بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة غافر
الدَّرس: الثَّاني
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرجيمِ:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:7-9]
– الشيخ : إلى هنا بس، سبحان الله والحمد لله. لا إله إلا الله.
لـمَّا ذكرَ اللهُ حالَ الأممِ مِن قومِ نوحٍ ومَن بعدَهم، وأنَّهم كذَّبوا الرُّسلَ وجادلوا في آياتِ الله، لـمَّا ذكرَ أخبارَ هذه الأممِ الكافرةِ الـمُسْتَكْبِرَةِ عَن عبادةِ اللهِ فذكرَ مصيرَهم، أخبرَ عَن عبادِهِ المقربينَ مِن الملائكةِ، وهذا يُشبِهُ قولَه تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] إن استكبرَ هؤلاءِ الكفرةُ عَن عبادةِ الله، فهناكَ مَن يعبدُ اللهَ مِن خيارِ خلقِهِ وهم الملائكة، وهنا قال:
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} الملائكةُ خَلقٌ مِن خلقِ اللهِ، خَلْقٌ عظيمٌ كثرةً وقوةً، ومِن أصولِ الإيمانِ: الإيمانُ بالملائكةِ، والملائكةُ عَالَمٌ لا يُحصِي عددَهم إلا الله، ولهم أحوالٌ وأعمالٌ وأخلاقٌ وصفاتٌ، ومِن خيارِ الملائكةِ هؤلاء، هؤلاء هُمُ المقربون، يقولُ تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172] فإنَّهم لا يَسْتكبرونَ ولا يَسْتَنْكِفُونَ عَن عبادةِ اللهِ.
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} العرشُ: مخلوقٌ عظيمٌ هو سَقْفُ المخلوقاتِ، هو أعلى المخلوقاتِ، ولَهُ حَمَلَةٌ، هذا العرشُ العظيمُ لَهُ حَمَلَةٌ مِن ملائكةِ اللهِ الذين لا يعلمُ قُوَّتَهُم ولا يَعرفُ كُنْهَ خَلْقِهِم إلا الذي خَلَقَهُم.
ومَن حولَ العرشِ، هؤلاءِ صنفانِ مِن الملائكةِ: الحَمَلَةُ، والملائكةُ الحَافُّونَ بالعرشِ، {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم..} [الزمر:75] كما في سورةِ الزمرِ التي انتهًتْ.
{يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} يعني: يُسَبِّحُونَهُ ويَحْمَدُونَه، يُنَزِّهُونَهُ عَن النقائصِ والعيوبِ، ويَحْمَدُونَه، ويُمَجِّدُونَهُ، دائماً {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] دائماً، فَخَابَ الـمُسْتَكْبِرُون، خَابَ الـمُسْتَكْبِرُون عَن عبادةِ الله {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}.
{وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} يُؤْمِنُونَ باللهِ {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} يَسْتَغْفِرُونَ للمؤمنينَ {لِلَّذِينَ آمَنُوا} ويدعونَ لهم {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}
ثمَّ يذكرُ اللهُ دعاءَهم واستغفارَهم، لا إله إلا الله، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا} هكذا يدعونَ، {رَبَّنَا} يعني: يا ربَّنَا
{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} فَعِلْمُ اللهِ محيطٌ ورحمتُهُ واسعةٌ، وقدْ قالَ سبحانه وتعالى في الآيةِ الأخرى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الإسراء:78] وهنا يُخبِرُ اللهُ عَن الملائكةِ أنَّهم يقولونَ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} هذا استغفارٌ{فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} يَتَوَسَّلُونَ إليه بهذينِ الاسمينِ بالعزيزِ الحكيمِ، {إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
{وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} يَدعونَ لهمْ أنْ يَقِيَهُمُ اللهُ السيئاتِ، وهي العقوباتُ، والسيئاتُ تُطلَقُ على العقوباتِ، وتُطلَقُ على الأعمالِ السيئةِ، فهم يَدعونَ للمؤمنينَ بأنْ يَقِيَهُمُ اللهُ السيئاتِ: سيئاتِ الأعمالِ، وسيئاتِ الجزاءِ.
يقولُ تعالى عَن الملائكةِ: {وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ} مَن تَقِهِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ يعني: يومَ القيامةِ {فَقَدْ رَحِمْتَهُ} مَنْ وقاهُ اللهُ عذابَ الآخرةِ فهو المرحومُ مَنْ وقاهُ اللهُ عذابَ الآخرةِ فهو المرحومُ حقًّا يقولُ تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ * قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعام:14-16] هذا خَبَرٌ مِن اللهِ بأنَّ مَنْ صرفَ عنه العذابَ فقدْ رَحِمَهُ اللهُ، مَنْ صرفَ اللهُ عنه العذابَ فقدْ رَحِمَهُ اللهُ {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام:16]
وهنا يقولُ عن الملائكة: {وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} مَن وقاهُ اللهُ سيئاتِهِ، ووقاهُ عذابَ الآخرةِ فمصيرُهُ إلى الجنة، ومَنْ جمعَ اللهُ له ذلكَ وَقَاهُ السيئاتِ وأدخلَهُ الجناتِ فقد فازَ {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]
(تفسير السعدي):
– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ رحمَه اللهُ تعالى في تفسير قول الله تعالى:
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} الآيات.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كَمَالِ لُطْفِهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا قَيَّضَ لِأَسْبَابِ سَعَادَتِهِمْ مِنَ الْأَسْبَابِ الْخَارِجَةِ عَنْ قَدْرِهِمْ، مِنِ اسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ لَهُمْ، وَدُعَائِهِمْ لَهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ دِينِهِمْ وَآخِرَتِهِمْ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْ شَرَفِ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَمَنْ حَوْلِهِ، وَقُرْبِهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَكَثْرَةِ عِبَادَتِهِمْ وَنُصْحِهِمْ لِعِبَادِ اللَّهِ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَقَالَ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} أَيْ: عَرْشَ الرَّحْمَنِ، الَّذِي هُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْظَمُهَا وَأَوْسَعُهَا وَأَحْسَنُهَا وَأَقْرَبُهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، الَّذِي وَسِعَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ وَالْكُرْسِيَّ، وَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ، قَدْ وَكَّلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَمْلِ عَرْشِهِ الْعَظِيمِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مِنْ أَكْبَرِ الْمَلَائِكَةِ وَأَعْظَمِهُمْ وَأَقْوَاهُمْ، وَاخْتِيَارُ اللَّهِ لَهُمْ لِحَمْلِ عَرْشِهِ وَتَقْدِيمِهِمْ فِي الذِّكْرِ وَقُرْبِهِمْ مِنْهُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَفْضَلُ أَجْنَاسِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمِ السَّلَامُ. قَالَ تَعَالَى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]
{وَمَنْ حَوْلَهُ} مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالْفَضِيلَةِ {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} هَذَا مَدْحٌ لَهُمْ بِكَثْرَةِ عِبَادَتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَخُصُوصًا التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، وَسَائِرَ الْعِبَادَاتِ تَدْخُلُ فِي تَسْبِيحِ اللَّهِ وَتَحْمِيدِهِ؛ لِأَنَّهَا تَنْزِيهٌ لَهُ عَنْ كَوْنِ الْعَبْدِ يَصْرِفُهَا لِغَيْرِهِ، وَحَمْدٌ لَهُ تَعَالَى، بَلِ الْحَمْدُ هُوَ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا قَوْلُ الْعَبْدِ: "سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ" فَهُوَ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ.
{وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ فَوَائِدِ الْإِيمَانِ وَفَضَائِلِهِ الْكَثِيرَةِ جَدًا، أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ لَا ذُنُوبَ عَلَيْهِمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، فَالْمُؤْمِنُ بِإِيمَانِهِ تَسَبَّبَ لِهَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْمَغْفِرَةُ لَهَا لَوَازِمُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهَا -غَيْرُ مَا يَتَبَادَرُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَذْهَانِ، أَنَّ سُؤَالَهَا وَطَلَبَهَا غَايَتُهُ مُجَرَّدُ مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ- ذَكَرَ تَعَالَى صِفَةَ دُعَائِهِمْ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ، بِذِكْرِ مَا لَا تَتُمُّ إِلَّا بِهِ، فَقَالَ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} فَعِلْمُكَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْكَ خَافِيَةٌ وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِكَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ، وَرَحِمَتُكَ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَالْكَوْنُ عُلْوِيُّهُ وَسُفْلِيُّهُ قَدِ امْتَلَأَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَسِعَتْهُمْ، وَوَصَلَ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ خَلْقُهُ.
{فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} بِاتِّبَاعِ رُسُلِكَ، بِتَوْحِيدِكَ وَطَاعَتِكَ. {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أَيْ: قِهِمُ الْعَذَابَ نَفْسَهُ، وَقِهِمُ أَسْبَابَ الْعَذَابِ.
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ {وَمَنْ صَلَحَ} أَيْ: صَلَحَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ {مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ} زَوْجَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِنَّ وَأَصْحَابِهِمْ وَرُفَقَائِهِمْ {وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} الْقَاهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَبِعِزَّتِكَ تَغْفِرُ ذُنُوبَهُمْ وَتَكْشِفُ عَنْهُمُ الْمَحْذُورَ، وَتُوَصِّلُهُمْ بِهَا إِلَى كُلِّ خَيْرٍ {الْحَكِيمُ} الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، فَلَا نَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا أَمْرًا تَقْتَضِي حِكْمَتُكَ خِلَافَهُ، بَلْ مِنْ حِكْمَتِكَ الَّتِي أَخْبَرْتَ بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ وَاقْتَضَاهَا فَضْلُكَ: الْمَغْفِرَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ.
{وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} أَيِ: الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ وَجَزَاءَهَا؛ لِأَنَّهَا تَسُوءُ صَاحِبَهَا. {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَقَدْ رَحِمْتَهُ} لِأَنَّ رَحْمَتَكَ لَمْ تَزَلْ مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى الْعِبَادِ، لَا يَمْنَعُهَا إِلَّا ذُنُوبُ الْعِبَادِ وَسَيِّئَاتُهُمْ، فَمَنْ وَقَيْتَهُ السَّيِّئَاتِ وَفَّقْتَهُ لِلْحَسَنَاتِ وَجَزَائِهَا الْحَسَنِ. {وَذَلِكَ} أَيْ: زَوَالُ الْمَحْذُورِ بِوِقَايَةِ السَّيِّئَاتِ، وَحُصُولِ الْمَحْبُوبِ بِحُصُولِ الرَّحْمَةِ، {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الَّذِي لَا فَوْزَ مَثْلَهُ، وَلَا يَتَنَافَسُ الْمُتَنَافِسُونَ بِأَحْسَنَ مِنْهُ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الدُّعَاءُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَالَ مَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَالتَّوَسُّلَ إِلَى اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، الَّتِي يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ التَّوَسُّلَ بِهَا إِلَيْهِ، وَالدُّعَاءَ بِمَا يُنَاسِبُ مَا دَعَوُا اللَّهَ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ دُعَاؤُهُمْ بِحُصُولِ الرَّحْمَةِ، وَإِزَالَةِ أَثَرِ مَا اقْتَضَتْهُ النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ الَّتِي عَلِمَ اللَّهُ نَقْصَهَا وَاقْتِضَاءَهَا لِمَا اقْتَضَتْهُ مِنَ الْمَعَاصِي، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَبَادِئِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا عِلْمًا تَوَسَّلُوا بِالرَّحِيمِ الْعَلِيمِ.
وَتَضَمَّنَ كَمَالُ أَدَبِهِمْ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِقْرَارِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ لَهُمُ الرُّبُوبِيَّةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا دُعَاؤُهُمْ لِرَبِّهِمْ صَدَرَ مِنْ فَقِيرٍ بِالذَّاتِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، لا يَدُلُّ على ربِّهِ
– الشيخ : "لا يُدْلِي"، "لا يُدْلِي"، أو "لا يُدِلُّ"
– القارئ : عندي: "لا يُدِلُّ"
– الشيخ : "لا يُدِلُّ" صحيح
– القارئ : "لا يُدِلُّ" كذا؟
– الشيخ : إي "لا يُدِلُّ" بالدال.
– القارئ : أحسنَ اللهُ إليك، "لا يَدُلُّ".
– الشيخ : لا، "لا يُدِلُّ"، بكسرِ الدال
– القارئ : بكسر الدال، نعم
– الشيخ : يعني ما يمنُّ على الله {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل… بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} [الحجرات:17]
– القارئ : لا يُدِلُّ عَلَى رَبِّهِ بِحَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، إِنْ هُوَ إِلَّا فَضْلُ اللَّهِ وَكَرَمُهُ وَإِحْسَانُهُ.
وَتَضَمَّنَ مُوَافَقَتَهُمْ لِرَبِّهِمْ تَمَامَ الْمُوَافَقَةِ، بِمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ الْعِبَادَاتُ الَّتِي قَامُوا بِهَا، وَاجْتَهَدُوا اجْتِهَادَ الْمُحِبِّينَ، وَمِنَ الْعُمَّالِ الَّذِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ، فَسَائِرُ الْخَلْقِ الْمُكَلَّفِينَ يَبْغَضُهُمُ اللَّهُ إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، فَمِنْ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ دَعَوُا اللَّهَ، وَاجْتَهَدُوا فِي صَلَاحِ أَحْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ لِلشَّخْصِ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى مَحَبَّتِهِ، لأنه
– طالب: "مِن محبةِ الملائكة".
– الشيخ : أيش تقول أنت عندك؟
– القارئ : "مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى مَحَبَّةِ الْمَلَائِكَةِ"؟
– الشيخ : عندك أيش؟
– طالب: فَسَائِرُ الْخَلْقِ الْمُكَلَّفِينَ يَبْغَضُهُمُ اللَّهُ إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، فَمِنْ مَحَبَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ دَعَوُا اللَّهَ
– الشيخ : نعم، ماشي.
– القارئ : فَمِنْ مَحَبَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ دَعَوُا اللَّهَ، وَاجْتَهَدُوا فِي صَلَاحِ أَحْوَالِهِمْ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ لِلشَّخْصِ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى مَحَبَّتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْعُو إِلَّا لِمَنْ يُحِبُّهُ.
وَتَضَمَّنَ مَا شَرَحَهُ اللَّهُ وَفَصَّلَهُ مِنْ دُعَائِهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} التَّنْبِيهَ اللَّطِيفَ عَلَى كَيْفِيَّةِ تَدَبُّرِ كِتَابِهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ الْمُتَدَبِّرُ مُقْتَصِرًا عَلَى مُجَرَّدِ مَعْنَى اللَّفْظِ بِمُفْرَدِهِ، بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَدَبَّرَ مَعْنَى اللَّفْظِ، فَإِذَا فَهِمَهُ فَهْمًا صَحِيحًا عَلَى وَجْهِهِ، نَظَرَ بِعَقْلِهِ إِلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ وَالطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ وَمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَجَزَمَ بِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَهُ، كَمَا يَجْزِمُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَى الْخَاصَّ، الدَّالَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ.
وَالَّذِي يُوجِبُ لَهُ الْجَزْمَ بِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَهُ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَتُهُ وَجَزْمُهُ بِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْمَعْنَى وَالْمُتَوَقِّفِ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: عِلْمُهُ بِأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ عِبَادَهَ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي كِتَابِهِ.
وَقَدْ عَلِمَ تَعَالَى مَا يَلْزَمُ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَهُوَ الْمُخْبِرُ بِأَنَّ كِتَابَهُ هُدًى وَنُورٌ وَتِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ أَفْصَحُ الْكَلَامِ وَأَجَلُّهُ إِيضَاحًا، فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مِنَ الْعِلْمِ الْعَظِيمِ وَالْخَيْرِ الْكَثِيرِ، بِحَسَبِ مَا وَفَّقَهُ اللَّهُ لَهُ وَقَدْ كَانَ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا كَثِيرٌ مِنْ هَذَا مَنَّ بِهِ اللَّهُ عَلَيْنَا.
وَقَدْ يَخْفَى فِي بَعْضِ الْآيَاتِ مَأْخَذُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُتَأَمِّلِ صَحِيحِ الْفِكْرَةِ، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْنَا مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِصَلَاحِ أَحْوَالِنَا وَأَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ لَنَا إِلَّا التَّعَلُّقُ بِكَرَمِهِ، وَالتَّوَسُّلُ بِإِحْسَانِهِ، الَّذِي لَا نَزَالُ نَتَقَلَّبُ فِيهِ فِي كُلِّ الْآنَاتِ، وَفِي جَمِيعِ اللَّحَظَاتِ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَقِينَا شَرَّ أَنْفُسِنَا الْمَانِعَ وَالْمُعَوِّقَ لِوُصُولِ رَحْمَتِهِ، إِنَّهُ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ الَّذِي تَفَضَّلَ بِالْأَسْبَابِ وَمُسَبِّبَاتِهَا.
وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُقَارِنَ مِنْ زَوَّجٍ وَوَلَدٍ وَصَاحِبٍ يَسْعَدُ بِقَرِينِهِ، وَيَكُونُ اتِّصَالُهُ بِهِ سَبَبًا لِخَيْرٍ يَحْصُلُ لَهُ خَارِجاً عَنْ عَمَلِهِ وَسَبَبِ عَمَلِهِ كَمَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ صَلَاحِهِمْ لِقَوْلِهِ: {وَمَنْ صَلَحَ} فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ نَتِيجَةِ عَمَلِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
انتهى.