بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة فصِّلت
الدَّرس: السَّادس
*** *** ***
– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:30-36]
– الشيخ : الحمد لله، لـَمَّا أخبرَ عن حالِ أعدائِه وما يصيرون إليه من العذاب الدائم؛ أخبر عن حال أوليائِه وما أعدَّ الله لهم مِن الكرامة، وهم الذين أمنوا بالله واستقاموا على دينِه، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}، فصدَّقُوا العلمَ بالعملِ، {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} على هذا الإيمانِ، بفعلِ المأموراتِ وتركِ المنهيَّات.
ومِن كرامتِهم أنَّ الملائكةَ تنزلُ عليهِم وتبشِّرُهم، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} متى؟ هذا لم يُحَدَّد، {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ} عندَ الموت، وفي القبر، وبعدَ البَعْث، {أَلَّا تَخَافُوا}، ويُبَشِّرُونَهم {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا}، {أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}.
{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} فالمؤمنون المتَّقون أولياؤُهم الملائكةُ الكِرَام، وأمَّا أعداءُ الله فأولياؤُهم الشياطين.
{أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا} يعني: في الآخرةِ وفي الجنةِ، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} يعني: تطلبونَ، لكم فيها كل ما تطلبونَ، {مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}.
ثمَّ أَثْنَى على الذين يَدْعُونَ إلى اللهِ ويعملونَ الصالحاتِ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي لا أحدَ أحسنُ قولاً منهم، لا أحدَ {أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ}، إلى عبادتِه وحدَه لا شريك له، إلى طاعتِه، إلى مَحَابِّهِ، {وَعَمِلَ صَالِحًا} فجمعَ بين العلمِ والعملِ والدعوةِ، بين العلمِ والعملِ والدعوةِ.
{وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} يعني: قالَ ذلك فَرِحَاً بِهِ ومسروراً ومُعْتزَّاً: {إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، مُسْلِمُونَ للهِ، مُسْتَسلمونَ له تعالى وحدَه لا شريك له، مُسْتَسلمونَ لله وحدَه لا شريكَ له، والإسلامُ هو الاستسلامُ، والاستسلام لله وحده لا شريكَ له هذا هو التوحيد، وهو المطلوبُ، والاستسلام لغيرِه..، مَن استسلمَ له ولغيرِه فقد أشركَ، ومَن لم يستسلم لله أصلاً كان مِن المستكبرين، {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ ضِدَّانِ، مِن الأقوالِ والأعمال، على اسمِها: هذه حسنةٌ طيّبةٌ عواقبُها حميدةٌ، والسيّئةُ قبيحةٌ وعواقبُها قبيحةٌ، فهل يَستويانِ؟!
وفي هذا ترغيبٌ في الكلماتِ، في الكلامِ الطيبِ والكلماتِ الحسنةِ، والكلماتُ التي تُؤدِّي إلى خيرٍ وإلى صلاحٍ وإلى أُلْفَةٍ ومحبةٍ.
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ادْفَعْ بالكلامِ الطيبِ على مَن يُسِيءُ إليكَ بالفُحش، بالسّبابِ، بالاعتداء، بالعدوان، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
وإنْ كان يجوزُ أن تدفعَ بالمثل {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] هذا جائزٌ، هذا هو العَدلُ، العَدلُ هو الدَّفعُ بالمثلِ، تجزي بالسيِّئة بمثلِها، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، لكن قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]
والدفعُ بالحسنةِ هذا داخلٌ في دائرةِ العفو، إنَّما يكونُ مع العفو، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، يعني: هذه ثمرةُ الصَّفحِ والعَفو والدَّفعِ بالأحسنِ، {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} يعني: تستحيلُ العَداوةُ إلى صداقةٍ.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، هذه الوصيةُ مِن اللهِ ما يَقبلُها ويعملُ بها إلا أهلُ الصبر؛ لأنَّ الذي يُؤْذَى بالقول أو بالفعل، مِن الناسِ مَن يصبرُ ومنهم مَن لا يصبرُ، والذي يدفعُ بالتي هي أحسن إنَّما كان ذلك بسببِ الصبر، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، مَن عملَ بهذه الوصيةِ فهو ذو حَظٍّ، فهذا مِن حَظِّهِ وتوفيقِ اللهِ له.
ثم قالَ تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}، إنْ وَسْوَسَ لكَ الشيطانُ بالشَّرِّ وزيَّنَ لكَ شيئاً مِن الكلامِ السَّيئِ والكلامِ الفاحش أو الفعلِ القبيح فاستعِذْ بالله، فلا يحمِي مِن الشيطانِ إلا الله، العدوُ الظاهرُ كالإنسانِ يمكن أنْ يَدفعَه الإنسانُ بأنواعٍ من الأسبابِ التي يَقدرُ عليها الإنسانُ القوليةِ والفعليةِ، أمّا الشيطان -الشيطان مِن الجنّ- فلا يدفعُه إلا الذي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، سميعُ الدعاءِ سميعٌ لِمَن دعاهُ، سميعٌ لِمَن استعاذَ بِه، عليمٌ بحالِهِ وبِنِيَّاتِه، وهو بكلِّ شيءٍ عليمٌ، ففي هذه الآياتِ بشاراتٌ وهِداياتٌ ووصايا مِن ربّ العالمين لعبادِه المؤمنين.
(تفسير السعدي)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين، قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ -رحمَه اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} الآياتُ:
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَنْشِيطُهُمْ وَالْحَثُّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أَيِ: اعْتَرَفُوا وَنَطَقُوا وَرَضُوا بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى
– الشيخ : هذا مضمونه الإيمان والعمل، مضمونُه الإيمان، الإيمان في قوله: {رَبُّنَا اللَّهُ} {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}، هذا هو الإيمانُ، يعني ربُّنا وإلهُنا ومعبودُنا، {رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} هذا بالعملِ بفعلِ الطاعاتِ وتركِ المنهياتِ.
– القارئ : وَاسْتَسْلَمُوا لِأَمْرِهِ {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، عِلْمًا وَعَمَلًا فَلَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ الْكِرَامُ}، أَيْ: يَتَكَرَّرُ نُزُولُهُمْ عَلَيْهِمْ،
– الشيخ : "يَتَكَرَّرُ نُزُولُهُمْ عَلَيْهِمْ"؛ لقولِهِ: {تَتَنَزَّلُ} {تَتَنَزَّلُ}، لمْ يقلْ: "تَنْزِلُ عليهِم": لا.
– القارئ : مُبَشِّرِينَ لَهُمْ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ {أَلا تَخَافُوا} عَلَى مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ أَمْرِكُمْ، {وَلا تَحْزَنُوا} عَلَى مَا مَضَى، فَنَفَوْا عَنْهُمُ الْمَكْرُوهَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلَ
– الشيخ : الله أكبر، {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا}، {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ}.
– القارئ : {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فَإِنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ وَثَبَتَتْ، وَكَانَ وَعْدُ اللَّهِ مَفْعُولًا وَيَقُولُونَ لَهُمْ
– الشيخ : إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ، لا إله إلا الله، نعوذُ باللهِ مِن الخِذلان.
– القارئ : وَيَقُولُونَ لَهُمْ -أَيْضًا- مُثْبِتِينَ لَهُمْ، وَمُبَشِّرِينَ: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} يُحِثُّونَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْخَيْرِ وَيُزَيِّنُونَهُ لَهُمْ، وَيُرْهِبُونَهُمْ عَنِ الشَّرِّ وَيُقَبِّحُونَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَدْعُونَ اللَّهَ لَهُمْ
– الشيخ : يُكرِّهونَهم الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، ويُزيّنونَ لهم الخير.
– القارئ : وَيُثَبِّتُونَهُمْ عِنْدَ الْمَصَائِبِ وَالْمَخَاوِفِ، وَخُصُوصًا عِنْدَ الْمَوْتِ وَشَدَّتِهِ، وَالْقَبْرِ وَظُلْمَتِهِ، وَفِي الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا، وَعَلَى الصِّرَاطِ، وَفِي الْجَنَّةِ يُهَنِّئُونَهُمْ بِكَرَامَةِ رَبِّهِمْ، وَ {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24،23] وَيَقُولُونَ لَهُمْ أَيْضًا: {وَلَكُمْ فِيهَا} أَيْ: فِي الْجَنَّةِ {مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} قَدْ أَعَدَّ وَهَيَّئَ. {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أَيْ: تَطْلُبُونَ مِنْ كُلِّ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَتُكُمْ وَتَطْلُبُونَهُ مِنْ أَنْوَاعِ اللَّذَّاتِ وَالْمُشْتَهَيَاتِ، مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
{نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} أَيْ: هَذَا الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَالنَّعِيمُ الْمُقِيمُ، نُزُلٌ وَضِيَافَةٌ مِنْ {غَفُورٍ} غَفَرَ لَكُمُ السَّيِّئَاتِ، {رَحِيمٍ} حَيْثُ وَفَّقَكُمْ لِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ، ثُمَّ قَبِلَهَا مِنْكُمْ. فَبِمَغْفِرَتِهِ أَزَالَ عَنْكُمُ الْمَحْذُورَ، وَبِرَحْمَتِهِ، أَنَالَكُمُ الْمَطْلُوبَ.
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} الآية:
هَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى النَّفْيِ الْمُتَقَرِّرِ أَيْ: لَا أَحَدَ أَحْسَنُ قَوْلًا. أَيْ: كَلَامًا وَطَرِيقَةً، وَحَالَةً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ بِتَعْلِيمِ الْجَاهِلِينَ، وَوَعْظِ الْغَافِلِينَ وَالْمُعْرِضِينَ، وَمُجَادَلَةِ الْمُبْطِلِينَ، بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا وَتَحْسِينِهَا مَهْمَا أَمْكَنَ، وَالزَّجْرُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَتَقْبِيحُهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُوجِبُ تَرْكَهُ، خُصُوصًا مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى أَصْلِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَتَحْسِينِهِ، وَمُجَادَلَةِ أَعْدَائِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالنَّهْيُ عَمَّا يُضَادُّهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
وَمِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ: تَحْبِيبُهُ إِلَى عِبَادِهِ بِذِكْرِ تَفَاصِيلِ نِعَمِهِ، وَسِعَةِ جُودِهِ، وَكَمَالِ رَحْمَتِهِ، وَذِكْرِ أَوْصَافِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ.
وَمِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ: التَّرْغِيبُ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسِنَّةِ رَسُولِهِ، وَالْحَثُّ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ طَرِيقٍ مُوَصِّلٍ إِلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْحَثُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى عُمُومِ الْخَلْقِ، وَمُقَابَلَةُ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ، وَالْأَمْرُ بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْوَعْظُ لِعُمُومِ النَّاسِ فِي أَوْقَاتِ الْمَوَاسِمِ وَالْعَوَارِضِ وَالْمَصَائِبِ، بِمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْحَالَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَنْحَصِرُ أَفْرَادُهُ مِمَّا تَشْمَلُهُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَالتَّرْهِيبِ مِنْ جَمِيعِ الشَّرِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَعَمِلَ صَالِحًا} أَيْ: مَعَ دَعْوَتِهِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ بَادَرَ هُوَ بِنَفْسِهِ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُرْضِي رَبَّهُ. {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أَيِ: الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ، السَّالِكِينَ فِي طَرِيقِهِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ تَمَامُهَا لِلصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ عَمِلُوا عَلَى تَكْمِيلِ أَنْفُسِهِمْ وَتَكْمِيلِ غَيْرِهِمْ، وَحَصَلَتْ لَهُمُ الْوِرَاثَةُ التَّامَّةُ مِنَ الرُّسُلِ، كَمَا أَنَّ مِنْ أَشَّرِ النَّاسِ قَوْلًا مَنْ كَانَ مِنْ دُعَاةِ الضَّالِّينَ السَّالِكِينَ لِسُبُلِهِ.
وَبَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْمُتَبَايِنَتَيْنِ -اللَّتَيْنِ ارْتَفَعَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَنَزَلَتِ الْأُخْرَى إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ- مَرَاتِبُ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَكُلُّهَا مَعْمُورَةٌ بِالْخَلْقِ
– الشيخ : نسأل الله العافية، نسأل الله العافية، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، دَرَجَاتٌ ودَرَكَاتٌ، أهلُ الأيمانِ والعملِ الصالح هم درجاتٌ، {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:163]، وأهلُ الكفرِ والمعاصي والفساد في دَرَكَات الشَّرِّ، فهؤلاء ترتفعُ بهم درجاتُهم، وهؤلاء تنزلُ بهم الدَّركَات، فالناسُ منهم مَن هو في أعلى الدرجات، ومنهم مَن هم في أسفلِ سافلينَ، وبين ذلك مراتبُ كثيرة، والخلقُ مُنقسِمُون في هذه المراتب مُنقسِمُون، كلُّ مرتبةٍ لها عُمَّارٌ، لها نُزُلَاء، فعلى العاقل الناصح لنفسِهِ أنْ يُنافسَ في الخيرات؛ ليرتقيَ تلك الدرجات، ويسألُ ربَّه، يستمدّ مِن ربِّه الهداية والإعانة، الله أكبر.
– القارئ : {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}
قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} الآيات:
يقول تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} أَيْ: لَا يَسْتَوِي فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ لِأَجْلِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا فِعْلُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تُسْخِطُهُ وَلَا تُرْضِيهِ، وَلَا يَسْتَوِي الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَلَا الْإِسَاءَةُ إِلَيْهِمْ لَا فِي ذَاتِهَا وَلَا فِي وَصْفِهَا وَلَا فِي جَزَائِهَا {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]
ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْسَانٍ خَاصٍّ لَهُ مَوْقِعٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ: فَإِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ مُسِيءٌ مِنَ الْخَلْقِ، خُصُوصًا مَنْ لَهُ حَقٌّ كَبِيرٌ عَلَيْكَ: كَالْأَقَارِبِ وَالْأَصْحَابِ وَنَحْوِهِمْ، إِسَاءَةً بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، فَقَابِلْهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَطَعَكَ فَصِلْهُ، وَإِنْ ظَلَمَكَ فَاعْفُ عَنْهُ، وَإِنَّ تَكَلَّمَ فِيكَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فَلَا تُقَابِلْهُ، بَلِ اعْفُ عَنْهُ، وَعَامِلْهُ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَإِنْ هَجَرَكَ وَتَرَكَ خِطَابَكَ فَطَيِّبْ لَهُ الْكَلَامَ وَابْذُلْ لَهُ السَّلَامَ، فَإِذَا قَابَلْتَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ حَصَلَ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ، {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أَيْ: كَأَنَّهُ قَرِيبٌ شَفِيقٌ، {وَمَا يُلَقَّاهَا} أَيْ: وَمَا يُوَفَّقُ لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْعَظيمةِ {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} نُفُوسَهُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَأَجْبَرُوهَا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ وَعَدَمِ الْعَفْوِ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِالْإِحْسَانِ؟
فَإِذَا صَبَّرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَامْتَثَلَ أَمْرَ رَبِّهِ، وَعَرَفَ جَزِيلَ الثَّوَابِ -وَعَلِمَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ لِلْمُسِيءِ بِجِنْسِ عَمَلِهِ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، وَلَا يَزِيدُ الْعَدَاوَةَ إِلَّا شِدَّةً، وَأَنَّ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاضِعِ قَدْرِهِ، بَلْ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ- هَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُتَلَذِّذًا مُسْتَحْلِيًا لَهُ.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} لِكَوْنِهَا مِنْ خِصَالِ خَوَاصِّ الْخَلْقِ، الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعَبْدُ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ خِصَالِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. انتهى.
– الشيخ : اللهمَّ صلِّ وسلَّم، اللهمَّ صلِّ وسلَّم، وبهذا يُعْلَمُ أنَّ القرآنَ يَدعو العبادَ يَدعو الناسَ إلى كلِّ فضيلةٍ مِن العبادات والمعاملات، ما يَتعلَّقُ بحقوقِ اللهِ أو حقوقِ العباد، فما مِن خيرٍ عاجلٍ وآجلٍ إلا دَلَّ عليهِ وما مِن شرٍّ إلا حَذَّرَ منه وكذا سُنَّةُ النبيِّ صلى الله عليه، فحَظُّ الإنسان من السعادة في الدنيا والآخرة بحسب استقامتِه على هُدى الله، {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} {اتَّبَعَ} {اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه:23]
جاءَ عن ابنِ عباسٍ أنه قال: "تَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ قرأَ القرآنَ وعَمِلَ بما فيهِ أن لا يَضِلَّ في الدنيا ولا يَشقَى في الآخرةِ". الله المستعان.