بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة فصِّلت
الدَّرس: السَّابع
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:37-40]
– الشيخ : إلى هنا، سبحانَ الله العظيم، لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله، يذكِّرُ سبحانه وتعالى في هذه الآيات ببعض آياتِه الكونيَّة، الآياتُ الكونيَّةُ هي المخلوقاتُ والآياتُ الشَّرعيَّةُ هي آياتُ القرآنِ، إذاً فقولُه: {مِنْ آيَاتِهِ} يعني: من آياتِه المخلوقةِ الكونيَّة، وهي آياتٌ يعني: علاماتٌ، علاماتٌ دالَّةٌ، دالَّةٌ على خالقها، على قدرته وحكمته وعلمِه ورحمتِه، فهذا اللَّيلُ واللَّيلُ والنَّهارُ والشمسُ والقمرُ هي آياتٌ ونِعمٌ في نفس الوقتِ، نِعمٌ امتنَّ اللهُ بها على عباده، {وَمِنْ رَحْمَتِهِ} {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73] {سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم:33] الله أكبرُ.
وهذا كثيرٌ في القرآن التذكير بهذه النِّعمِ، هذه الآياتُ، {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} الشمسُ آيةُ النهارِ، تطلعُ فتضيءُ الكونَ، والقمرُ آيةُ الليلِ، جعلَهُ اللهُ نوراً وجعلَ له منازلاً، {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5]
{لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} المشركون أنواعٌ وطوائفُ، منهم من يعبدُ الشَّمسَ، كما في قصَّةِ بلقيس يسجدون للشَّمس، {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} [النمل:24] {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43] ومنهم من يعبدُ القمرَ ومنهم من يعبدُ الشَّجر الحجر، منهم من يعبدُ الأصنامَ الَّتي ينحتونها بأيديهم، وأنواعٌ لا تُحصَى.
{لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} الَّذي خلقَهنَّ هو أحقُّ، هو المستحقُّ لِئَنْ يُعبَد ويُسجَد له، {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف:206] {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} يقولُ تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} يعني: إذا استكبرَ المشركون عن عبادة اللهِ فاللهُ تعالى له عبيدٌ كثيرون، يعبدونه ويسجدون له، ومنهم الملائكةُ المقرَّبونَ، يقولُ تعالى: فإنْ استكبرَ هؤلاءِ المشركون عن عبادة اللهِ فاللهُ تعالى له عبادٌ خيرٌ منهم، يعبدون ربَّهم ويسجدون له، لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه، لا يستكبرون عن عبادته ويسبِّحونه، ينزِّهونَه عن النقائصِ والعيوبِ، يسبِّحونه وله يسجدون، وفي هذه الآيةِ: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} يسبِّحون له باللَّيل والنَّهار لا يفترون، {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} لا يسأمون من عبادة اللهِ، لا يسأمون من التَّسبيحِ.
ثمَّ ذكر نوعاً آخرَ من الآيات وهي هذه الأرضُ الَّتي إذا قحطَ المطرُ عنها أصبحتْ مغبرَّةً ساكنةً خاشعةً، فإذا أنزلَ اللهُ عليها الغيثَ ونبتت فيها الأشجارُ وازدهرتْ فيها الأزهارُ {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} وحييَتْ بعدَ أن كانتْ ميِّتةً.
{إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} وهذا من أدلَّة البعثِ، كثيراً ما يذكرُ اللهُ ذلك في سياقِ أدلَّة البعثِ، وهنا نفس الشيء، يعني: نبَّهَ إلى أنَّ إحياءَ اللهِ الأرضَ بعدَ موتها دليلٌ على قدرته تعالى على إحياءِ الموتى، {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
ثمَّ توعَّدَ الملحدين في آياتِ اللهِ، المائلين عن الحقِّ في آيات اللهِ الشرعيَّة وآياتِه…، {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} فعلمُ اللهِ محيطٌ بهم، وسيلقون جزاءَهم ويُلقونَ في النارِ، يُلقون يُطرَحون في النَّارِ، يقولُ تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} {يَأْتِي آمِنًا} شتَّانَ بينَ الفريقينِ، فمن يُلقَى في النَّارِ هذا في غايةِ الشَّقاءِ، في غاية الشَّقاءِ؛ لأنَّه في عذابٍ أليمٍ شديدٍ، وفي مقابلِه من يأتي آمناً يومَ القيامةِ، ومصيرُه إلى الجنَّةِ، دارُ النَّعيمِ المقيمِ.
قالَ الله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} هذا عندَ أهلِ العلمِ اسمُه أسلوبُ تهديدٍ، {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} مثل: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] هذا ليسَ بتخييرٍ، ما هو بتخيرٍ، إن شئْتَ آمنْ وإن شئتَ أكفرْ، لا، هذا اسمُه تهديدٌ؛ لأنَّه أُتبِعَ بقوله تعالى: {وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29] {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} وهذا معروفٌ في خطاباتِ النَّاس وفي كلامِ الناس.
{إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} اللهُ تعالى بصيرٌ بأعمالِ العباد، يعلمُها، علمُه محيطٌ بها ومحيطٌ بنيَّاتهم، بنياتهم فيها، {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} هذا غير البصرِ الَّذي معناه الرُّؤية، إذا جاءَ البصرُ مقروناً بالسمعِ أو السميع فهذا هو البصرُ الَّذي معناه الرُّؤية، رؤيةُ الشيءِ أو الأشياء.
أمَّا هذا البصيرُ إذا جاءَ معدَّاً بالباء، بصيرٌ بأعمالِ العبادِ، ويقترنُ كثيراً بالخبيرِ، خبيرٌ بصيرٌ، إحاطةُ العلمِ الشيءَ مع العلمِ بحقائقه، بحقيقتِه ونهايتِه ومآله وأسبابِه، بصيرٌ بما يعملونَ، {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الآياتَ:
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا يُقَابَلُ بِهِ الْعَدُوُّ مِنَ الْإِنْسِ، وَهُوَ مُقَابَلَةُ إِسَاءَتِهِ بِالْإِحْسَانِ، ذَكَرَ مَا يُدْفَعُ بِهِ الْعَدُوُّ الْجِنِّيُّ، وَهُوَ الِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ، وَالِاحْتِمَاءُ مِنْ شَرِّهِ فَقَالَ:
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} أَيْ: أَيُّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، أَحْسَسْتَ بِشَيْءٍ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، أَيْ: مِنْ وَسَاوِسِهِ وَتَزْيِينِهِ لِلشَّرِّ، وَتَكْسِيلِهِ عَنِ الْخَيْرِ، وَإِصَابَةٍ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ، وَإِطَاعَةٍ لَهُ
– الشيخ : يعني: إذا وقع في خاطرِ الإنسان همٌّ بفعلِ سيِّئةٍ هذا نزغُ الشيطان، هذا نزغُ الشيطانِ اعرفْه، الهمُّ بالسَّيِّئة هي نزغةُ الشيطان، وقد يعظمُ ذلك وتتحوَّلُ من همٍّ إلى إرادةٍ ومن إرادةٍ إلى عزمٍ، فهذه نزغةُ الشيطان، أو تفكيرٌ في تركِ واجبٍ، نفس الشيء، نزغاتُ الشيطانِ أمورٌ باطلةٌ أمورٌ قلبيَّةٌ، قد تكون نزغةُ الشيطان تتعلَّقُ بالشَّهوة وقد تعلَّق بالاعتقادِ تشكيكاً، فالشيطانُ نزغاتُه إمَّا بإثارة الشَّهوات وإلقاءِ الشهواتِ أو بإلقاءِ الشُّبهاتِ، كلُّها من نزغاتِ الشَّيطانِ، والدرءُ يكون باللَّجَأِ إلى اللهِ، باللَّجأِ إلى اللهِ، أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}
– القارئ : أَيْ: مِنْ وَسَاوِسِهِ وَتَزْيِينِهِ لِلشَّرِّ، وَتَكْسِيلِهِ عَنِ الْخَيْرِ، وَإِصَابَةٍ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ، وَإِطَاعَةٍ لَهُ بِبَعْضِ مَا يَأْمُرُ بِهِ {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أَيِ: اسْأَلْهُ، مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ، أَنْ يُعِيذَكَ وَيَعْصِمَكَ مِنْهُ، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فَإِنَّهُ يَسْمَعُ قَوْلَكَ وَتَضَرُّعَكَ، وَيَعْلَمُ حَالَكَ وَاضْطِرَارَكَ إِلَى عِصْمَتِهِ وَحِمَايَتِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ {مِنْ آيَاتِهِ} الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ، وَسِعَةِ سُلْطَانِهِ، وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَأَنَّهُ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} هَذَا بِمَنْفَعَةِ ضِيَائِهِ، وَتَصَرُّفِ الْعِبَادِ فِيهِ، وَهَذَا بِمَنْفَعَةِ ظُلْمته، وَسُكُونِ الْخَلْقِ فِيه. {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} اللَّذَانِ لَا تَسْتَقِيمُ مَعَايِشُ الْعِبَادِ، وَلَا أَبْدَانُهُمْ، وَلَا أَبْدَانُ حَيَوَانَاتِهِمْ، إِلَّا بِهِمَا، وَبِهِمَا مِنَ الْمَصَالِحِ مَا لَا يُحْصَى عَدَدُهُ.
{لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} فَإِنَّهُمَا مُدَبَّرَانِ مُسَخَّرَانِ مَخْلُوقَان. {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} أَيِ: اعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ الْخَالِقُ الْعَظِيمُ، وَدَعُوا عِبَادَةَ مَا سِوَاهُ، مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَإِنْ كَبُرَ جُرْمُهُا وَكَثُرَتْ مَصَالِحُهُا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْهُا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ خَالِقِهِا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى. {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فَخَصُّوهُ بِالْعِبَادَةِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ.
{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَنْقَادُوا لَهَا، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ، وَلَهُ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} أَيْ: لَا يَمَلُّونَ مِنْ عِبَادَتِهِ، لِقُوَّتِهِمْ، وَشَدَّةِ الدَّاعِي الْقَوِيِّ مِنْهُمْ إِلَى ذَلِكَ.
{وَمِنْ آيَاتِهِ} الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَانْفِرَادِهِ بِالْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ، {أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ} أَيِ: الْمَطَرَ {اهْتَزَّتْ} أَيْ: تَحَرَّكَتْ بِالنَّبَاتِ {وَرَبَتْ} ثُمَّ: أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، فَحيا بِهِا الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ.
{إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا} بَعْدَ مَوْتِهَا وَهُمُودِهَا، {لَمُحْيِي الْمَوْتَى} مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى يَوْمِ بَعْثِهِمْ، وَنَشُورِهِمْ {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَكَمَا لَمْ تَعْجَزْ قُدْرَتُهُ عَنْ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، لَا تَعْجَزُ عَنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى.
قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا…} الآياتَ:
الْإِلْحَادُ فِي آيَاتِ اللَّهِ: الْمَيْلُ بِهَا عَنِ الصَّوَابِ، بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ: إِمَّا بِإِنْكَارِهَا وَجُحُودِهَا، وَتَكْذِيبِ مَنْ جَاءَ بِهَا، وَإِمَّا بِتَحْرِيفِهَا وَتَصْرِيفِهَا عَنْ مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيِّ، وَإِثْبَاتِ مَعَانٍ مَا أَرَادَهَا اللَّهُ مِنْهَا.
فَتَوَعَّدَ تَعَالَى مِنَ ألَّحْدِّ فِيهَا بِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ مُطَّلِعٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى إِلْحَادِهِ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} مِثْلُ الْمُلْحِدِ بِآيَاتِ اللَّهِ {خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مُسْتَحِقًّا لِثَوَابِهِ؟ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا خَيْرٌ.
لَمَّا تَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالطَّرِيقُ الْمُنَجِّي مِنْ عَذَابِهِ مِنَ الطَّرِيقِ الْمُهْلِكِ قَالَ :{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} إِنْ شِئْتُمْ، فَاسْلُكُوا طَرِيقَ الرُّشْدِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى رِضَا رَبِّكُمْ وَجَنَّتِهِ، وَإِنْ شِئْتُمْ، فَاسْلُكُوا طَرِيقَ الْغَيِّ الْمُسْخِطَةِ لِرَبِّكُمُ، الْمُوَصِّلَةِ إِلَى دَارِ الشَّقَاءِ.
{إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يُجَازِيكُمْ بِحَسَبِ أَحْوَالِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ، كَقَوْلِهِ تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}
ثمَّ قالَ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} [فصلت:41]
– الشيخ : إلى هنا يا أخي، {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} هذا تهديدٌ ما هو رخصةٌ، ما هو ترخيصٌ وتخييٌر، على كيفك يعني لا، تهديدٌ، الآن يقولُ بعضُ الناس لخصمه: افعل سوي [سوّي: افعل] اللي تبيه، [تبيه: تريده] سوي اللي تبيه، يعني: أنا وراءك سترى ما أصنعُ بك، سوي اللي تبيه يعني: افعلْ ما تريدُ، افعلْ ما بدا لك ستجدُ عاقبتَه نعم، هذا تهديدٌ ما هو بالتخييرِ، هذا أمرٌ معروفٌ للعقلاء في خطاباتهم، نعم بعدَك.