بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الزخرف
الدَّرس: الأوَّل
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف:1-11]
– الشيخ : إلى هنا.
الحمد لله، هذه سورة الزُّخرف، وهي مكيّة، والمكيُّ مِن القرآن هو ما نزلَ قبل الهجرة، والمدنيُّ ما نزل.. هذا هو أرجح الأقوالِ في المراد بالمكيّ والمدنيّ، فهذه السورة مكيّة، وهي من آل {حم}، والسورُ الـمُفتتحة بهذين الحرفين سبعُ سورٍ متوالية، سبحان الله! {حم}
فقد افتُتِحَت أيضاً بقَسَم، بالقَسَم بالقرآن {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} {وَالْكِتَابِ} قَسَمٌ مِن الله بكتابِه الـمبين، يُقْسِمُ تعالى على أنه قرآنٌ عربيٌّ مبينٌ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} نزلَ بلسانٍ عربيٍّ، بلسانِ الرسولِ {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [الدخان:58]
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: لأجلِ أن تَعْقِلُوا عن الله ما أمرَكم به، وما أخبرَكم به في هذا الكتاب مِن الاعتقادات ومن الشرائع {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} هذا القرآن في أمِّ الكتاب، وأمُّ الكتاب هو اللَّوحُ المحفوظ، وهو الكتابُ المبين الذي يَذكرُه الله {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج: 70] فهذا هو الكتاب، وهذا القرآن مُثبتٌ، كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22،21] وقال أيضاً: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:78،77] فالكتابُ الـمَكنون، واللوحُ المحفوظ، وأمُّ الكتاب، والكتابُ المبين، هو شيءٌ واحدٌ.
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ} يعني: هذا القرآن وهذا الكتاب لَه منزلةٌ عظيمةٌ عند الله، فهو أحسنُ الحديثِ، هو أفضلُ ما نزلَ من كتبِ الله، هو أفضلُ ما نزل، وهو الـمُصدِّق لـِمَا بين يديهِ مِن الكتب، وهو مُهيمنٌ عليها {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}.
{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} الله تعالى أنزلَ هذا القرآنَ؛ لإصلاحِ الخلق، وهداية الخلق {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} يعني: أنَتْرُكُ تذكيرَكم وإرسالَ الرسلِ عليكم مِن أجل أنكم مشركون {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} وقد أرسلَ الله من قبلِ هذا الرسول الخاتِم، أرسلَ قبلَه رسلاً، وَكَمْ أَرْسَلْنَا، وَكَمْ أَرْسَلْنَا
– القارئ : {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ}
– الشيخ : {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ} أرسلَ رسلاً كثيرين، منهم مَنْ أخبرَنا الله عنهم وقَصَّهم علينا، {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ} [غافر:78] {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ}.
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} هذه طريقةٌ مَسلوكةٌ للمُكذِّبين، كلّهم يقولون، كلّ أمة تقولُ لنبيِّها: مجنونٌ وساحرٌ، كما قال تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53]
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا.. وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.
{فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} أهلكَ اللهُ المكذِّبين، الذين هم أشدُّ، أشدُّ مِن قريش {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:11] {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} مَضَتْ السُّنَنُ، سُنَّةُ الله، {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال:38] يعني: سُنَّةُ اللهِ في الأولين، وهو إهلاكُ المكذبين، ونصرُ الأنبياءِ والمؤمنين.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-: تفسيرُ سورةِ الزُّخرف، وهي مكيَّة
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} الآياتَ.
هَذَا قَسَمٌ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْقُرْآنِ، فَأَقْسَمَ
– الشيخ : "قَسَمٌ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْقُرْآنِ"، {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}.
– القارئ : فَأَقْسَمَ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ وَأَطْلَقَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُتَعَلِّقَ؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ مُبَيِّنٌ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَالْآخِرَةِ.
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} هَذَا الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، أَنَّهُ جُعِلَ بِأَفْصَحِ اللُّغَاتِ وَأَوْضَحِهَا وَأَبْيَنِهَا، وَهَذَا مِنْ بَيَانِهِ.
وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أَلْفَاظَهُ وَمَعَانِيهِ لِتَيَسُّرِهَا وَقُرْبِهَا مِنَ الْأَذْهَانِ.
{وَإِنَّهُ} أَيْ: هَذَا الْكِتَابُ {فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا} فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى فِي أَعْلَى الرُّتَبِ وَأَفْضَلِهَا {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} أَيْ: لَعَلِيٍّ فِي قَدْرِهِ وَشَرَفِهِ وَمَحَلِّهِ، حَكِيمٌ فِيمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْأَخْبَارِ، فَلَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ مُخَالِفٌ لِلْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالْمِيزَانِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ حِكْمَتَهُ وَفَضْلَهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَتْرُكَ عِبَادَهُ هَمَلًا لَا يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا وَلَا يُنْزِلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا، وَلَوْ كَانُوا مُسْرِفِينَ ظَالِمِينَ فَقَالَ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} أَيْ: أَفَنُعْرِضُ عَنْكُمْ، وَنَتْرُكُ إِنْزَالَ الذِّكْرِ إِلَيْكُمْ، وَنَضْرِبُ عَنْكُمْ صَفْحًا، لِأَجْلِ إِعْرَاضِكُمْ، وَعَدَمِ انْقِيَادِكُمْ؟ بَلْ نُنْزِلُ عَلَيْكُمُ الْكِتَابَ، وَنُوَضِّحُ لَكُمْ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ، فَإِنْ آمَنْتُمْ بِهِ وَاهْتَدَيْتُمْ، فَهُوَ مِنْ تَوْفِيقِكُمْ، وَإِلَّا قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ، وَكُنْتُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِكُمْ.
قال الله تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ} الآيات.
يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ هَذِهِ سَنَّتُنَا فِي الْخَلْقِ، أَنْ لَا نَتْرُكَهُمْ هَمَلًا {وكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} يَأْمُرُونَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَمْ يَزَلِ التَّكْذِيبُ مَوْجُودًا فِي الْأُمَمِ.
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} جَحْدًا لِمَا جَاءَ بِهِ، وَتَكَبُّرًا عَلَى الْحَقِّ.
{فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ} مِنْ هَؤُلَاءِ {بَطْشًا} أَيْ: قُوَّةً وَأَفْعَالًا وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ، {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} أَيْ: مَضَتْ أَمْثَالُهُمْ وَأَخْبَارُهُمْ، وَبَيَّنَّا لَكُمْ مِنْهَا مَا فِيهِ عِبْرَةٌ وَمُزْدَجَرٌ عَنِ التَّكْذِيبِ وَالْإِنْكَارِ.
قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ..}
– الشيخ : إلى هنا بس [يكفي] لا إله إلا الله.