الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الشورى/(4) من قوله تعالى {الله الذي أنزل الكتاب بالحق} الآية 17 إلى قوله تعالى {من كان يريد حرث الآخرة} الآية 20
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(4) من قوله تعالى {الله الذي أنزل الكتاب بالحق} الآية 17 إلى قوله تعالى {من كان يريد حرث الآخرة} الآية 20

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الشُّورى

الدَّرس: الرَّابع

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ[الشورى:17-20]

الشيخ : إلى هنا، لا إله إلا الله، الله تعالى مِن رحمتِه بعبادِه أنزل الكتاب، هذا القرآن وأنزل قبلَه كتباً {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ} {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يعني: مُتضمِّناً ومُشتمِلاً على الحقِّ في الأخبار وفي الأحكام، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]

{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} {وَالْمِيزَانَ} قال المفسرون: هو العَدلُ، اللهُ أنزلَ العدلَ، كما في الآيةِ الأخرى: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25] أنزلَ الميزانَ العَدل، وهذا أيضاً قد تضمَّنه الكتاب كما أنه أنزلَ الفرقان، فالقرآن متضمِّن للفرقان، ومتضمِّن للعَدل {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ}

قال الله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} الساعة: القيامةُ، وهي مُغيَّبةٌ، الساعة قيامُ الساعةِ مُغيَّبٌ عن الخَلِيقةِ، فلا يَعلمُ متى الساعة لا مَلَكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ، يعني: علمها ثَقُلَ في السموات والأرض يعني: حدثٌ عظيمٌ لا يعلم له أحدٌ توقيتاً، وهؤلاء الكفار الذين فُتِحَ لهم من أسباب المعرفة والحسابِ ما فُتِحَ لا يعلمون متى الساعة، ولا يمكن وإن قالَ أحدٌ شيئاً من ذلك فهو الخَرْصُ، ويُعلَم بذلك كذبُ مَن يدَّعي أن الساعة تقومُ كذا متى كذا، بعد كذا، كلُّ هذا نعلم قطعاً أنه كذبٌ {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ} { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر:1] {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}

{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالقيامة يقولونَ: "متى الساعة؟ متى؟ هاتِها"؛ لجهلِهم وإصرارِهم على الباطل والكفر {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} لأنَّهم لا يخافونَ منها، يُكذِّبون بالبعث والنشورِ، ويقولون: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون:82]

{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} المؤمنونَ خائِفُونَ يعلمونَ ما سيكونُ فيها، يخافون مما يكون يومَ القيامة، يخافونَ مِن الحسابِ يخافون مِن العذاب يخافونَ من النار، فهم مُشفقونَ خائفونَ منها، إذا قامتِ الساعةُ قامَ الناسُ مِن القبور، وحُشِروا وجُمِعوا، وجَرَت، وجرى الحسابُ بوضعِ الكتابِ وبوضع الموازين {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]

ثم قال تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} وألطافُه كثيرة، ولا سيما بعبادِه الصالحين، فهو لطيفٌ بهم يهديهم يسددُهم ويحفظُهم {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} فهذه ثلاثةُ أسماء مِن أسمائه: اللَّطيفُ والقويُّ والعزيزُ، واللطيفُ يأتي مَقروناً بالخبير {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] والقويُّ والعزيزُ يأتيانِ كثيراً {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}

ثم قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ} يعني: عملَ الآخرةِ وثوابَ الآخرةِ، مَن َ يريد ثواب الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، كقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} يأخذ، نؤتِهِ مِن هذه الدنيا، ولكن هذا الوعدُ مقيَّدٌ بمشيئتِه تعالى كما قال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18] فليسَ كل مَن يريد الدنيا يُعطَى ما يريدُه، الكفارُ الآن لا يريدون إلا الحياةَ الدنيا وفيهم، فيهم الأغنياءُ والفقراءُ والمحظوظُ والمحرومُ كلُّ هذا موجود في الكفار {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا}

إذاً قوله: من أراد، وهو القوي العزيز {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16،15] إذاً فما لهم فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ، يعني: مِن حظٍّ وخيرٍ أو […..] ما لهم، وهذا يوجب للمسلمِ أن تكون همتُه في منافع الآخرة، أن تكون همتُهم في طلب ثوابِ الآخرة، {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال:67]، هذه الدنيا دارُ ابتلاءٍ للعبادِ، وأسعدُ الناس في الدنيا والآخرة هم أهل الإيمانِ والتقوى أولياءُ الله، {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62-64]

 

(تفسير السعدي)

القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين، قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ رحمه الله تعالى في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:

{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} الآيات:

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ حُجَجَهُ وَاضِحَةٌ بَيِّنَةٌ، بِحَيْثُ اسْتَجَابَ لَهَا كُلُّ مَنْ فِيهِ خَيْرٌ، ذَكَرَ أَصْلَهَا وَقَاعِدَتَهَا، بَلْ جَمِيعَ الْحُجَجِ الَّتِي أَوْصَلَهَا إِلَى الْعِبَادِ، فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ فَالْكِتَابُ هُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، نَزَلَ بِالْحَقِّ، وَاشْتَمَلَ عَلَى الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَالْيَقِينِ، وَكُلُّهُ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، وَأَدِلَّةٌ وَاضِحَاتٌ، عَلَى جَمِيعِ الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، فَجَاءَ بِأَحْسَنِ الْمَسَائِلِ وَأَوْضَحِ الدَّلَائِلِ.

وَأَمَّا الْمِيزَانُ، فَهُوَ الْعَدْلُ وَالِاعْتِبَارُ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَالْعَقْلِ الرَّجِيحِ، فَكُلُّ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، مِنَ الْآيَاتِ الْآفَاقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، وَالِاعْتِبَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْمُنَاسَبَاتِ وَالْعِلَلِ، وَالْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ، دَاخِلَةٌ فِي الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَوَضَعَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، [ ص: 1589 ] لِيَزِنُوا بِهِ مَا اشْتَبَهَ مِنَ الْأُمُورِ، وَيَعْرِفُوا بِهِ صِدْقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَأَخْبَرَتْ رُسُلُهُ، مِمَّا خَرَجَ عَنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَنِ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ مِمَّا قِيلَ إِنَّهُ حُجَّةٌ أَوْ بُرْهَانٌ أَوْ دَلِيلٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، فَإِنَّهُ بَاطِلٌ مُتَنَاقِضٌ، قَدْ فَسَدَتْ أُصُولُهُ، وَانْهَدَمَتْ مَبَانِيهِ وَفُرُوعُهُ، يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ خَبَرِ الْمَسَائِلِ وَمَآخِذِهَا، وَعُرِفَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ رَاجِحِ الْأَدِلَّةِ مَنْ مَرْجُوحِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحُجَجِ وَالشَّبَهِ، وَأَمَّا مَنِ اغْتَرَّ بِالْعِبَارَاتِ الْمُزَخْرَفَةِ، وَالْأَلْفَاظِ الْمُمَوَّهَةِ، وَلَمْ تَنْفُذْ بَصِيرَتُهُ إِلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ، وَلَا مِنْ فُرْسَانِ هَذَا الْمَيْدَانِ، فَوِفَاقُهُ وَخِلَافُهُ سِيَّانٌ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخَوِّفًا لِلْمُسْتَعْجِلِينَ لِقِيَامِ السَّاعَةِ الْمُنْكِرِينَ لَهَا، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ أَيْ: لَيْسَ بِمَعْلُومٍ بَعْدَهَا،

الشيخ : فليس، أيش يقول؟

– طالب: فلَيْسَ بِمَعْلُومٍ وقتُها

الشيخ : وقتُها، وقتُها نعم، فلَيْسَ بِمَعْلُومٍ وقتُها، ما في بعدها

القارئ : أَيْ: لَيْسَ بِمَعْلُومٍ بَعْدَهَا، وَلَا مَتَى تَقُومُ، فَهِيَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُتَوَقَّعٌ وُقُوعُهَا، مُخَوِّفٌ وَجُبَّتُهَا يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا عِنَادًا وَتَكْذِيبًا، وَتَعْجِيزًا لِرَبِّهِمْ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا أَيْ: خَائِفُونَ، لِإِيمَانِهِمْ بِهَا، وَعِلْمِهِمْ بِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ بِالْأَعْمَالِ، وَخَوْفُهُمْ، لِمَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ، أَنْ لَا تَكُونُ أَعْمَالُهُمْ مُنْجِيَةً لَهُمْ وَلَا مُسْعِدَةً، وَلِهَذَا قَالَ: وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا شَكَّ يَعْتَرِيهِ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ أَيْ: بَعْدَ مَا امْتَرُوا فِيهَا، مَارَوُا الرُّسُلَ وَأَتْبَاعَهَمْ بِإِثْبَاتِهَا فَهُمْ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ، أَيْ: مُعَانَدَةٍ وَمُخَاصَمَةٍ غَيْرِ قَرِيبَةٍ مِنَ الصَّوَابِ، بَلْ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْحَقِّ، وَأَيُّ بُعْدٍ أَبْعَدَ مِمَّنْ كَذَّبَ بِالدَّارِ الَّتِي هِيَ الدَّارُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي خُلِقَتْ لِلْبَقَاءِ الدَّائِمِ وَالْخُلُودِ السَّرْمَدِ، وَهِيَ دَارُ الْجَزَاءِ الَّتِي يُظْهِرُ اللَّهُ فِيهَا عَدْلَهُ وَفَضْلَهُ وَإِنَّمَا هَذِهِ الدَّارُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَحَلَ وَتَرَكَهَا، وَهِيَ دَارُ عُبُورٍ وَمَمَرٍّ، لَا مَحَلَّ اسْتِقْرَارٍ.

فَصَدَّقُوا بِالدَّارِ الْمُضْمَحِلَّةِ الْفَانِيَةِ، حَيْثُ رَأَوْهَا وَشَاهَدُوهَا، وَكَذَّبُوا بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، الَّتِي تَوَاتَرَتْ بِالْإِخْبَارِ عَنْهَا الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ، وَالرُّسُلُ الْكِرَامُ وَأَتْبَاعُهُمُ، الَّذِينَ هُمْ أَكْمَلُ الْخَلْقِ عُقُولًا وَأَغْزَرُهُمْ عِلْمًا، وَأَعْظَمُهُمْ فَطِنَةً وَفَهْمًا.

قال الله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} الآيات

يُخْبِرُ تَعَالَى بِلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ لِيَعْرِفُوهُ وَيُحِبُّوهُ، وَيَتَعَرَّضُوا لِلُطْفِهِ وَكَرَمِهِ، وَاللُّطْفُ مِنْ أَوْصَافِهِ تَعَالَى مَعْنَاهُ: الَّذِي يُدْرِكُ الضَّمَائِرَ وَالسَّرَائِرَ

الشيخ : لا إله إلا الله، اللهُ محيطٌ بعبادِه، اللَّطف في أوصافِ اللهِ نوعانِ: لطف بعلمِه حيث يعلمُ دقائقَ الأشياءِ وخفاياها، { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [لقمان:16] لطيف، وكذلك اللُّطف الآخَر هو الذي يرجع إلى الإحسانِ إلى العبد يلطُف به، وهذا اللُّطفُ يتضمَّن الرحمة والإحسان، وهذا، وهذه، واللَّطيف في هذه الآية كأنه مِن هذا النوع، والثاني مثل: { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [لقمان:16] هذا هو اللُّطفُ الراجعُ للعلمِ لكمالِ العلم والاطِّلاعِ على أخفى الخفيَّاتِ.

 

القارئ : الَّذِي يُوصِلُ عِبَادَهُ -وَخُصُوصًا الْمُؤْمِنِينَ- إِلَى مَا فِيهِ الْخَيْرُ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يَحْتَسِبُونَ.

فَمِنْ لُطْفِهِ بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، أَنْ هَدَاهُ إِلَى الْخَيْرِ هِدَايَةً لَا تَخْطُرُ بِبَالِهِ، بِمَا يَسَّرَ لَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إِلَى ذَلِكَ، مِنْ فِطْرَتِهِ عَلَى مَحَبَّةِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ وَإِيزَاعِهِ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ الْكِرَامِ، أَنْ يَثْبُتُوا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحِثُّوهُمْ عَلَى الْخَيْرِ، وَيُلْقُوا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ تَزْيِينِ الْحَقِّ مَا يَكُونُ دَاعِيًا لِاتِّبَاعِهِ.

وَمِنْ لُطْفِهِ أَنْ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِالْعِبَادَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، الَّتِي بِهَا تَقْوَى عَزَائِمُهُمْ وَتَنْبَعِثُ هِمَمُهُمْ، وَيَحْصُلُ مِنْهُمُ التَّنَافُسُ عَلَى الْخَيْرِ وَالرَّغْبَةُ فِيهِ، وَاقْتِدَاءُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ.

وَمِنْ لُطْفِهِ: أَنْ قَيَّضَ لِعَبْدِهِ كُلَّ سَبَبٍ يَعُوقُهُ وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعَاصِي، حَتَّى إِنَّهُ تَعَالَى إِذَا عَلِمَ أَنَّ الدُّنْيَا وَالْمَالَ وَالرِّيَاسَةَ وَنَحْوَهَا مِمَّا يَتَنَافَسُ فِيهِ أَهْلُ الدُّنْيَا، تَقْطَعُ عَبْدَهُ عَنْ طَاعَتِهِ، أَوْ تَحَمِلُهُ عَلَى الْغَفْلَةِ عَنْهُ، أَوْ عَلَى مَعْصِيَةٍ صَرَفَهَا عَنْهُ، وَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَلِهَذَا قَالَ هُنَا: يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِحَسَبِ اقْتِضَاءِ حِكْمَتِهِ وَلُطْفِهِ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ الَّذِي لَهُ الْقُوَّةُ كُلُّهَا، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ إِلَّا بِهِ، الَّذِي دَانَتْ لَهُ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} أَيْ: أَجْرُهَا وَثَوَابُهَا، فَآمَنَ بِهَا وَصَدَّقَ، وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} بِأَنْ نُضَاعِفَ عَمَلَهُ وَجَزَاءَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19] وَمَعَ ذَلِكَ، فَنَصِيبُهُ مِنَ الدُّنْيَا لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَهُ.

{وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} بِأَنْ: كَانَتِ الدُّنْيَا هِيَ مَقْصُودُهُ وَغَايَةُ مَطْلُوبِهِ، فَلَمْ يُقَدِّمْ لِآخِرَتِهِ، وَلَا رَجَا ثَوَابَهَا، وَلَمْ يَخْشَ عِقَابَهَا. {نُؤْتِهِ مِنْهَا} نَصِيبَهُ الَّذِي قُسِمَ لَهُ، {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} قَدْ حَرَّمَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا، وَاسْتَحَقَّ النَّارَ وَجَحِيمَهَا.

وَهَذِهِ الْآيَةُ، شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.

انتهى، {أم لهم شركاء}

الشيخ : نعم، بسم الله، بعدك