بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الشُّورى
الدَّرس: الثَّاني
*** *** ***
– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى:7-12]
– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
يقول سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}، في هذا امتنانٌ من اللهِ على نبيِّهِ وعلى الناسِ أنْ أوحى إليهِ هذا القرآنَ العربيَّ المبينَ الكتابَ العزيزَ، {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} وهِي مكة، هِي أُمُّ القُرى، {وَمَنْ حَوْلَهَا}، يعني: وتُنْذِرَ مَن حولها.
والرسولُ صلى الله عليه وسلم أرسلَه اللهُ بشيراً ونذيراً لجميعِ الناسِ، لكن أول مَن كُلِّفَ بِنِذَارتِهم هُم قومُه مِن قريشٍ وغيرِهم مِن القبائلِ -من قبائلِ العرب- وهو نذيرٌ لكلِّ مَن بلَغَهُ القرآن، هو نذيرٌ -كما في الآية الأخرى-: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، كلُّ مَن بلغَه القرآن ففيهِ إنذارٌ له، والرسولُ منذرٌ له، {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}، كما قالَ في الآيةِ الأخرى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، خصَّهم بالنَّذَارةِ مع أنه نذيرٌ لجميعِ الناسِ، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الحج:49]، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}.
{وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ}، يعني: تُخَوِّفَهُم يومَ الجمعِ يومَ القيامةِ، تُخَوِّفَهُم مِن يومِ القيامةِ الذي يَجمعُ اللهُ فيه الأولين والآخرين، فيُجْمَعُونَ ويُحشَرون ويُحاسَبون ويُجزَون على أعمالهم.
{وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}، يصيرُ الناس في ذلك اليومِ فريقينِ، يصير كلُّ فريقٍ إلى ما أُعِدَّ لَهُ، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم:14-16]
ثمَّ قالَ سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ} لجعلَ الناسَ {أُمَّةً وَاحِدَةً}، لكن لحكمةٍ اقتضَتْ أنْ يكونَ الناس فريقينِ: مُهتدِين وضَالِّين، مؤمنينَ وكافرين، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}، فهو يُضِلُّ مَن يشاءُ، ويَهدي مَن يشاءُ، ويَمُنُّ على مَن يشاءُ، {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}، الظالمون بالشِّركِ والظالـمونَ أنفسَهم بالمعاصي مُسْتَوجِبُون للعذابِ ولا ناصرَ يَنصرُهم، {مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}.
ثمَّ يقول تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، الحكمُ للهِ وحدَهُ، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، ويقول: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
وهو سبحانه {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أيْ: خالقُهما، مُبتدأُ خَلقِهما، على غيرِ مِثالٍ سبقَ {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
{جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}، جعلَ للرجالِ أزواجاً مِن أنفسِهم وجعلَ بينهم مَودةً ورحمةً، ورزقَهم بهيمةَ الأنعام مِن الإبلِ والبقرِ وفيها منافعُ كثيرةٌ منها، {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:21]، وجعلَها أنواعاً، وهذا معنى قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا}، يعني: أصنافاً، بهيمةُ الأنعامِ أنواعٌ وأصنافٌ، الإبلُ والبقرُ والغنمُ، وهي أيضاً متنوعة: الغنمُ نوعان: الـمَعزُ والضَّأْنُ، والإبلُ -كذلك- والبقرُ متنوعة.
قال الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، لا شيءَ يُشبهُه تعالى، لا شبيهَ لَه مِن خَلْقِهِ، كقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]
ثمَّ قالَ تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}، يعني: أنه المتصرِّفُ في السمواتِ والأرضِ ومَن فيهنَّ، يُعطي ويَمنع، ويَخفض ويَرفَع، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، لا مُعقِّبَ لحكمِه، ولا رادَّ لقضائِهِ.
(تفسيرُ السَّعدي)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ -رحمَه اللهُ تعالى– ثُمَّ ذَكَرَ مِنَّتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى النَّاسِ، حَيْثُ أَنْزَلَ اللَّهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا بَيِّنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} وَهِيَ مَكَّةُ الْمُكَرَّمَةُ {وَمَنْ حَوْلَهَا} مِنْ قُرَى الْعَرَبِ، ثُمَّ يَسْرِي هَذَا الْإِنْذَارُ إِلَى سَائِرِ الْخَلْقِ. {وَتُنْذِرَ} النَّاسَ {يَوْمَ الْجَمْعِ} الَّذِي يَجْمَعُ اللَّهُ بِهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ {لا رَيْبَ فِيهِ} وَأَنَّ الْخَلْقَ يَنْقَسِمُونَ فِيهِ فَرِيقَيْنِ {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ} وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَقُوا الْمُرْسَلِينَ، {وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} وَهُمْ أَصْنَافُ الْكَفَرَةِ الْمُكَذِّبِينَ.
{و} مَعَ هَذَا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ النَّاسَ}، أَيْ: جَعَلَ النَّاسَ {أُمَّةً وَاحِدَةً} عَلَى الْهُدَى؛ لِأَنَّهُ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يَمْـتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَوَاصِّ خَلْقِهِ.
وَأَمَّا الظَّالِمُونَ الَّذِينَ لَا يَصْلُحُونَ لِصَالِحٍ، فَإِنَّهُمْ مَحْرُومُونَ مِنَ الرَّحْمَةِ، فَـ {مَا لَهُمْ} مِنْ دُونِ اللَّهِ {مِنْ وَلِيٍّ} يَتَوَلَّاهُمْ، فَيَحْصُلُ لَهُمُ الْمَحْبُوبُ، {وَلا نَصِيرٍ} يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْمَكْرُوهَ.
وَالَّذِينَ {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} يَتَوَلَّوْنَهُمْ بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، فَقَدْ غَلَطُوا أَقْبَحَ غَلَطٍ، فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ عَبْدُهُ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَا أَمْكَنَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّقَرُّبَاتِ، وَيَتَوَلَّى عِبَادَهُ عُمُومًا بِتَدْبِيرِهِ، وَنُفُوذِ الْقَدَرِ فِيهِمْ، وَيَتَوَلَّى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ خُصُوصًا، بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَتَرْبِيَتِهِمْ بِلُطْفِهِ، وَإِعَانَتِهِمْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ.
{وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أَيْ: هُوَ الْمُتَصَرِّفُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَنُفُوذِ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ، فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
قالَ الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} الآياتُ، يَقولُ تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ} مِنْ أُصُولِ دِينِكُمْ وَفُرُوعِهِ، مِـمَّا لَمْ تَتَّفِقُوا عَلَيْهِ {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} يُرَدُّ إِلَى كِتَابِهِ، وَإِلَى سُنَّةِ رَسُولِهِ، فَمَا حَكَمَا بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَبَاطِلٌ. {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} أَيْ: فَكَمَا أَنَّهُ تَعَالَى الرَّبُّ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْمُدَبِّرُ، فَهُوَ تَعَالَى الْحَاكِمُ بَيْنَ عِبَادِهِ بِشَرْعِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ.
وَمَفْهُومُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اتِّفَاقَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَرُدَّ إِلَيْهِ إِلَّا مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ، فَمَا اتَّفَقْنَا عَلَيْهِ يَكْفِي اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مَعْصُومَةٌ عَنِ الْخَطَأِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اتِّفَاقُهَا مُوَافِقًا لِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ.
وَقَوْلُهُ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أَيِ: اعْتَمَدَتْ بِقَلْبِي عَلَيْهِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، وَاثِقًا بِهِ تَعَالَى فِي الْإِسْعَافِ بِذَلِكَ. {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أَيْ: أَتَوَجَّهُ بِقَلْبِي وَبَدَنِي إِلَيْهِ وَإِلَى طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ.
وَهَذَانَ الْأَصْلَانِ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِمَجْمُوعِهِمَا كَمَالُ الْعَبْدِ، وَيَفُوتُهُ الْكَمَالُ بِفَوْتِهِمَا أَوْ فَوْتِ أَحَدِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]
{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أَيْ: خَالِقُهُمَا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا، وَتَنْتَشِرَ مِنْكُمُ الذَّرِّيَّةُ، وَيَحْصُلَ لَكُمْ مِنَ النَّفْعِ مَا يَحْصُلُ.
{وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} أَيْ: وَمِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِهَا نَوْعَيْنِ: ذَكَرًا وَأُنْثَى؛ لِتَبْقَى وَتَنْمُوَ لِمَنَافِعِكُمُ الْكَثِيرَةِ، وَلِهَذَا عَدَّاهَا بِاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ، أَيْ: جَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِكُمْ، وَلِأَجْلِ النِّعْمَةِ عَلَيْكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أَيْ: يَبُثُّكُمْ وَيُكْثِـرُكُمُ وَيُكْثِرُ مَوَاشِيَكُمْ؛ بِسَبَبِ أَنْ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا.
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أَيْ: لَيْسَ يُشْبِهُهُ تَعَالَى وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي أَسْمَائِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَهُ كُلَّهَا حُسْنَى، وَصِفَاتِهِ صِفَةُ كَمَالِ وَعَظَمَةِ، وَأَفْعَالَهُ تَعَالَى أَوْجَدَ بِهَا الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةَ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ، فَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؛ لِانْفِرَادِهِ وَتَوَحُّدِهِ بِالْكَمَالِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. {وَهُوَ السَّمِيعُ} لِجَمِيعِ الْأَصْوَاتِ، بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ. {الْبَصِيرُ} يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ، فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ، وَيَرَى سَرَيَانَ الْقُوتِ فِي أَعْضَاءِ الْحَيَوَانَاتِ الصَّغِيرَةِ جِدًّا، وَسَرَيَانَ الْمَاءِ فِي الْأَغْصَانِ الدَّقِيقَةِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ وَنَحْوُهَا، دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَنَفْيِ مُمَاثِلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الْمُشَابَهَةِ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَعَلَى الْمُعَطِّلَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
وَقَوْلُهُ: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أَيْ: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَبِيَدِهِ مَفَاتِيحُ الرَّحْمَةِ وَالْأَرْزَاقِ، وَالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. فَكُلُّ الْخَلْقِ مُفْتَقِرُونَ إِلَى اللَّهِ، فِي جَلْبِ مَصَالِحِهِمْ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، لَيْسَ بِيَدِ أَحَدٍ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ.
وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، الَّذِي مَا بِالْعِبَادِ مِنْ نِعْمَةٍ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا يَدْفَعُ الشَّرَّ إِلَّا هُوَ، وَ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]
وَلِهَذَا قَالَ هُنَا: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} أَيْ: يُوَسِّعُهُ وَيُعْطِيهِ مِنْ أَصْنَافِ الرِّزْقِ مَا شَاءَ، {وَيَقْدِرُ} أَيْ: يُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، حَتَّى يَكُونَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ لَا يَزِيدُ عَنْهَا، وَكُلُّ هَذَا تَابِعٌ لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فَيَعْلَمُ أَحْوَالَ عِبَادِهِ، فَيُعْطِي كُلًّا مَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وَتَقْتَضِيهُ مَشِيئَتُهُ.
قال الله تعالى
– الشيخ : إلى هنا، لا حولَ ولا قوة إلا بالله، آمنتُ باللهِ ورُسلِهِ.