بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة غافر
الدَّرس: الثَّامن
*** *** ***
– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:30-35]
– الشيخ : إلى هنا.
يُخبِرُ تعالى عن ذلك الرجلِ المؤمنِ مِن آل فرعون الذي يَكْتُمُ إيمانَهُ، يُخبِرُ عنه، عن بعض أقوالِهِ وإنذارِه لقومِه ووعظِه لهم {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ} الذي تقدَّم ذكره {قَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} يعني: الأُمم الماضية الهالِكَة، وفَسَّرَ ذلك:
{مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ} بعدهم أممٌ، يقولُ: أخافُ عليكم مثلَ أيامِهم التي جرَتْ عليهِم {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} فهذه تحذيرٌ، هذا تحذيرٌ وإنذارٌ وتخويفٌ {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} ثمَّ هذا فيه أنه يُظهِرُ الشفقةَ أنه يُحَذِّرُهم؛ شفقةً عليهم يقولُ: أخافُ {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} فهذا يُشعِرُ بأنه مُشفِقٌ عليهم، وأنَّهُ قالَ لهم ما قالَ؛ نصيحةً لهمْ وحُبَّاً وحِرصاً على سلامتِهم ونجاتِهم.
{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} أيضاً هذا تخويفٌ آخر، {يَوْمَ التَّنَادِ} يومُ القيامةِ، خَوَّفَهم بما جرى في هذه الدنيا على الأممِ الظالمةِ، الذين كَذَّبوا الرسلَ كذَّبُوا رسلَهم، ثمَّ خَوَّفَهم بِما أمامَهم يومَ القيامةِ {يَوْمَ التَّنَادِ} يُنادي الناسُ بعضُهم بعضاً، يَتَنَادُونَ {يَوْمَ التَّنَادِ}
{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.
ثم ذكَّرَهُم بيوسفَ عليه السلام؛ لأنَّ يوسفَ -كما جاءَ في قصتِهِ- كانَ في مصرَ، وكانَ نبياً ورسولاً {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} ظَنُّوا أنَّهم لنْ يأتيهم بعدَ يوسفَ رسولٌ، ولكن قدْ جاءَهم رسولٌ، قد جاءهم موسى وهارونُ عليهما السلام، {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ.. حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً}. {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} بالمعاصي، مُسْرِفٌ، وشاكٌّ {مُّرْتَابٌ} فهذا لا يهديهِ اللهُ ولا يُوَفقّهُ، بل الإسرافُ والشَّكُ سببٌ للضلالِ والحِرمانِ من الهدى.
{وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ}.
{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} يُجَادِلُونَ معارضينَ لآياتِ اللهِ ومُكَذِّبينَ {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} بغيرِ حُجةٍ، {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ}.
{كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا} الجِدالُ في آياتِ اللهِ مُوجِبٌ للمَقْتِ، لمَقْتِ اللهِ ومَقْتِ المؤمنين، فاللهُ يمقُتُ المجادلينَ في آياتِ اللهِ، والمؤمنون يمقتُونَهُم ويُبْغِضُونَهم والـمَقْتُ: أشدُّ البُغْضِ {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا}.
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} فالـمُتكَّبرونَ الجبَّارون، المتكَّبرونَ على الحقِّ مُتكبِّرونَ على عبادِ الله، الجبَّارونَ أصحابُ الجبروتِ والظلمِ والتَّسَلُّطِ على خلقِ اللهِ، هؤلاء قد طُبِعَ على قلوبِهم {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}.
(تفسير السعدي):
– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ رحمَه اللهُ تعالى:
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ} مُكَرِّرًا دَعْوَةَ قَوْمِهِ غَيْرَ آيِسٍ مِنْ هِدَايَتِهِمْ، كَمَا هِيَ حَالَةُ الدُّعَاةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَزَالُونَ يَدْعُونَ إِلَى رَبِّهِمْ، وَلَا يَرُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ رَادٌّ، وَلَا يَثْنِيهِمْ عُتُوُّ مَنْ دَعَوْهُ عَنْ تَكْرَارِ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ لَهُمْ: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} يَعْنِي: الْأُمَمَ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ.
– الشيخ : سبحان الله التناسبُ! شوف ذكرِ الأحزابِ وذكر حالةِ الـمُكذّبين بنفسِ السورةِ، {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر:5،4]
– القارئ : الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى مُعَارَضَتِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَهُمْ فَقَالَ: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ
– الشيخ : هؤلاءِ هذا تفسيرٌ للأحزابِ، هؤلاءِ همُ الأحزابُ، ومَن بعدَهم.
– القارئ : وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أَيْ: مِثْلَ عَادَتِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَعَادَةِ اللَّهِ فِيهِمْ بِالْعُقُوبَةِ الْعَاجِلَةِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} فَيُعَذِّبُهُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ أَذْنَبُوهُ، وَلَا جُرْمٍ أَسْلَفُوهُ.
وَلَمَّا خَوَّفَهُمُ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ، خَوَّفَهُمُ الْعُقُوبَاتِ الْأُخْرَوِيَّةَ، فَقَالَ: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حيث يُنَادِي أَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ [الأعراف:44]
{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:44]
وَحِينَ يُنَادِي أَهْلُ النَّارِ مَالِكًا {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فَيَقُولُ: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] وَحِينَ يُنَادُونَ رَبَّهُمْ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فَيُجِيبُهُمْ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] وَحِينَ يُقَالُ لِلْمُشْرِكِينَ: {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [القصص:64]
– الشيخ : ويوم يناديهم، الشيخ في هذا يُبيِّنُ معنى قولِهِ: {يَومَ التَّنَادِ} ويُبيِّنُ أنَّ اللهَ ذكرَ التنادي في ذلكَ اليوم {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا} [الأعراف:48] {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44] {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:50] فهذا يُفسِرُ لنا هذه الآيات وهذه الشواهد، فيها تفسيرٌ لمعنى أنَّ يومَ القيامةِ يوم "التناد"، "التناد" يعني التَّنادي يُنادِي الناسُ بعضُهم بعضاً والله ينادِي مَن شاءَ وينادي المشركين {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} وينادِي الرسل: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا} [المائدة:109] {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى} [المائدة:116] كلُّها في تنادٍ.
– القارئ : فَخَوَّفَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا الْيَوْمَ الْمَهُولَ، وَتَوَجَّعَ لَهُمْ أَنْ أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} أَيْ: قَدْ ذُهِبَ بِكُمْ إِلَى النَّارِ {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} لَا مِنْ أَنْفُسِكُمْ قُوَّةٌ تَدْفَعُونَ بِهَا عَذَابَ اللَّهِ، وَلَا يَنْصُرُكُمْ مَنْ دُونِهِ مَنْ أَحَدٍ، {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق:10،9]
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} لِأَنَّ الْهُدَى بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا مَنَعَ عَبْدَهُ الْهُدَى ِلعِلْمِهِ أَنَّهُ غَيْرُ لَائِقٍ بِهِ لِخُبْثِهِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى هِدَايَتِهِ.
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ} بْنُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ {مِنْ قَبْلُ} إِتْيَانِ مُوسَى {بِالْبَيِّنَاتِ} الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ، وَأَمَرَكُمْ بِعِبَادَةِ رَبِّكُمْ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} فِي حَيَاتِهِ {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} ازْدَادَ شَكُّكُمْ وَشِرْكُكُمْ، وَ {قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} أَيْ: هَذَا ظَنُّكُمُ الْبَاطِلُ، وَحُسْبَانُكُمُ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَتْرُكُ خَلْقَهُ سُدًى، لَا يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ، بَلْ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَالظَنُّ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ رُسُلًا ظَنُّ ضَلَالٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} وَهَذَا هُوَ وَصْفُهُمُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي وَصَفُوا بِهِ مُوسَى ظُلْمًا وَعُلُوًّا، فَهُمُ الْمُسْرِفُونَ بِتَجَاوُزِهِمِ الْحَقِّ وَعُدُولِهِمْ عَنْهُ إِلَى الضَّلَالِ، وَهُمُ الْكَذَبَةُ حَيْثُ نَسَبُوا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ.
فَالَّذِي وَصْفُهُ السَّرَفُ وَالْكَذِبُ، لَا يَنْفَكُّ عَنْهُمَا، لَا يَهْدِيهِ اللَّهُ، وَلَا يُوَفِّقُهُ لِلْخَيْرِ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ الْحَقَّ بَعْدَ أَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ وَعَرَّفَهُ، فَجَزَاؤُهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَمْنَعَهُ الْهُدَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الصف:7]
ثُمَّ ذَكَرَ وَصْفَ الْمُسْرِفِ الْمُرْتَاب فَقَالَ: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} الَّتِي بَيَّنَتِ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَصَارَتْ -مِنْ ظُهُورِهَا- بِمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ لِلْبَصَرِ، فَهُمْ يُجَادِلُونَ فِيهَا عَلَى وُضُوحِهَا، لِيَدْفَعُوهَا وَيُبْطِلُوهَا {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} أَيْ: بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، وَهَذَا وَصْفٌ لَازِمٌ لِكُلِّ مَنْ جَادَلَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يُجَادِلَ بِسُلْطَانٍ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يُعَارِضُهُ مُعَارِضٌ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَارَضَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ أَوْ عَقْلِيٍّ أَصْلًا {كَبُرَ} ذَلِكَ الْقَوْلُ الْمُتَضَمِّنُ لِرَدِّ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ {مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} فَاللَّهُ أَشَدُّ بُغْضًا لِصَاحِبِهِ، لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ التَّكْذِيبَ بِالْحَقِّ وَالتَّصْدِيقَ بِالْبَاطِلِ وَنِسْبَتَهُ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ يَشْتَدُّ بُغْضُ اللَّهِ لَهَا وَلِمَنِ اتُّصِفَ بِهَا، وَكَذَلِكَ عِبَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ يَمْقُتُونَ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْمَقْتِ مُوَافَقَةً لِرَبِّهِمْ، وَهَؤُلَاءِ خَوَاصُّ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَقْتُهُمْ دَلِيلٌ عَلَى شَنَاعَةِ مَنْ مَقَتُوهُ، {كَذَلِكَ} أَيْ: كَمَا طَبَعَ عَلَى قُلُوبِ آلِ فِرْعَوْنَ {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} مُتَكَبِّرٍ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْحَقِّ بِرَدِّهِ وَعَلَى الْخَلْقِ بِاحْتِقَارِهِمْ، جَبَّارٍ بِكَثْرَةِ ظُلْمِهِ وَعُدْوَانِهِ.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ}
– الشيخ : انتهى بس [فقط].