جميعَ المرسلينَ بالتوحيدِ، بعبادتِهِ وحدَه لا شريكَ له، ونَهَاهُم عَن الشِّركِ به، وأمرَهُم أنْ يدعو الناسَ إلى ذلكَ، فهو تعالى يُخبِرُ بأنَّه أوحى إلى نبيِّهِ محمد كما أوحى إلى مَن قبلَهُ بأنَّ الشِّركَ مُحْبِطٌ، بأنَّ الشِّركَ مُحْبِطٌ للأعمال {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقالَ في الآيةِ الأخرى: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في شان الأنبياء، قالَ ذلك في الرسلِ: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] فهذه أيةُ الأنعامِ تشهدُ لهذه الآيةِ في الزُّمَرِ: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [الأنعام:88-89] يعني: لا تُشرِكْ باللهِ غيرَه ولا تعبدْ معَ الله غيره، بلْ اعبدِ اللهَ وحدَه: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} تقديمُ المفعولِ يقولُ أهلِ اللغة: أنه يفيدُ الحصرَ {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} بلْ اعبدِ اللهَ وحدَهُ، كقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أي: لا نعبدُ غيرَكَ {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} [الأنعام:89] الشاكرينَ لِنِعَمِهِ، الـمـُعَظِّمِينَ لَه، فإنَّه هو الـمُولِي لجميعِ النِّعَمِ {وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ}.

 ثمَّ قالَ تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} هؤلاءِ المشركون الذين يعبدونَ مع الله غيرَهُ ويجحدونَ رسالاتِهِ ما عظَّمُوا الله حقَّ تعظيمِهِ، بل تنقَّصُوهُ باتخاذِ آلهةٍ مَعَهُ، وتنقَّصُوهُ بجَحْدِ رسالاتِهِ: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام:91]

ثم ذكرَ سبحانه وتعالى بعضَ ما يدلُّ على عظمتِهِ: {الأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وقد جاءَتْ السُّنةُ بتفسيرِ هذه الآية، فقدْ أخبرَ عليه الصلاة والسلام بأنَّ اللهَ يَأخذُ الأرضَ والسمواتِ بيديهِ، يأخذُهما، يأخذُ السموات، يقبضُ الأرضَ ويَطوي السماءَ، ثمَّ يقول: (أنا الـمَلِكُ، أينَ الجبَّارونَ؟ أين الـمُتَكَبِّرُونَ؟) ففي ذلكَ اليومِ -يومُ القيامةِ- ليسَ هناكَ ملوكٌ ولا..، قد ذهبَ..

{لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ} [الأنعام:73] الـمُلْكُ له دائماً، لكن في الدنيا فيهِ مُلوكٌ، مُلوكٌ مِن أينَ لهم ذلك الملكُ؟ يُؤْتي الملكَ مَن يشاءُ، وينزعُ الملكَ ممَّنْ يشاءُ، أمَّا في يومِ القيامةِ فيَنتهي كلُّ ذلك، فليسَ هناك مُلْكٌ أو مَن يُطلَقُ عليهِ اسمَ "الملِكُ"، إلا اللهُ وحده {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ}

{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ما عَظَّمُوهُ حقَّ تعظيمِهِ، وهو العظيمُ العظيمُ، يأخذُ الأرضَ والسماواتِ، يقبضُ الأرضَ {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}

ثم قال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى} تنزيهاً له تعالى عَن شركِ المُشركينَ {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} عَن شركِ المشركين، لا إله إلا الله، وتنزيهِهِ تعالى عَن الشِّركِ يَدُلُّ على أنَّهُ الإلهُ الحقُّ الذي لا يَستحقُّ العِبادةَ سِواهُ، فلا شريكَ لَهُ في ربوبيتِهِ، ولا في إلهيتِهِ، ولا في أسمائِهِ وصفاتِهِ، سبحانه وتعالى.

 

(تفسير السَّعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبه أجمعين. قالَ الشيخُ عبد الرحمن السَّعدي -رحمه الله تعالى- في تفسيرِ قول الله تعالى:

{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} الآيات.

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَظَمَتِهِ وَكَمَالِهِ الْمُوجِبِ لِخُسْرَانِ مَنْ كَفَرَ بِهِ فَقَالَ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} هَذِهِ الْعِبَارَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ -غَيْرَ اللَّهِ- مَخْلُوقَةٌ، فَفِيهَا رَدٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ قَالَ بِقِدَمِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ

– الشيخ : يعني: جميعُ الموجوداتِ مُحْدَثةٌ بعدَ العَدَمِ، مُحْدَثةٌ، وكلُّ مُحْدَثٍ هو مخلوقٌ مصنوعٌ، كلُّ مخلوقٍ مُحدَثٌ.

– القارئ : كَالْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَكَالْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْأَرْوَاحِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبَاطِلِ الْمُتَضَمِّنَةِ تَعْطِيلَ الْخَالِقِ عَنْ خَلْقِهِ.

وَلَيْسَ كَلَامُ اللَّهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ الْمُتَكَلِّمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَوَّلٌ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، فَأَخْذُ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا أَنَّ كلامَ اللهِ مَخْلُوقٌ مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَمْ يَحْدُثْ لَهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُعَطَّلًا عَنْهَا بِوَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَالشَّاهِدُ مِنْ هَذَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ خَالِقٌ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَأَنَّهُ {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}، وَالْوَكَالَةُ التَّامَّةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ عِلْمِ الْوَكِيلِ، بِمَا كَانَ وَكِيلًا عَلَيْهِ وَإِحَاطَتِهِ بِتَفَاصِيلِهِ، وَمِنْ قُدْرَةٍ تَامَّةٍ عَلَى مَا هُوَ وَكِيلٌ عَلَيْهِ، لِيَتَمَكَّنَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَمِنْ حِفْظٍ لِمَا هُوَ وَكِيلٌ عَلَيْهِ، وَمِنْ حِكْمَةٍ وَمَعْرِفَةٍ بِوُجُوهِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِيَصْرِفَهَا وَيُدَبِّرَهَا عَلَى مَا هُوَ الْأَلْيَقُ، فَلَا تَتِمُّ الْوَكَالَةُ إِلَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَمَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَقْصٌ فِيهَا.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ الْمُتَقَرَّرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، فَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٍ يَدُلُّ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ عَلَى تَدْبِيرِهَا، وَكَمَالِ تَدْبِيرِهِ، وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ الَّتِي يَضَعُ بِهَا الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا.

– الشيخ : لا إله إلا الله {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام:59] فالمقاليدُ: جمع مِقْلَاد، كمفاتيح جمعُ: مفتاح.

لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَيْ: مَفَاتِيحُهَا، عِلْمًا وَتَدْبِيرًا، فَـ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2] فَلَمَّا بَيَّنَ مِنْ عَظَمَتِهِ مَا يَقْتَضِي أَنْ تَمْتَلِئَ الْقُلُوبُ لَهُ إِجْلَالًا وَإِكْرَامًا، ذَكَرَ حَالَ مَنْ عَكَسَ الْقَضِيَّةَ فَلَمْ يَقْدُرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} الدَّالَّةِ عَلَى الْحَقِّ الْيَقِينِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} خَسِرُوا مَا بِهِ تَصْلُحُ الْقُلُوبُ مِنَ التَّأَلُّهِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ، وَمَا بِهِ تَصْلُحُ الْأَلْسُنُ مِنْ إِشْغَالِهَا بِذِكْرِ اللَّهِ، وَمَا تَصْلُحُ بِهِ الْجَوَارِحُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَتُعَوِّضُوا عَنْ ذَلِكَ كُلَّ مُفْسِدٍ لِلْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ، وَخَسِرُوا جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَتَعَوَّضُوا عَنْهَا بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ.

– الشيخ : أعوذُ باللهِ مِن الخُسرانِ، أعوذُ باللهِ…

– القارئ : قال الله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} الآيات.

{قُلْ} يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ دَعَوْكَ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} أَيْ: هَذَا الْأَمْرُ صَدَرَ مِنْ جَهْلِكُمْ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ لَكُمْ عِلْمٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى الْكَامِلُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، مُسْدِي جَمِيعَ النِّعَمِ، هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، دُونَ مَنْ كَانَ نَاقِصًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، لَمْ تَأْمُرُونِي بِذَلِكَ.

وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ بِاللَّهِ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ، مُفْسِدٌ لِلْأَحْوَالِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} هَذَا مُفْرَدٌ مُضَافٌ يَعُمُّ كُلَّ عَمَلٍ، فَفِي نُبُوَّةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ الشِّرْكَ مُحْبِطٌ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ -لَمَّا عَدَّدَ كَثِيرًا مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ- قَالَ عَنْهُمْ: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]

{وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} دِينَكَ وَآخِرَتَكَ، فَبِالشِّرْكِ تُحْبَطُ الْأَعْمَالُ، وَيُسْتَحَقُّ الْعِقَابُ وَالنَّكَالُ.

ثُمَّ قَالَ: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ الْجَاهِلِينَ يَأْمُرُونَهُ بِالشِّرْكِ، وَأَخْبَرَ عَنْ شَنَاعَتِهِ، أَمْرَهُ بِالْإِخْلَاصِ فَقَالَ: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} أَيْ: أَخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لِلَّهِ عَلَى تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَمَا أَنَّهُ تَعَالَى يُشْكَرُ عَلَى النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَصِحَّةِ الْجِسْمِ وَعَافِيَتِهِ وَحُصُولِ الرِّزْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَذَلِكَ يُشْكَرُ وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِالنِّعَمِ الدِّينِيَّةِ كَالتَّوْفِيقِ لِلْإِخْلَاصِ وَالتَّقْوَى، بَلْ نِعَمُ الدِّينِ هِيَ النِّعَمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَفِي تَدَبُّرِ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَيْهَا، سَلَامَةٌ مِنْ آفَةِ الْعُجْبِ الَّتِي تُعْرَضُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْعَامِلِينَ؛ بِسَبَبِ جَهْلِهِمْ، وَإِلَّا فَلَوْ عَرَفَ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ الْحَالِ لَمْ يُعْجَبْ بِنِعْمَةٍ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ زِيَادَةَ الشُّكْرِ.

الشيخ : أحسنتَ، لا حول ولا قوة إلا بالله.