الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة غافر/(3) من قوله تعالى {إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر} الآية 10 إلى قوله تعالى {فادعوا الله مخلصين له الدين} الآية 14

(3) من قوله تعالى {إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر} الآية 10 إلى قوله تعالى {فادعوا الله مخلصين له الدين} الآية 14

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة غافر

الدَّرس: الثَّالث

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ * ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:10-14]

– الشيخ : إلى هنا. لا إله إلا الله

الحمدُ لله، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ} يعني: يُنَادَوْنَ يومَ القيامةِ توبيخًا، توبيخًا لهم {يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ} الـمَقْتُ هو أشدُّ البُغْضُ {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} يعني: أنتم مَقَتُّم أنفسَكم بكفرِكم {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} مَنْ يُدْعَى إلى الإيمانِ ويكفرْ هو مَقَتَ نفسَه، هو الذي ظَلَمَ نفسَه، الناصح لنفسِهِ هو الذي يسعى في نجاتِها ونجاحِها وخلاصِها وسعادتِها، أعوذ بالله {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}.

{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} الموتةُ الأولى يومَ كانوا في الأصلابِ والأرحامِ، والموتةُ الثانيةُ المعروفةُ التي بعدَ هذه الحياة، والحَيَاتَيْنِ هي الحياةُ الدنيا، والحياةُ التي تكونُ يومَ البعثِ، يُوضِحُ ذلكَ قولُهُ تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28] تمام، هذه الآية -آيةُ البقرة- تُفَسِّرُ هذه الآية: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} الآن هم يعترفون، أقرُّوا بأنَّهم مَرَّ عليهم هذه الأطوارِ والأحوالِ، وأنَّهم يعترفون {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} هل لنا سبيلٌ للخروجِ والخلاصِ مِن هذا العَطَبِ، وهذا الضلالِ، وهذا الهلاكِ، {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ}.

{ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} هكذا كانَتْ حالتُكُم، إذا دُعِيَ اللهُ إلهًا واحدًا كفرتُم، مثل: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]

 {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} سبحانَه وتعالى، هذا اسمانِ مِن أسمائِهِ: العليُّ الكبيرُ، العليُّ العظيمُ {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}.

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} آياتِهِ الكونية، {يُرِيكُمْ آيَاتِهِ}، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ} [آل عمران:190] كثيرًا ما يذكرُ اللهُ ويُنَبِّهُ إلى الآياتِ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:11] {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:12] {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [النحل:13] {إِنَّ فِي ذَلِكَ} {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ}.

{وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا} {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا} وهو المطرُ، الغيثُ الذي، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ} [البقرة:22] فسمَّى اللهُ ذلك الماء رِزْقًا {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ * وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا}.

{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} ما يَتَذَكَّرُ إلا مَن يرجعُ إلى ربِّهِ ويُخبِتُ ويخضعُ لأمرِ ربِّهِ، وينقادُ لحكمِهِ وأمرِهِ وشرعِهِ.

{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ} هذا هو المطلبُ مِن العبادِ {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ادعوا اللهَ وحدَهُ لا شريكَ له، اعبدوا اللهَ وحدَه لا شريكَ له، اعبدوهُ وادعوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، ولو على رغمِ الكافرينَ، فإنَّ الكافرينَ يكرهونَ ذلك مِن المسلمين {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.

 

(تفسيرُ السعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ رحمه الله تعالى في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآيات.

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْفَضِيحَةِ وَالْخِزْيِ الَّذِي يُصِيبُ الْكَافِرِينَ، وَسُؤَالِهِمُ الرَّجْعَةَ وَالْخُرُوجَ مِنَ النَّارِ، وَامْتِنَاعِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَطْلَقُهُ؛ لِيَشْمَلَ أَنْوَاعَ الْكُفْرِ كُلَّهَا، مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، أَوْ بِكُتُبِهِ أَوْ بِرُسُلِهِ أَوْ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، حِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ وَيُقِرُّونَ أَنَّهُمْ مُسْتَحَقُّونَهَا؛ لِمَا فَعَلُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْأَوْزَارِ

– الشيخ : أعوذُ باللهِ، أعوذُ باللهِ مِن الكُفْرِ باللهِ، نسألُ اللهَ لنا ولكم الثباتَ على هذا الدِّين، اللهمَّ ثبِّتْ قلوبَنَا على دينِكَ، سبحان الله، لا إله إلا الله، نعمةُ الإسلامِ فوقَ كلِّ النِّعَمِ التي يُحِبُّهَا الإنسانُ ويَطلبُها، لا إله إلا الله، يا لها مِن نعمةٍ عظيمةٍ! لكن نسألُ اللهَ الاستقامةَ والثباتَ حتى الوفاة.

 

– القارئ : فَيَمْقُتُونَ أَنْفُسَهُمْ لِذَلِكَ أَشَدَّ الْمَقْتِ، وَيَغْضَبُونَ عَلَيْهَا غَايَةَ الْغَضَبِ، فَـ {يُنَادَوْنَ} عِنْدَ ذَلِكَ، وَيُقَالُ لَهُمْ: {لَمَقْتُ اللَّهِ} أَيْ: إِيَّاكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ أَيْ: حِينَ دَعَتْكُمُ الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَأَقَامُوا لَكُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ مَا تَبَيَّنَ بِهِ الْحَقُّ، فَكَفَرْتُمْ وَزَهَدْتُمْ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي خَلَقَكُمُ اللَّهُ لَهُ، وَخَرَجْتُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، فَمَقَتَكُمْ وَأَبْغَضَكُمْ، فَهَذَا {أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ: فَلَمْ يَزَلْ هَذَا الْمَقْتُ مُسْتَمِرًّا عَلَيْكُمْ، وَالسُّخْطُ مِنَ الْكَرِيمِ حَالًّا بِكُمْ،

– الشيخ : أعوذُ باللهِ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ العافيةَ، أعوذُ باللهِ.

– القارئ : حَتَّى آلَتْ بِكُمُ الْحَالُ إِلَى مَا آلَتْ، فَالْيَوْمَ حَلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبُ اللَّهِ وَعِقَابُهُ حِينَ نَالَ الْمُؤْمِنُونَ رِضْوَانَ اللَّهِ وَثَوَابَهُ.

فَتَمَنَّوُا الرُّجُوعَ وَ {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} يُرِيدُونَ الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَمَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، عَلَى مَا قِيلَ.

– الشيخ : "وما بينَ النَّفْخَتَيْن" ما! لا إله إلا الله.

– القارئ : أَوِ الْعَدَمِ الْمَحْضِ قَبْلَ إِيجَادِهِمْ، ثُمَّ أَمَاتَهُمْ بَعْدَمَا أَوَجَدَهُمْ، {وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْحَيَاةَ الْأُخْرَى، {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} أَيْ: تَحَسَّرُوا وَقَالُوا ذَلِكَ، فَلَمْ يُفِدْ وَلَمْ يَنْجَعْ، وَوُبِّخُوا عَلَى عَدَمِ فِعْلِ أَسْبَابِ النَّجَاةِ، فَقِيلَ لَهُمْ: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ} أَيْ: إِذَا دُعِيَ لِتَوْحِيدِهِ، وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لَهُ، وَنَهَى عَنِ الشِّرْكِ بِهِ {كَفَرْتُمْ بِهِ} وَاشْمَأَزَّتْ لِذَلِكَ قُلُوبُكُمْ وَنَفَرْتُمْ غَايَةَ النُّفُورِ.

{وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} أَيْ: هَذَا الَّذِي أَنْزَلَكُمْ هَذَا الْمُنْزَلَ وَبَوَّأَكُمْ هَذَا الْمَقِيلَ وَالْمَحَلَّ، أَنَّكُمْ تَكْفُرُونَ بِالْإِيمَانِ، وَتُؤْمِنُونَ بِالْكُفْرِ، تَرْضَوْنَ بِمَا هُوَ شَرٌّ وَفَسَادٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَكْرَهُونَ مَا هُوَ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

تُؤْثِرُونَ سَبَبَ الشَّقَاوَةِ وَالذُّلِّ وَالْغَضَبِ

– الشيخ : أعوذ بالله.

– القارئ : وَتَزْهَدُونَ بِمَا هُوَ سَبَبُ الْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ وَالظَّفْرِ، {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف:146]

{فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} الْعَلِيِّ: الَّذِي لَهُ الْعُلُوُّ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ: عُلُوُّ الذَّاتِ، وَعُلُوُّ الْقَدْرِ، وَعُلُوُّ الْقَهْرِ، وَمِنْ عُلُوِّ قَدْرِهِ: كَمَالُ عَدْلِهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا

– الشيخ : لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له.

– القارئ : وَلَا يُسَاوِي بَيْنَ الْمُتَّقِينَ وَالْفُجَّارِ.

الْكَبِيرِ الَّذِي لَهُ الْكِبْرِيَاءُ وَالْعَظَمَةُ وَالْمَجْدُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، الْمُتَنَزَّهُ عَنْ كُلِّ آفَةٍ وَعَيْبٍ وَنَقْصٍ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ لَهُ تَعَالَى، وَقَدْ حَكَمَ عَلَيْكُمْ بِالْخُلُودِ الدَّائِمِ، فَحُكْمُهُ لَا يُغَيَّرُ وَلَا يُبَدَّلُ.

قال الله تعالى:

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} الآيات.

يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَى عِبَادِهِ بِتَبْيِينِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، بِمَا يُرِيْ عِبَادَهُ مِنْ آيَاتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْآفَاقِيَّةِ وَالْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى كُلِّ مَطْلُوبٍ مَقْصُودٍ، الْمُوَضِّحَةِ لِلْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى عِنْدَ النَّاظِرِ فِيهَا وَالْمُتَأَمِّلِ لَهَا أَدْنَى شَكٍّ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ، حَيْثُ لَمْ يُبْقِ الْحَقَّ مُشْتَبَهًا وَلَا الصَّوَابَ مُلْتَبِسًا، بَلْ نَوَّعَ الدَّلَالَاتِ وَوَضَّحَ الْآيَاتِ، لِيَهْلَكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَكُلَّمَا كَانَتِ الْمَسَائِلُ أَجَلَّ وَأَكْبَرَ، كَانَتِ الدَّلَائِلُ عَلَيْهَا أَكْثُرَ وَأَيْسَرَ، فَانْظُرْ إِلَى التَّوْحِيدِ لَمَّا كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ مِنْ أَكْبَرِ الْمَسَائِلِ، بَلْ أَكْبَرُهَا، كَثُرَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَيْهَا الْعَقْلِيَّةُ وَالنَّقْلِيَّةُ وَتَنَوَّعَتْ، وَضَرَبَ اللَّهُ لَهَا الْأَمْثَالَ وَأَكْثَرَ لَهَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَلِهَذَا ذَكَرَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَنَبَّهَ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَدِلَّتِهَا فَقَالَ: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}

وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُرِي عِبَادَهُ آيَاتِهِ، نَبَّهَ عَلَى آيَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} أَيْ: مَطَرًا بِهِ تُرْزَقُونَ وَتَعِيشُونَ أَنْتُمْ وَبَهَائِمُكُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنْهُ:

فَمِنْهُ نِعَمُ الدِّينِ، وَهِيَ الْمَسَائِلُ الدِّينِيَّةُ وَالْأَدِلَّةُ عَلَيْهَا، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْعَمَلِ بِهَا.

وَالنِّعَمُ الدُّنْيَوِيَّةُ كُلُّهَا، كَالنِّعَمِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْغَيْثِ، الَّذِي تَحْيَا بِهِ الْبِلَادُ وَالْعِبَادُ.

وَهَذَا يَدُلُّ دَلَالَةً قَاطِعَةً أَنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، الَّذِي يَتَعَيَّنُ إِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ -وَحْدَهُ- الْمُنْعِمُ.

{وَمَا يَتَذَكَّرُ} بِالْآيَاتِ حِينَ يُذَكِّرُ بِهَا {إِلا مَنْ يُنِيبُ} إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِقْبَالِ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَخَشْيَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ، فَهَذَا الَّذِي يَنْتَفِعُ بِالْآيَاتِ، وَتَصِيرُ رَحْمَةً فِي حَقِّهِ، وَيَزْدَادُ بِهَا بَصِيرَةً.

وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَاتُ تُثْمِرُ التَّذَكُّرَ، وَالتَّذَكُّرُ يُوجِبُ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ، رَتَّبَ الْأَمْرَ عَلَى ذَلِكَ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى السَّبَبِيَّةِ فَقَالَ: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَهَذَا شَامِلٌ لِدُعَاءِ الْعِبَادَةِ وَدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ، وَالْإِخْلَاصُ مَعْنَاهُ: تَخْلِيصُ الْقَصْدِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ: حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ. أَيْ: أَخْلِصُوا لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَا تُدِينُونَهُ بِهِ وَتَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهِ.

{وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} لِذَلِكَ، فَلَا تُبَالُوا بِهِمْ، وَلَا يُثْنِكُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِكُمْ،

– الشيخ : "وَلَا يَثْنِكُمْ" … ثَنَاهُ على الشيءِ، يَثْنِيْهِ، "وَلَا يَثْنِكُمْ".

– القارئ : وَلَا يَثْنِكُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِكُمْ، وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِاللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَإِنَّ الْكَافِرِينَ يَكْرَهُونَ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ وَحْدَهُ غَايَةَ الْكَرَاهَةِ، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]

ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ جَلَالِهِ وَكَمَالِهِ مَا يَقْتَضِي إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ لَهُ

الشيخ : إلى آخرِهِ، {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ}.