الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الشورى/(7) من قوله تعالى {ومن آياته خلق السماوات} الآية 29 إلى قوله تعالى {ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص} الآية 35

(7) من قوله تعالى {ومن آياته خلق السماوات} الآية 29 إلى قوله تعالى {ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص} الآية 35

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الشُّورى

الدَّرس: السَّابع

***     ***     ***

  

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ[الشورى:29-35]

الشيخ : يُذكِّرُ اللهُ سبحانه وتعالى عبادَه بآياتِه الكونيَّة المشاهدةِ الدالَّة على ربوبيَّتهِ وإلاهيَّتِه وكمالِ صفاته ويعدِّدُ عليهم ذلك، وهذا في القرآن كثيرٌ، من آياتِه الدالَّة على ربوبيَّته وإلاهيَّته وكمالِه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هذه السمواتُ المرفوعةُ الواسعةُ بلا عمدٍ ترونَها، وهذه الأرضُ المبسوطةُ -كذلك- الَّتي جعلَها اللهُ لعباده فراشاً ومهاداً.

ومِن آياتِه كذلك مَا بَثَّ من الدوابِّ المتنوعةِ {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} بثَّها: نشرَها.

قالَ اللهُ: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} إذا شاءَ جمعَ هذهِ المخلوقاتِ المنتشرةِ المتفرِّقة من الإنسان والحيوان على اختلافِ أنواعِها وأحوالِها [….] {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} وفي هذا إشارةٌ إلى يومِ القيامةِ الَّذي يجمعُ اللهُ فيه الأوَّلين والآخرين، ومن أسمائِه يومُ الجمعِ {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49-50]

ثمَّ قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ} أيُّها العبادُ {مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} ما أصابَكم من آفاتٍ، من فقرٍ وجوعٍ ووباءٍ أمراض فتَّاكة، وما أصابَكم من أمراضٍ في الأبدان، ما أصابَكم من موتِ الأحبَّةِ {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]

يقولُ تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ} يعني: من المصائبِ المؤلمةِ {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} يعني: بسبب ما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وجَنتْ، وجنتْ أيديكم من الأعمالِ المحرَّمةِ فيها المعاصي، يعني: فسببِ ما كسبَتْ أيديكم، أي: بسببِ ما كسبْتُم. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]

قالَ اللهُ: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} يعني: ما أصابَ العبادَ من المصائبِ المؤلمةِ ما هو إلَّا جزاءٌ على بعضِ ما كسبتْ أيدي العباد، {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} إنَّما يجزيهم عليهم ويعاقبُهم بسببِه يسير، ويعفو تعالى عن كثيرٍ {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}

{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} العبادُ عاجزون كثيراً عن القيام بشؤونهم، فمن بابِ أولى أنَّهم عاجزون عن دفعِ ما أرادَ اللهُ أن ينزلَه بهم، عاجزون عن الدفعِ، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} ولا في السماءِ، يعني: لسْتُم بمعجزينَ اللهَ، لستُم بمعجزين للهِ، فإنَّه تعالى قادرٌ عليكم؛ لأنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ،{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} فاللهُ هو الوليُّ، وهو النَّصيرٌ، هو الوليُّ على جميعِ العبادِ، فولايتُه نوعانِ: ولايةٌ عامَّةٌ: وهي متضمِّنةٌ للملك والتدبيرِ والتصرُّفِ، وولايةٌ خاصَّةٌ وهي المتضمِّنةُ للإكرام والإحسانِ وتيسيرِ الأمورِ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]

ثمَّ قالَ تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} يعني: السُّفنُ الجاريةُ فــ {الْجَوَارِ} جمعُ جاريةٍ، والسَّفينةُ هي جاريةٌ،{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} هذه السُّفنُ البحريَّةُ الَّتي يسافرُ عليها النَّاسُ ويبتغونَ من فضلِ اللهِ، {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية:12] {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر:12]

{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} يعني: كالجبالِ، وهي السُّفنُ الشِّراعيَّةُ الَّتي كانتْ معروفةً للناس وهم يصنعونها، لكن الآن المراكب البحريَّة هائلةٌ في سرعتِها وفي حجمِها، ومهما بلغتْ بها القوَّةُ فاللهُ قادرٌ على أن يغرقَ راكبيها.

{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ} الْجَوَارِ جمعُ: جاريةٍ؛ لأنَّها تجري، {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس:22]

{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} كانَت السُّفنُ والمراكبُ البحريَّة تمشي بدفع الريحِ، فإذا سكنتْ الريحُ وقفتْ؛ لأنَّها هي المحرِّكةُ لها، هي الدافعةُ لها، {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ}

{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} يعني: يُغرقهنَّ ويُوبِقْهُنَّ في البحرِ بما كسبَ العبادُ، وهذا مناسبٌ

لقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} يقول: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ}

 

 (تفسيرُ السَّعديِّ)

القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} الآيةَ.

{وَمِنْ آيَاتِهِ} أي: ومِن أدلَّةِ قدرتِهِ العظيمةِ، وأنَّهُ سيحيي الموتى بعدَ موتِهم، {خَلْقُ} هذهِ {السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} على عظمِهما وسعتِهما، الدَّالِّ على قدرتِهِ وسعةِ سلطانِهِ، وما فيهما مِن الإتقانِ والإحكامِ دالٌّ على حكمتِهِ وما فيهما مِن المنافعِ والمصالحِ دالٌّ على رحمتِهِ، وذلكَ يدلُّ على أنَّهُ المستحقُّ لأنواعِ العبادةِ كلِّها، وأنَّ إلهيَّةَ ما سواهُ باطلةٌ.

{وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} أي: ما نشرَ في السَّماواتِ والأرضِ مِن أصنافِ الدَّوابِّ الَّتي جعلَها اللهُ مصالحَ ومنافعَ لعبادِهِ. {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ} أي: جمعِ الخلائقِ بعدَ موتِهم لموقفِ القيامةِ {إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} فقدرتُهُ ومشيئتُهُ صالحانِ لذلكَ، ويتوقَّفُ وقوعُهُ على وجودِ الخبرِ الصَّادقِ، وقد عُلِمَ أنَّهُ قد تواترَتْ أخبارُ المرسلينَ وكتبِهم بوقوعِهِ.

قالَ اللهُ تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ} الآياتَ.

يخبرُ تعالى أنَّهُ ما أصابَ العبادَ مِن مصيبةٍ في أبدانِهم وأموالِهم وأولادِهم وفيما يحبُّونَ ويكونُ عزيزاً عليهم، إلَّا بسببِ ما قدَّمَتْهُ أيديهم مِن السَّيِّئاتِ، وأنَّ ما يعفو اللهُ عنهُ أكثرُ، فإنَّ اللهَ لا يظلمُ العبادَ، ولكنْ أنفسَهم يظلمونَ {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] وليسَ إهمالاً منهُ تعالى تأخيرُ العقوباتِ ولا عجزاً.

{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ} أي: معجزينَ قدرةَ اللهِ عليكم، بل أنتم عاجزونَ في الأرضِ، ليسَ عندَكم امتناعٌ عمَّا يُنفِّذُهُ اللهُ فيكم. {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} يتولَّاكم، فيحصلُ لكم المنافعَ {وَلا نَصِيرٍ} يدفعُ عنكم المضارَّ.

قالَ اللهُ تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ} الآياتَ.

أي: ومِن أدلَّةِ رحمتِهِ وعنايتِهِ بعبادِهِ {الْجَوَار فِي الْبَحْرِ} أي: مِن السُّفنِ والمراكبِ النَّاريَّةِ والشِّراعيَّةِ، الَّتي مِن عظمِها {كَالأعْلامِ} وهيَ الجبالُ الكبارُ، الَّتي سُخِّرَ لها البحرُ العجاجُ، وحفظَها مِن التطامِ الأمواجِ، وجعلَها تحملُكم وتحملُ أمتعتَكم الكثيرةَ إلى البلدانِ والأقطارِ البعيدةِ، وسخَّرَ لها مِن الأسبابِ ما كانَ معونةً على ذلكَ.

ثمَّ نبَّهَ على هذهِ الأسبابِ بقولِهِ: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} الَّتي جعلَها اللهُ سبباً لسيرِها، {فَيَظْلَلْنَ} أي: الجوارِ {رَوَاكِدَ} على ظهرِ البحرِ، لا تتقدَّمُ ولا تتأخَّرُ، ولا ينتقضُ هذا بالمراكبِ البُخاريَّةِ، فإنَّ مِن شرطِ مشيِها وجودُ الرِّيحِ.

وإنْ شاءَ اللهُ تعالى أوبقَ الجوارِ بما كسبَ أهلُها، أي: أغرقَها في البحرِ وأتلفَها، ولكنَّهُ يحلمُ {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ}.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: كثيرُ الصَّبرِ على ما تكرهُهُ نفسُهُ ويشقُّ عليها، فيُكرهُها عليهِ، مِن مشقَّةِ طاعةٍ، أو ردعِ داعٍ إلى معصيةٍ، أو ردعِ نفسِهِ عندَ المصائبِ عن التَّسخُّطِ، {شَكُورٍ} في الرَّخاءِ وعندَ النِّعمِ، يعترفُ بنعمةِ ربِّهِ ويخضعُ لهُ، ويَصرفُها في مرضاتِهِ، فهذا الَّذي ينتفعُ بآياتِ اللهِ.

وأمَّا الَّذي لا صبرَ عندَهُ، ولا شكرَ لهُ عندَ نعمِ اللهِ، فإنَّهُ مُعرِضٌ أو معانِدٌ لا ينتفعُ بالآياتِ.

ثمَّ قالَ تعالى: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا} ليبطلوها بباطلِهم. {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أي: لا يُنقذُهم منقِذٌ ممَّا حلَّ بهم مِن العقوبةِ.

انتهى

الشيخ : اللهُ المستعانُ.