الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة فصلت/(8) من قوله تعالى {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} الآية 41 إلى قوله تعالى {من عمل صالحا فلنفسه} الآية 46
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(8) من قوله تعالى {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} الآية 41 إلى قوله تعالى {من عمل صالحا فلنفسه} الآية 46

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة فصِّلت

الدَّرس: الثَّامن

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:41-46]

الشيخ : إلى هنا. لاحول ولا قوة إلا بالله.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} أيْ: القرآن، مِن أسماء القرآن: "الذِّكْر"، القرآن والكتاب والتنزيل، {هذا ذكرٌ} [ص:49] {وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء:50] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ} يعني: فَسَيَلْقَونَ جزاءَهم.

{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} فيهِ العِزَّةُ والشَّرَفُ، وصفَه اللهُ بأنه مجيدٌ وحكيمٌ، {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:2] {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}.

{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} مُشتمِلٌ على الحقِّ في أخبارِه وشرائعِه وأوامرِه {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام:115] فأخبارُه كلّها صدقٌ لا يتطرَّق إلى شيءٍ منها الكذب، فكلّ شرائعِه عدلٌ وحكمةٌ {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ}

{تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} حكيمٌ ذو حكمةٍ بالغةٍ في شرعِه وقَدَرِهِ ولَه الحكمُ، لا شريك لَه في حكمِه، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] وهذا القرآن تنزيلٌ من الربِّ سبحان ربِّ العالمين العزيزُ الحكيمُ الحميدُ.

{مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} يعني أنتَ على جادَّةِ الرُّسلِ، فالدِّينُ واحدٌ، الشريعة، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144] {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} فبالنسبةِ لِمَا يُوحِي اللهُ إلى رسلِه كلُّهم مأمورونَ بالدَّعوة إلى التوحيدِ والدعوةِ إلى طاعةِ الله، وطريقُ الرسل واحدةٌ، وكذلك ما يحصل من أعداء الرسلِ هو مُتشابِهٌ، كلُّهم قالوا لنبيهِم: إنه كذا وكذا، إنه ساحرٌ، أو مجنونٌ، {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر:11] {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:52،51]

{إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} الله سبحانه وتعالى ذُو مَغْفِرَةٍ ورحمةٍ، وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ، لكنّه حكيمٌ يضعُ الأشياءَ في مواضِعها، فيجعل رحمتَه في موضعِها وعقابَه في موضعِهِ، الإيمانُ بذلك يُوجِبُ على العبدِ الخوفَ والرجاءَ فيرجو رحمتَه ومغفرتَه ويخافُ عقابَه

قال الله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} لو جعلَ اللهُ هذا القرآنَ في لغةٍ أعجميةٍ لقال الـمشركون: كيف يأتينا هذا القرآنُ، أعجمي ونحنُ عَرَبٌ؟! {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} {لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}.

{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} الذين آمنوا به تحصلُ لهم به الهداية وتُشفَى به قلوبُهم مِن أمراضِ الجهلِ والغَفلةِ والكفرِ والشَّكِّ. {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} كما في أول السورة، كما ذكر الله في أول هذه السورة: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5] {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} نسألُ اللهَ العافية. {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء:82]

{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} والكتابُ هو التوراةُ، كثيراً ما يَقرِنُ اللهُ في الذِّكرِ والخبرِ بينَ الكتابَيْن، وبينَ الرَّسولَيْن، الكتابَيْن: التوراةُ والقرآنُ، والرسولُ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وموسى، {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً …كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} [المزمل:15] {فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِي بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}.

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} اللهُ تعالى غنيٌّ عن عبادِه لا تنفعُه طاعةَ المطيعين، ولا تضرُّهُ معصيةُ العاصينَ، وإنَّما أَثَرُ أعمالِ العباد راجعٌ عليهم، فمَن عَمِلَ صالحاً عادَ ثوابُ ذلك وعاقبتُهُ إلى العاملِ {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.

 

(تفسيرُ السعدي)

القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ رحمه الله تعالى:

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} أَيْ: يَجْحَدُونَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ الْمُذَكِّرَ لِلْعِبَادِ جَمِيعَ مَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، الْمُعْلِي لِقَدْرِ مَنِ اتَّبَعَهُ،

الشيخ : يشيرُ الشيخُ إلى أنَّ الذِّكْرَ يُرادُ به التذكيرُ بما يحتاجُ إليه الـمُخاطَبُون، ويُطلَقُ الذِّكر على الشَّرَفِ، فالشيخُ يريد يبيِّنُ أنَّ القرآن مُشتمِلٌ على..، كما في قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] مِن المفسِّرين مَن يقولُ: أن هذا معناهُ التذكير، تذكيرٌ لكَ ولقومِكَ، وقيلَ: بلْ شرفٌ لكَ ولقومِكَ، ولا ريب أنَّه شرفٌ لِمَن آمنَ به واتبعَهُ.

 

القارئ : {لَمَّا جَاءَهُمْ} نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ عَلَى يَدِ أَفْضَلِ الْخَلْقِ وَأَكْمَلِهِمْ. {وَ} الْحَالُ {إِنَّهُ لَكِتَابٌ} جَامِعٌ لِأَوْصَافِ الْكَمَالِ {عَزِيزٌ} أَيْ: مَنِيعٌ مِنْ كُلِّ مَنْ أَرَادَهُ بِتَحْرِيفٍ أَوْ سُوءٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} أَيْ: لَا يَقْرُبُهُ شَيْطَانٌ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، لَا بِسَرِقَةٍ وَلَا بِإِدْخَالِ مَا لَيْسَ مِنْهُ بِهِ،

الشيخ : يمكن يعني شيخ يقول: "لا بِسَرِقَةٍ" يُشيرُ إلى مُسْتَرِقِي السَّمعِ، فلَمَّا بعثَ اللهُ محمداً صلى الله عليه وسلَّمَ شُدِّدَت الحراسةُ على السَّماء، كما ذكرَ اللهُ عَن الجنِّ وأنهم ماذا قالوا؟ قالوا: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} [الجن:9،8]

 

القارئ : وَلَا بِإِدْخَالِ مَا لَيْسَ مِنْهُ بِهِ، وَلَا بِزِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، فَهُوَ مَحْفُوظٌ فِي تَنْزِيلِهِ، مَحْفُوظَةٌ أَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهِ، قَدْ تَكَفَّلَ مَنْ أَنْزَلَهُ بِحِفْظِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]

{تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ} فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، يَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ، وَيُنْزِلَهُ مَنْزِلَهُ. {حَمِيدٍ} عَلَى مَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ، وَعَلَى مَا لَهُ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِفْضَالِ، فَلِهَذَا كَانَ كِتَابُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى تَمَامِ الْحِكْمَةِ، وَعَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ، وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ، الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا.

قالَ اللهُ تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ} الآية.

أيْ: {مَا يُقَالُ لَكَ} أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنَ الْأَقْوَالِ الصَّادِرَةِ مِمَّنْ كَذَّبَكَ وَعَانَدَكَ {إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ}.

الشيخ : يعني: لا تَأْسَ فما يقولُهُ لكَ أعداؤُكَ المكذِّبُونَ أنه ساحرٌ أو مجنونٌ أو شاعرٌ، هو مِن جنسِ ما كان تقولُه الأُممُ أو أعداءُ الرُّسلِ لرسلِ الله، هذا ما يُقَالُ لكَ إلا ما قد قالَتِ الأُمَمُ لِرُسُلِهَا، فأنتَ واحدٌ مِن الرُّسلِ.

 

القارئ : {إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} أَيْ: مِنْ جِنْسِهَا، بَلْ رُبَّمَا إِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ وَاحِدٍ، كَتَعَجُّبِ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ مِنْ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَرَدِّهِمْ هَذَا بِكُلِّ طَرِيقٍ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ،

الشيخ : كلُّهم كلُّهم قالوا، مِن شبهتِهم كون الرسولِ بشراً، وكونه رجلاً {إن أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم:10] فهذه شبهةٌ موروثةٌ، يَرِثُها الآخِرُ عَن الأولِ، واللَّاحِقُ مِن السابق.

 

القارئ : وقولهم: {مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا}.

وَاقْتِرَاحِهِمْ عَلَى رُسُلِهِمُ الْآيَاتِ الَّتِي لَا يُلْزِمُهُمُ الْإِتْيَانُ بِهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ التَّكْذِيبِ، لَمَّا تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فِي الْكُفْرِ تَشَابَهَتْ أَقْوَالُهُمْ، وَصَبَرَ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى أَذَاهُمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ مَنْ قَبْلُكَ.

ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِتْيَانِ بِأَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ، وَحَذَّرَهُمْ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْغَيِّ فَقَالَ: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} أَيْ: عَظِيمَةٍ يَمْحُو بِهَا كُلَّ ذَنْبٍ لِمَنْ أَقْلَعَ وَتَابَ {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لِمَنْ: أَصَرَّ وَاسْتَكْبَرَ.

قالَ اللهُ تعالى:

{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} الآية.

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ حَيْثُ أَنْزَلَ كِتَابًا عَرَبِيًّا عَلَى الرَّسُولِ الْعَرَبِيِّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ؛ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، وَهَذَا مِمَّا يُوجِبُ لَهُمْ زِيَادَةَ الِاغْتِنَاءِ بِهِ، وَالتَّلَقِّي لَهُ وَالتَّسْلِيمَ، وَأَنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا بِلُغَةٍ غَيْرِ الْعَرَبِ، لَاعْتَرَضَ الْمُكَذِّبُونَ وَقَالُوا: {لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أَيْ: هَلَّا بُيِّنَتْ آيَاتِهِ، وَوُضِّحَتْ وَفُسِّرَتْ، {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ مُحَمَّدٌ عَرَبِيًّا، وَالْكُتَّابُ أَعْجَمِيٌّ؟ هَذَا لَا يَكُونُ فَنَفَى اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ أَمْرٍ، يَكُونُ فِيهِ شُبْهَةٌ لِأَهْلِ الْبَاطِلِ عَنْ كِتَابِهِ، وَوَصْفِهِ بِكُلِّ وَصْفٍ يُوجِبُ لَهُمُ الِانْقِيَادَ، وَلَكِنِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُوَفَّقُونَ، انْتَفَعُوا بِهِ وَارْتَفَعُوا، وَغَيْرُهُمْ بِالْعَكْسِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ.

وَلِهَذَا قَالَ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} أَيْ: يَهْدِيهِمْ لِطَرِيقِ الرُّشْدِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَيُعَلِّمُهُمْ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ مَا بِهِ تَحْصُلُ الْهِدَايَةُ التَّامَّةُ {وَشِفَاءٌ} لَهُمْ مِنَ الْأَسْقَامِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْأَسْقَامِ الْقَلْبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَزْجُرُ عَنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ وَأَقْبَحِ الْأَعْمَالِ، وَيَحُثُّ عَلَى التَّوْبَةِ النَّصُوحِ الَّتِي تَغْسِلُ الذُّنُوبَ وَتَشْفِي الْقَلْبَ.

{وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} بِالْقُرْآنِ {فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} أَيْ: صَمَمٌ عَنِ اسْتِمَاعِهِ وَإِعْرَاضٌ، {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} أَيْ: لَا يَبْصُرُونَ بِهِ رُشْدًا وَلَا يَهْتَدُونَ بِهِ، وَلَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا ضَلَالًا فَإِنَّهُمْ إِذَا رَدُّوا الْحَقَّ، ازْدَادُوا عَمًى إِلَى عَمَاهُمْ وَغَيًّا إِلَى غَيِّهِمْ.

{أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أَيْ: يُنَادَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ وَيُدْعَوْنَ إِلَيْهِ فَلَا يَسْتَجِيبُونَ، بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُنَادِي وَهُوَ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ، لَا يَسْمَعُ دَاعِيًا وَلَا يُجِيبُ مُنَادِيًا.

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، لَا يَنْتَفِعُونَ بِهُدَاهُ، وَلَا يُبْصِرُونَ بِنُورِهِ، وَلَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْهُ خَيْرًا، لِأَنَّهُمْ سَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَبْوَابَ الْهُدَى بِإِعْرَاضِهِمْ وَكُفْرِهِمْ.

انتهى.