الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الشورى/(5) من قوله تعالى {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} الآية 21 إلى قوله تعالى {أم يقولون افترى على الله كذبا} الآية 24

(5) من قوله تعالى {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} الآية 21 إلى قوله تعالى {أم يقولون افترى على الله كذبا} الآية 24

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الشُّورى

الدَّرس: الخامس

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ:

أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الشورى:21-24]

الشيخ : إلى هنا

القارئ : عفا اللهُ عنكَ

الشيخ : يُنكرُ اللهُ سبحانه وتعالى على المشركين ما ابتدعوه وزعمُوا أنّه من الدّينِ، ومن ذلكَ تحريمُ ما أحلَّ اللهُ {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} [النحل:35] كما ذكرَ اللهُ في سورة الأنعامِ.

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم} وهم طواغيتُهم وكبراؤُهم الَّذين يشرعونَ لهم شرائعَ شيطانيَّةَ ما أنزلَ اللهُ بها من سلطانٍ، وكلُّ من وضعَ قانوناً يُحلِّل فيه ويُحرِّم ما لم يأذنْ به اللهُ، فيُحرِّمُ ما أحلَّ اللهُ، ويُحلِّلُ ما حرَّم اللهُ، فهو طاغوتٌ جعلَه أتباعُه شريكاً معَ اللهِ، فإنَّ التحليلَ والتحريمَ من حقِّ اللهِ، فالحلالُ ما أحلَّه اللهُ، والحرامُ ما حرَّمَه اللهُ.

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} إذاً هو دينٌ باطلٌ، وكلُّ دينٍ يتديَّنُ به أحدٌ من الناس ممَّا لم يشرعْه اللهُ فهو دينٌ باطلٌ {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهذا وعيدٌ من اللهِ للظالمين المشركين، فإنَّ أظلمَ الظُّلمِ هو الشركُ، واللهُ يصفُ المشركين بالظلمِ {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]

{وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ} وجلينَ ممَّا كسبُوا، يعني: من أعمالهِم الباطلةِ فهم مشفقون منها، ولعلَّ هذا يكونُ حالُهم يومَ القيامةِ، يدركون أنَّهم كانوا على باطلٍ {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} نازلٌ بهم العذابُ { تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} فالظالمون إلى جهنَّم وبئسَ المصيرِ من سوءِ ما اكتسبوا.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} أيش بعدها؟

القارئ : {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}

الشيخ : {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} من أسمائِه الشكورُ، غفورٌ للذنوبِ، شكورٌ للأعمالِ الصالحةِ يُضاعفها للعاملين.

{وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} هذا يقولُ المشركون: إنَّ محمَّداً قد كذبَ على الله، وهذا القرآنُ افتراءٌ على الله، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}

قالَ اللهُ: {فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} لو افترى محمَّدٌ على اللهِ شيئاً لانتقمَ منه، فاللهُ تعالى ينتقمُ من الظالمين، ولهذا في الآيةِ الأخرى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44-47] بل الرسولُ هو الصَّادقُ المصدوقُ أصدقُ النَّاسِ أجمعين، خلافُ ما يقوله المُفترون الكاذبون، إنَّه كذَّابٌ، إنَّه ساحرٌ، إنَّه مجنونٌ، إنَّه كاذبٌ على الله، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}

 

(تفسيرُ السَّعديِّ):

القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ} الآياتَ.

يُخبِرُ تعالى أنَّ المشركينَ اتَّخذُوا شركاءَ يوالونَهم ويشتركونَ هم وإيَّاهم في الكفرِ وأعمالِهِ، مِن شياطينِ الإنسِ، الدُّعاةِ إلى الكفرِ {شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} مِن الشِّركِ والبدعِ، وتحريمِ ما أحلَّ اللهُ، وتحليلِ ما حرَّمَ اللهُ ونحوِ ذلكَ ممَّا اقتضَتْهُ أهواؤُهم.

معَ أنَّ الدِّينَ لا يكونُ إلَّا ما شرعَهُ اللهُ تعالى، ليدينَ بهِ العبادُ ويتقرَّبُوا بهِ إليهِ، فالأصلُ الحجرُ على كلِّ أحدٍ أنْ يشرعَ شيئاً ما جاءَ عن اللهِ وعن رسولِهِ، فكيفَ بهؤلاءِ الفسقةِ المشتركينَ هم وآباؤُهم على الكفرِ.

{وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: لولا الأجلُ المسمَّى الَّذي ضربَهُ اللهُ فاصلاً بينَ الطَّوائفِ المختلفةِ، وأنَّهُ سيؤخِّرُهم إليهِ، لقُضِيَ بينَهم في الوقتِ الحاضرِ بسعادةِ المُحقِّ وإهلاكِ المُبطلِ؛ لأنَّ المُقتضيَ للإهلاكِ موجودٌ، ولكنْ أمامَهم العذابُ الأليمُ في الآخرةِ

الشيخ : لا إله إلَّا الله، {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:53]

القارئ : هؤلاءِ وكلُّ ظالمٍ.

وفي ذلكَ اليومِ {تَرَى الظَّالِمِينَ} أنفسَهم بالكفرِ والمعاصي

الشيخ : نعم شو [ماذا] يقول قبله؟

القارئ : {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: لولا الأجلُ المسمَّى الَّذي ضربَهُ اللهُ فاصلاً بينَ الطَّوائفِ المختلفةِ، وأنَّهُ سيؤخِّرُهم إليهِ، لقُضِيَ بينَهم في الوقتِ الحاضرِ بسعادةِ المُحقِّ وإهلاكِ المُبطلِ؛ لأنَّ المقتضيَ للإهلاكِ موجودٌ، ولكنْ أمامَهم العذابُ الأليمُ في الآخرةِ، هؤلاءِ وكلُّ ظالمٍ.

وفي ذلكَ اليومِ {تَرَى الظَّالِمِينَ} أنفسَهم بالكفرِ والمعاصي {مُشْفِقِينَ} أي: خائفينَ وجلينَ {مِمَّا كَسَبُوا} أنْ يُعاقَبُوا عليهِ، ولمَّا كانَ الخائفُ قد يقعُ بهِ ما أشفقَ منهُ وخافَهُ، وقد لا يقعُ، أخبرَ أنَّهُ {وَاقِعٌ بِهِمْ} العقابُ الَّذي خافُوهُ، لأنَّهم أتَوا بالسَّببِ التَّامِّ الموجبِ للعقابِ، مِن غيرِ مُعارضٍ، مِن توبةٍ ولا غيرِها، ووصلُوا موضعاً فاتَ فيهِ الإنظارُ والإمهالُ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بقلوبِهم باللهِ وبكتبِهِ ورسلِهِ وما جاؤُوا بهِ، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يشملُ كلَّ عملٍ صالحٍ مِن أعمالِ القلوبِ، وأعمالِ الجوارحِ مِن الواجباتِ والمُستحبَّاتِ، فهؤلاءِ {فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} أي: الرَّوضاتُ المضافةُ إلى الجنَّاتِ، والمضافُ يكونُ بحسبِ المضافِ إليهِ، فلا تسألْ عن بهجةِ تلكَ الرِّياضِ المونقةِ، وما فيها مِن الأنهارِ المتدفِّقةِ

الشيخ : لا إله إلَّا الله، روضات، الله أكبر الله أكبر، فيها كلُّ أسبابِ الحبور، فيها كلُّ أسباب السرورِ، فيها كلُّ أسباب النعيمِ، لا إله إلَّا الله، نسألُ اللهَ من فضلِه {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ}

 

القارئ : وما فيها مِن الأنهارِ المتدفِّقةِ، والغياضِ المعشبةِ، والمناظرِ الحسنةِ، والأشجارِ المثمرةِ، والطُّيورِ المغرِّدةِ، والأصواتِ الشَّجيَّةِ المطرِبةِ، والاجتماعِ بكلِّ حبيبٍ، والأخذِ مِن المعاشرةِ والمنادمةِ بأكملِ نصيبٍ، رياضٌ لا تزدادُ على طولِ المدى إلَّا حسناً وبهاءً ولا يزدادُ أهلُها إلَّا اشتياقاً إلى لذَّاتِها ووداداً، {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ} فيها، أي: في الجنَّاتِ عندَ ربِّهم، فمهما أرادُوا فهوَ حاصلٌ، ومهما طلبُوا حصلَ، ممَّا لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعَتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ. {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} وهل فضلٌ أكبرُ مِن الفوزِ برضا اللهِ تعالى، والتَّنعُّمِ بقربِهِ في دارِ كرامتِهِ؟

الشيخ : لا إله إلَّا الله، نسأل اللهَ من فضله، نسأل اللهَ من فضله

القارئ : {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: هذهِ البشارةُ العظيمةُ، الَّتي هيَ أكبرُ البشائرِ على الإطلاقِ، يُبشِّرُ بها الرَّحيمُ الرَّحمنُ، على يدِ أفضلِ خلقِهِ لأهلِ الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ، فهيَ أجلُّ الغاياتِ، والوسيلةُ الموصِلةُ إليها أفضلُ الوسائلِ.

{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي: على تبليغي إيَّاكم هذا القرآنَ ودعوتِكم إلى أحكامِهِ. {أَجْرًا} فلسْتُ أريدُ أخذَ أموالِكم، ولا التَّولِّي عليكم والتَّرؤُّسَ، ولا غيرَ ذلكَ مِن الأغراضِ {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}

يُحتمَلُ أنَّ المرادَ: لا أسألُكم عليهِ أجراً إلَّا أجراً واحداً هوَ لكم، وعائدٌ نفعُهُ إليكم، وهوَ أنْ تودّوني وتحبُّوني في القرابةِ، أي: لأجلِ القرابةِ. ويكونُ على هذا المودَّةِ الزَّائدةِ على مودَّةِ الإيمانِ، فإنَّ مودَّةَ الإيمانِ بالرَّسولِ، وتقديمَ محبَّتِهِ على جميعِ المحابِّ بعدَ محبَّةِ اللهِ، فرضٌ على كلِّ مسلمٍ، وهؤلاءِ طلبَ منهم زيادةً على ذلكَ أنْ يحبُّوهُ لأجلِ القرابةِ؛ لأنَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، قد باشرَ بدعوتِهِ أقربَ النَّاسِ إليهِ، حتَّى إنَّهُ قيلَ: إنَّهُ ليسَ في بطونِ قريشٍ أحدٌ، إلَّا ولرسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فيهِ قرابةٌ.

ويُحتمَلُ أنَّ المرادَ إلَّا مودَّةَ اللهِ تعالى المودَّةَ الصَّادقةَ، وهيَ الَّتي يصحبُها التَّقرُّبُ إلى اللهِ، والتَّوسُّلُ بطاعتِهِ الدَّالَّةِ على صحَّتِها وصدقِها، ولهذا قالَ: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي: في التَّقرُّبِ إلى اللهِ، وعلى كلا القولَينِ، فهذا الاستثناءُ دليلٌ على أنَّهُ لا يسألُهم عليهِ أجراً بالكليَّةِ، إلَّا أنْ يكونَ شيئاً يعودُ نفعُهُ إليهم، فهذا ليسَ مِن الأجرِ في شيءٍ، بل هوَ مِن الأجرِ منهُ لهم صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، كقولِهِ تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] وقولِهم: "ما لفلانٍ ذنبٌ عندَكَ، إلَّا أنَّهُ محسنٌ إليكَ"

{وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} مِن صلاةٍ، أو صومٍ، أو حجٍّ، أو إحسانٍ إلى الخلقِ {نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} بأنْ يشرحَ اللهُ صدرَهُ، وييسِّرَ أمرَهُ، وتكونُ سبباً للتَّوفيقِ لعملٍ آخرَ، ويزدادُ بها عملُ المؤمنِ، ويرتفعُ عندَ اللهِ وعندَ خلقِهِ، ويحصلُ لهُ الثَّوابُ العاجلُ والآجلُ.

{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} يغفرُ الذُّنوبَ العظيمةَ ولو بلغَتْ ما بلغَتْ عندَ التَّوبةِ منها، ويشكرُ على العملِ القليلِ بالأجرِ الكثيرِ، فبمغفرتِهِ يغفرُ الذُّنوبَ ويسترُ العيوبَ، وبشكرِهِ يتقبَّلُ الحسناتِ ويضاعفُها أضعافاً كثيرةً.

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} الآيةَ.

يعني: أم يقولُ المكذِّبونَ للرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- جرأةً منهم وكذباً: {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فرمَوكَ بأشنعِ الأمورِ وأقبحِها، وهوَ الافتراءُ على اللهِ بادِّعاءِ النُّبوَّةِ والنِّسبةِ إلى اللهِ ما هوَ بريءٌ منهُ، وهم يعلمونَ صدقَكَ وأمانتَكَ، فكيفَ يتجرَّؤُونَ على هذا الكذِبِ الصَّراحِ؟

بل تجرَّؤُوا بذلكَ على اللهِ تعالى، فإنَّهُ قدحٌ في اللهِ، حيثُ مكَّنَكَ مِن هذهِ الدَّعوةِ العظيمةِ، المتضمِّنةِ -على موجبِ زعمِهم- أكبرَ الفسادِ في الأرضِ، حيثُ مكَّنَهُ اللهُ مِن التَّصريحِ بالدَّعوةِ، ثمَّ بنسبتِها إليهِ، ثمَّ يؤيِّدُهُ بالمعجزاتِ الظَّاهراتِ، والأدلَّةِ القاهراتِ، والنَّصرِ المبينِ، والاستيلاءِ على مَن خالفَهُ، وهوَ تعالى قادرٌ على حسمِ هذهِ الدَّعوةِ مِن أصلِها ومادَّتِها، وهوَ أنْ يختمَ على قلبِ الرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فلا يعي شيئاً ولا يدخلُ إليهِ خيرٌ، وإذا ختمَ على قلبِهِ انحسمَ الأمرُ كلُّهُ وانقطعَ.

فهذا دليلٌ قاطعٌ على صحَّةِ ما جاءَ بهِ الرَّسولُ، وأقوى شهادةً مِن اللهِ لهُ على ما قالَ، ولا يوجدُ شهادةٌ أعظمُ منها ولا أكبرُ، ولهذا مِن حكمتِهِ ورحمتِهِ، وسنَّتِهِ الجاريةِ، أنَّهُ يمحو الباطلَ ويزيلَهُ، وإنْ كانَ لهُ صولةٌ في بعضِ الأوقاتِ، فإنَّ عاقبتَهُ الاضمحلالُ.

{وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} الكونيَّةِ، الَّتي لا تُغيَّرُ ولا تُبدَّلُ، ووعدُهُ الصَّادقُ، وكلماتُهُ الدِّينيَّةُ الَّتي تحقِّقُ ما شرعَهُ مِن الحقِّ، وتثبِّتُهُ في القلوبِ، وتُبصِّرُ أولي الألبابِ، حتَّى إنَّ مِن جملةِ إحقاقِهِ تعالى الحقَّ، أنْ يُقَيِّضَ لهُ الباطلَ ليُقاومَهُ، فإذا قاومَهُ، صالَ عليهِ الحقُّ ببراهينِهِ وبيِّناتِهِ، فظهرَ مِن نورِهِ وهداهُ ما بهِ يضمحلُّ الباطلُ وينقمعُ، ويتبيَّنُ بطلانُهُ لكلِّ أحدٍ، ويظهرُ الحقُّ كلَّ الظُّهورِ لكلِّ أحدٍ.

{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بما فيها، وما اتَّصفَتْ بهِ مِن خيرٍ وشرٍّ، وما أكنَّتْهُ ولم تبدِهِ.

انتهى