بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة فصِّلت
الدَّرس: الأوَّل
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْـــمِ اللَّهِ الـــرَّحْمَــــنِ الــــرَّحِيـــــمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [فصلت:1-8]
– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله، هذه {حم} هذه السورةُ حم السجدة، مثل ألم السجدة، ويُقالُ لها: فُصِّلتْ، سورة فُصِّلَتْ، {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يعني: هذا الكتابُ تنزيلٌ، هذا القرآنُ تنزيلٌ من الرَّحمنِ الرَّحيمِ، مثل: {تَنْزِيلُ … مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحكيم} [الجاثية:2] {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
وذكرُ هذينِ الاسمينِ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وإضافةُ التنزيلِ إليه سبحانه {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هذا يُشعِرُ -واللهُ أعلمُ- باشتمال هذا الكتاب على الرحمةِ، فإنزالُ هذا القرآنِ رحمةٌ من الله، إرسالُ الرسولِ رحمةٌ، وإنزالُ الكتابِ رحمةٌ، وقد قالَ تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةً} [الأعراف:52] فهذا القرآنُ هدىً وهو رحمةٌ للمؤمنين، {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} مبيّنةً ومفصّلةً آياتُه، والأخبارُ والشرائعُ، الأوامرُ والنَّواهي.
{فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} قالَ تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً} [الأعراف:52] {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] لا إله إلَّا الله، {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} منزَّلٌ بلسانٍ عربيٍّ، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ} [الشعراء:192-195] {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يعني: أنزلَ اللهُ هذا القرآنَ وفصَّل آياتِه لمن يعقلُ، لِقَوْمٍ يعقلون ويفهمون ويدركون ويتدبَّرون.
{بَشِيرًا وَنَذِيرًا} يعني: أنزلَه الله بشيراً ونذيراً، فالقرآنُ يبشِّرُ وينذرُ، والرسولُ بشيرٌ ونذيرٌ، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9] {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} أكثرُ الناسِ أعرضوا عن هذا القرآنِ، وكذلك الأوَّلون مخاطَبونَ به من قريشٍ، وكثيرٌ من العربِ أعرضُوا عن هذا القرآنِ، {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} نعوذُ بالله من الخذلانِ، {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس:6-7]
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [غافر:59] وبهذا يعلمُ العبدُ الَّذي منَّ اللهُ عليه بالإسلام أنَّ اللهَ أنعمَ عليه نعمةً، نعمةٌ عظيمةٌ لا توازيها جميعُ النِّعمِ الَّتي يُعطاها الناسُ أو أُعطيها الناسُ، نعمةُ الإسلامِ نعمةٌ عظيمةٌ ومِنَّةٌ كبيرةٌ.
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} يقول الكافرون على وجه العنادِ: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} يعني: في أغطيةٍ، يعني: قلوبُنا مُغطَّاةٌ، كما قالَ الآخرون: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة:88] يعني: كأنَّه مثل موضوعة في غلافٍ، لا يدخلُ إليها خيرٌ ولا يخرجُ منها شرٌّ، {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} كما قالَ قومُ شعيبٍ لشعيب: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا} {مَا نَفْقَهُ} {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] فهذهِ حالُ أعداء الرُّسلِ أقوالُهم متشابهةٌ، أقوالُ أعداءِ الرُّسلِ، أقوالُهم متشابهةٌ، وقلوبُهم متشابهةٌ.
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} فيها صممٌ لا يسمعونَ، كلُّ هذا تعبيرٌ عن الإصرارِ على الكفر والتكذيب والعناد، {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} كأنَّهم يقولون: ادعُ واعملْ ما شئتَ فنحن في عملنا، يعني: تعبيرٌ عن الإصرار والإعراضِ، في الإصرارِ على التكذيب.
ثمَّ قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} نعم هو بشرٌ ولكنَّ اللهَ ميَّزَه، اللهُ ميَّزَه عن سائر البشرِ بالوحي الَّذي أنزلَه، ولهذا قالَ: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ليسَ لي فضلٌ عليكم إلَّا بما منَّ اللهُ به عليَّ، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم:11] كما قالَت الرُّسلُ: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم:11]
وقد منَّ اللهُ على رسلِه بالوحي والعلمِ والهدى، ومقصودُ الوحي هو التوحيدُ، المقصودُ الأوَّلُ من إرسالِ الرسلِ وإنزالِ الكتبِ هو أنْ يُعبَدَ اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ولهذا قال تعالى: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} استقيموا واقصدوا إليه وخصُّوهُ بالعبادة فإنَّه لا إلهَ غيره سبحانه وتعالى، {وَاسْتَغْفِرُوهُ} {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} اعبدوا اللهَ وحده لا شريكَ له، {وَاسْتَغْفِرُوهُ} وتوبوا إليه، وهذا كثيرٌ، هكذا الرسلُ يدعون الناسَ إلى أنْ يخلصوا الدِّينَ للهِ، إلى عبادةِ اللهِ وحده لا شريكَ له ويدعونهم إلى الاستغفارِ، كما جاءَ في سورة هود في مواضعَ، يقرنُ اللهُ بينَ الأمرِ بالتوحيد وعبادته وحدَه لا شريكَ له والاستغفار، {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:2-3]
{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} تهديدٌ ووعيدٌ للمشركين الَّذين اتَّخذوا من دون اللهِ أنداداً يعبدونهم ويحبّونهم، ويلٌ لهم، هذا فيه الوعيدُ الشَّديدُ.
{الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} المشركون ذمَّهم اللهُ بأنَّهم لا يؤتون الزكاةَ، قيلَ: الزكاةُ في المالِ، والكفَّارُ وإن كانوا…، الصحيحُ أنَّهم مخاطبون بالعبادات والفرائض لكنَّها لا تصحُّ منهم إلَّا إذا آمنوا بالله ورسوله وأقرُّوا له بالإلهيَّةِ وحدَه لا شريكَ له، وقيلَ: المرادُ بالزكاة زكاةُ النفسِ بالإيمان، {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} لا يُزكُّون أنفسَهم بالإيمان، بالإيمانِ والتوحيد، {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} فاجتمعَ لهم أنواعٌ من الكفر، الكفرُ بالشرك والكفرُ بتكذيب الرسولِ والكفرُ بالتكذيب بالآخرةِ، {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}
ثمَّ ذكرَ ما يقابلُ هؤلاء الكافرين المسرفين على أنفسِهم بقبيحِ الأعمال قالَ بعدها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ففي هذا ذكرُ فريقِ السُّعداءِ بعدَ ذكرِ فريقِ الأشقياءِ، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} فمن آمنَ من هؤلاء الكفَّارِ من آمنَ منهم وتابَ إلى اللهِ وأصلحَ العملَ فله أجرُه، لهم أجرٌ غيرُ مقطوعٍ، غيرُ ممنونٍ أي: غيرُ مقطوعٍ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:
تفسيرُ سورةِ السَّجدةِ وهيَ مكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم}
– الشيخ : المكِّيّ، الصحيحُ في التحديد أو معرفة المكِّيِّ والمدنيِّ أنَّ ما نزلَ من القرآنِ قبلَ الهجرةِ فهو مكِّيٌّ وما نزلَ بعد الهجرة فهو مدنيٌّ، هذا أحسنُ الضوابطِ في معرفةِ المكِّيِّ والمدنيِّ.
– القارئ : {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ…} الآياتُ:
يخبرُ تعالى عبادَهُ أنَّ هذا الكتابَ الجليلَ والقرآنَ الجميلَ {تَنزيلُ} صادرٌ {مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الَّذي وسعَتْ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ، الَّذي مِن أعظمِ رحمتِهِ وأجلِّها، إنزالُ هذا الكتابِ، الَّذي حصلَ بهِ مِن العلمِ والهدى، والنُّورِ، والشِّفاءِ، والرَّحمةِ، والخيرِ الكثيرِ، ما هوَ مِن أجلِّ نِعمِهِ على العبادِ، وهوَ الطَّريقُ للسَّعادةِ في الدَّارَينِ.
– الشيخ : يا الله انفعْنا وإيَّاكم بهذا القرآنِ، اللهُ أكبرُ
– القارئ : ثم أثنى على الكتابِ بتمامِ البيانِ فقالَ: {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أي: فصَّلَ كلَّ شيءٍ مِن أنواعِهِ على حدتِهِ، وهذا يستلزمُ البيانَ التَّامَّ، والتَّفريقَ بينَ كلِّ شيءٍ، وتمييزَ الحقائقِ. {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي: باللُّغةِ الفصحى أكملُ اللُّغاتِ، فُصِّلَتْ آياتُهُ وجُعِلَ عربيًّا
– الشيخ : هذهِ اللُّغةُ لغةُ القرآن والسُّنَّة وعلوم الإسلام، قد زهدَ فيها، يعني: كانت موضعَ عنايةٍ لعلماءِ المسلمين، موضعَ عنايةٍ ووضعوا لها القواعدَ، وجمعُوا ألفاظَها وفسَّروها في دواوين اللُّغةِ، وقد زهدَ فيها المسلمون في هذا العصر، وفضَّلُوا عليها اللُّغاتِ الأعجميَّةَ، لغةُ الدولِ الكافرةِ، نظراً لقوَّتها ما أُوتِيَتْ من قوَّةٍ صارَ المسلمون لشعورِهم بضعفهم لما شعروا بالضعفِ والنقصِ صارت اللُّغة الأعجميَّةُ -لغةُ هذه الدولِ- صارت هي المقدَّسةُ والمعظَّمةُ وموضع الاهتمام والتفاخرِ والتنافسِ على إجادتها.
وأمَّا اللُّغةُ العربيَّةُ فقد أعرضَ عنها الأكثرون، وإنْ علموها علموها بطريقةٍ قليلةِ الفائدةِ، وممَّا يؤدِّي إلى قلَّةِ التحصيلِ كما يشهدُ به الواقعُ، وهذا كما أنَّه الجاري في مناهجِ التعليم، فكذلك هذا الشعورُ عندَ كثيرٍ من الناس من العامَّة يعجبُ أحدهم أن يجيدَ ابنُه اللُّغةَ الإنكليزيَّةَ، ويفتخرُ بهذا ويعتزُّ ويفرح، ولا يهمُّه وصولَه في اللُّغةِ العربيَّة.
هذا من الأدواءِ الفاشيةِ، الفاشية في الأمَّة، وهذا من آثارِ التبعيَّة والإعجابِ بأممِ الكفرِ بسببِ ما أُوتيَتْ من وسائلِ الحياة، ولهذا يسمَّونها الأممَ المتحضِّرةَ والمتقدِّمة والراقية وو، وينعتونها بنعوتِ الإكبارِ والإعجابِ.
– القارئ : {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي: باللُّغةِ الفصحى أكملُ اللُّغاتِ، فُصِّلَتْ آياتُهُ وجُعِلَ عربيًّا. {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: لأجلِ أنْ يتبيَّن لهم معناهُ، كما يتبيَّنَ لفظُهُ، ويتَّضحَ لهم الهدى مِن الضَّلالِ، والْغَيَّ مِن الرَّشادِ.
وأمَّا الجاهلونَ، الَّذين لا يزيدُهم الهدى إلَّا ضلالًا ولا البيانُ إلَّا عَمًى فهؤلاءِ لم يُسَقِ الكلامُ لأجلِهم، {وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:10]
{بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أي: بشيرًا بالثَّوابِ العاجلِ والآجلِ، ونذيرًا بالعقابِ العاجلِ والآجلِ، وذكرِ تفصيلِهما، وذكرِ الأسبابِ والأوصافِ الَّتي تحصلُ بها البشارةُ والنَّذارةُ، وهذهِ الأوصافُ للكتابِ، ممَّا يوجبُ أنْ يُتَلقَّى بالقبولِ، والإذعانِ، والإيمانِ، والعملِ بهِ، ولكنْ أعرضَ أكثرُ الخلقِ عنهُ إعراضَ المُستكبِرينَ، {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} لهُ سماعَ قبولٍ وإجابةٍ، وإنْ كانُوا قد سمعُوهُ سماعًا، تقومُ عليهم بهِ الحجَّةُ الشَّرعيَّةُ.
{وَقَالُوا} أي: هؤلاءِ المعرضونَ عنهُ، مبيِّنينَ عدمَ انتفاعِهم بهِ، بسدِّ الأبوابِ الموصِلةِ إليهِ: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} أي: أغطيةٍ مغشَّاةٍ {مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} أي: صممٌ فلا نسمعُ لكَ {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} فلا نراكَ.
القصدُ مِن ذلكَ، أنَّهم أظهرُوا الإعراضَ عنهُ، مِن كلِّ وجهٍ، وأظهرُوا بغضَهُ، والرِّضا بما هم عليهِ، ولهذا قالُوا: {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} أي: كما رضيْتَ بالعملِ بدينِكَ، فإنَّنا راضونَ كلَّ الرِّضا، بالعمل في دينِنا، وهذا مِن أعظمِ الخذلانِ، حيثُ رضَوا بالضَّلالِ عن الهدى، واستبدلُوا الكفرَ بالإيمانِ، وباعُوا الآخرةَ بالدُّنيا.
{قُلْ} لهم يا أيُّها النَّبيُّ: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} أي: هذهِ صفتي ووظيفتي، أنَّي بشرٌ مثلَكم، ليسَ بيدي مِن الأمرِ شيءٌ، ولا عندي ما تستعجلونَ بهِ، وإنَّما فضَّلَني اللهُ عليكم، وميَّزَني، وخصَّني، بالوحيِ الَّذي أوحاهُ إليَّ وأمرَني باتِّباعِهِ، ودعوْتُكم إليهِ.
{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} أي: اسلكُوا الصِّراطَ المُوصِلَ إلى اللهِ تعالى، بتصديقِ الخبرِ الَّذي أخبرَ بهِ، واتِّباعِ الأمرِ، واجتنابِ النَّهيِ، هذهِ حقيقةُ الاستقامةِ، ثمَّ الدَّوامُ على ذلكَ، وفي قولِهِ: {إِلَيْهِ} تنبيهٌ على الإخلاصِ، وأنَّ العاملَ ينبغي لهُ أنْ يجعلَ مقصودَهُ وغايتَهُ، الَّتي يعملُ لأجلِها، الوصولُ إلى اللهِ، وإلى دارِ كرامتِهِ، فبذلكَ يكونُ عملُهُ خالصًا صالحًا نافعًا، وبفواتِهِ، يكونُ عملُهُ باطلاً.
ولمَّا كانَ العبدُ، -ولو حرصَ على الاستقامةِ- لا بدَّ أنْ يحصلَ منهُ خللٌ بتقصيرٍ بمأمورٍ، أو ارتكابُ منهيٍّ، أمرَهُ بدواءِ ذلكَ بالاستغفارِ المتضمِّنِ للتَّوبةِ فقالَ: {وَاسْتَغْفِرُوهُ} ثمَّ توَّعدَ مَن تركَ الاستقامةَ فقالَ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي: الَّذينَ عبدُوا مِن دونِهِ مَن لا يملكُ نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا، ولا حياةً، ولا نشورًا ودسُّوا أنفسَهم، فلم يزكُّوها بتوحيدِ ربِّهم والإخلاصِ لهُ، ولم يصلُّوا ولا زكَّوا، فلا إخلاصَ للخالقِ بالتَّوحيدِ والصَّلاةِ، ولا نفعَ للخلقِ بالزَّكاةِ وغيرِها. {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هم كَافِرُونَ} أي: لا يؤمنونَ بالبعثِ، ولا بالجنَّةِ والنَّارِ، فلذلكَ لمَّا زالَ الخوفُ مِن قلوبِهم، أقدمُوا على ما أقدمُوا عليهِ، ممَّا يضرُّهم في الآخرةِ.
ولمَّا ذكرَ الكافرينَ، ذكرَ المؤمنينَ، ووصفَهم وجزاءَهم، فقالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بهذا الكتابِ، وما اشتملَ عليهِ ممَّا دعا إليهِ مِن الإيمانِ، وصدَّقُوا إيمانَهم بالأعمالِ الصَّالحةِ الجامعةِ للإخلاصِ، والمتابعةِ. {لَهُمْ أَجْرٌ} أي: عظيمٌ {غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي: غيرُ مقطوعٍ ولا نافدٍ، بل هو مستمرٌّ مدى الأوقاتِ، متزايدٌ على السَّاعاتِ، مشتملٌ على جميعِ اللَّذَّاتِ والمشتهياتِ.
قالَ اللهُ تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ….} الآياتَ:
ينكرُ تعالى ويعجبُ، مِن كفرِ الكافرينَ بهِ، الَّذينَ جعلُوا معَهُ أنداداً يشركونَهم معَهُ، ويبذلونَ لهم ما يشاؤونَ مِن عباداتِهم، ويسوُّونَهم بالرَّبِّ العظيمِ، الملكِ الكريمِ، الَّذي خلقَ الأرضَ الكثيفةَ العظيمةَ في يومَينِ، ثمَّ دحاها في يومَينِ
– الشيخ : لا لا لا خلص، {قُلْ أَئِنَّكُمْ} هذه موقفُنا
– القارئ : هنا؟
– الشيخ : {قُلْ أَئِنَّكُمْ} هذه موقفُنا، لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله نعم، لا إله إلَّا الله.