بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة غافر
الدَّرس: التَّاسع
*** *** ***
– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:36-40]
– الشيخ : إلى هنا بس [فقط]. لا إله إلا الله.
يُخبِرُ تعالى عَن هذا الكافرِ الطَّاغِي الجاحدِ فرعونَ أنه قالَ تَمْويْهَاً على قومِهِ واستخفافاً لهم، أنه قالَ لوزيرِه هامان: {يَا هَامَانُ} يقولُ له: {يا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} بناءً عالياً، بناءً عالياً {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص:38] {لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} وهو كاذبٌ في هذا القولِ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ} [النمل:14] وقالَ تعالى عَن موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ} [الإسراء:102] فهو جاحدٌ مُعَانِدٌ مُستكبِرٌ.
واستدلَّ العلماءُ بهذا القولِ أنَّ موسى أخبرَ..، يعني يستدلُّون بهذه الآية، يستدلُّون بها على عُلُوِّ اللهِ وأنَّ موسى قالَ لفرعونَ: إنَّ ربَّهُ في السماءِ، فهِيَ مِن أدلَّةِ العُلُو.
فأهلُ السُّنةِ الـمُثْبِتُونَ لِعُلُوِّ اللهِ هؤلاء مِن أتباعِ موسى يؤمنونَ بأنَّ اللهَ في السماءِ، والجَاحِدُونَ النفاةُ للعُلُوِّ فِرعونيَّةٌ، يُشَبِّهُونَ فرِعونَ في جحدِهِ للهِ ولِعُلُوِّهِ. {لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا}.
{وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} هكذا يعني هذا مِن ضلالِهِ وعظيمِ جهلِهِ، زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ -عَمَلُهُ السَّيءِ- عَمَلُهُ السَّيءِ زُيِّنُ لَه فهو مغرورٌ، {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ} وسوءُ عملِهِ {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} صُدَّ عَن سبيلِ اللهِ، عَن سبيلِ الحَقِّ وسبيلِ الرُّشدِ. {زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ}.
{وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} كيدُهُ وقوتُهُ وجنودُهُ كلُّها إلى خَسَارٍ وبَوَارٍ {فِي تَبَابٍ}.
وهذا الخبرُ عَن فرعونَ جاءَ -سبحان الله- مُعْتَرِضَاً في أثناءِ كلامِ المؤمِنِ، فالخبرُ عَن المؤمِن لمْ يَنْتَهِ، ولهذا عادَ السياقُ إلى ذكرِ ما قالَهُ المؤمِنُ الرجلُ المؤمِنُ: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} سبيلَ الحقِّ وسبيلَ الرُّشدِ {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} نقيضَ قولِ فرعونَ، فرعونُ يقولُ: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} فهذا رَدٌّ عليهِ، فهذا المؤمنُ هو الذي على السبيلِ، على سبيلِ الحَقِّ، وهو الذي يَهدي لسبيلِ الرشادِ حقاً لا فرعونُ الكافرُ.
ثمَّ يُذَكِّرُهُم بحالِ الدنيا وأنَّها مَتَاَعٌ زائلٌ، وأنَّ الآخرةَ هي الدارُ الباقيةُ: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160] فالجزاءُ في الآخرةِ على هذا الأصلِ، السيئةُ بـمِثْلِها، {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} لا يُظلَمُ بالزيادةِ -بزيادةِ السَّيئاتِ عليه-، سيئةٌ بسيئة.
{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} جزاؤُهُم الجنةُ، وعمَلُهُم مُضَاعَفٌ فالحسنةُ بعشرِ أمثالِها إلى سبعمائةِ ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، فهذهِ نصائحُ مِن هذا الرجلِ المؤمنِ: {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} هذا مَطلبُ دعوةٍ، دعوةٍ لسبيلِ الحَقِّ، لاتِّباعِ الرسلِ، لاتِّباعِ موسى عليه السلام.
{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} يعني: متاعٌ قليلٌ زائلٌ {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} هي الدارُ الباقيةُ، سواءً في الجنةِ أو في السَّعيرِ فكلٌّ مِن أهلِ الدَّارَيْنِ مُخلَّدٌ فيما هو فيهِ، نعوذُ باللهِ مِن النَّارِ، مُخَلَّدٌ، أهلُ الجنةِ خلودٌ فيها أبداً، وأهلُ النارِ كذلك، {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا * وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} يُرْزَقُونَ فِيهَا رِزْقاً عَظيماً كثيراً وافراً مُضَاعَفَاً، لا إله إلا الله.
(تفسيرُ السَّعديّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ رحمَهُ اللهُ تعالى، في تفسير قولِ اللهِ تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} الآيات:
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} مُعَارِضًا لِمُوسَى وَمُكَذِّبًا لَهُ فِي دَعْوَتِهِ إِلَى الْإِقْرَارِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَعَلَى الْخَلْقِ اعْتَلَى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} أَيْ: بِنَاءً عَظِيمًا مُرْتَفِعًا، وَالْقَصْدُ مِنْهُ: {لَعَلِّي أَطْلَعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} فِي دَعْوَاهُ أَنَّ لَنَا رَبًّا، وَأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَحْتَاطَ فِرْعَوْنُ، وَيَخْتَبِرَ الْأَمْرَ بِنَفْسِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} فَزُيِّنَ لَهُ الْعَمَلُ السَّيِّئُ، فَلَمْ يَزَلِ الشَّيْطَانُ يُزَيِّنُهُ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَيْهِ وَيُحْسِّنُهُ، حَتَّى رَآهُ حَسَنًا وَدَعَا إِلَيْهِ وَنَاظَرَ مُنَاظَرَةَ الْمُحِقِّينَ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُفْسِدِينَ، {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ الْحَقِّ} بِسَبَبِ الْبَاطِلِ الَّذِي زُيِّنَ لَهُ. {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ} الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَكِيدَ بِهِ الْحَقَّ، وَيُوهِمَ بِهِ النَّاسَ أَنَّهُ مُحِقٌّ، وَأَنَّ مُوسَى مُبْطِلٌ {إلّا فِي تَبَابٍ} أَيْ: خَسَارٍ وَبَوَارٍ، لَا يُفِيدُهُ إِلَّا الشَّقَاءُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ مُعِيدًا نَصِيحَتَهُ لِقَوْمِهِ: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} لَا كَمَا يَقُولُ لَكُمْ فِرْعَوْنُ فَإِنَّهُ لَا يَهْدِيكُمْ إِلَّا طَرِيقَ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ.
{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} يُتَمَتَّعُ بِهَا وَيُتَنَعَّمُ قَلِيلًا ثُمَّ تَنْقَطِعُ وَتَضْمَحِلُّ، فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ وَتَخْدَعَنَّكُمْ عَمَّا خُلِقْتُمْ لَهُ {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}
– الشيخ : ربما أنَّ هذا الرجل -واللهُ أعلمُ- كان يَكتمُ إيمانَهُ، ثمَّ بعدَ ذلكَ جَهَرَ بالدعوةِ، كانَ هذا -والله أعلم- كانَ في البدايةِ يَكتمُ إيمانَه وكانَ يَتَلَطَّفُ، وأمَّا أخيراً فكأنَّهُ أعلنَ الدعوةَ كما في هذه الآياتِ والتي بعدَها.
– القارئ : {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْإِقَامَةِ، وَمَنْزِلُ السُّكُونِ وَالِاسْتِقْرَارِ، فَيَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تُؤْثِرُوهَا، وَتَعْمَلُوا لَهَا عَمَلًا يُسْعِدُكُمْ فِيهَا.
{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً} مِنْ شِرْكٍ أَوْ فَسُوقٍ أَوْ عِصْيَانَ {فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} أَيْ: لَا يُجَازَى إِلَّا بِمَا يَسُوؤُهُ وَيُحْزِنُهُ بقدرِ إساءتهِ وما تستحقُّهُ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ السُّوءُ.
{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ وَأَقْوَالِ اللِّسَانِ {وهُو مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أَيْ: يُعْطَوْنَ أَجْرَهُمْ بِلَا حَدٍّ وَلَا عَدٍّ، بَلْ يُعْطِيهُمُ اللَّهُ مَا لَا تَبْلُغُهُ أَعْمَالُهُمْ.
{وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ}
– الشيخ : {وَيَا قَوْمِ}، هذا باقي، نواصل فيه بعد، {وَيَا قَوْمِ}.
– القارئ : أحسن الله إليك.