الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الزخرف/(7) من قوله تعالى {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه} الآية 46 إلى قوله تعالى {فجعلناهم سلفا} الآية 56
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(7) من قوله تعالى {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه} الآية 46 إلى قوله تعالى {فجعلناهم سلفا} الآية 56

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الزخرف

الدَّرس: السَّابع

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [الزخرف:46-56]

الشيخ : إلى هنا، لا حول ولا قوَّة إلا بالله.

تضمَّنَت هذه الآياتُ قصةَ موسى -عليه السلام- مع فرعون، وهذه القصة -كما تقدَّم- كثيرًا ما يذكرُها الله، لكن يذكرُها في بعض سورٍ مُفصَّلة ومَبسوطة، وفي بعضها مُجمَلَة، وفي بعضها يُشار إليها، وفي هذا الموضع ذُكِرتْ مُختصرة، تضمَّنت ذكرَ إرسالها ومجيئه بالآيات، وذِكْرَ قولِ فرعون وقومِه.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا} أرسله بآياتٍ، {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء:101] منها العصا واليد، {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء:31-33]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} يَضْحَكُونَ منها سُخرية، وهذه حالُ أكثر الأمم، يَستهزئون بالأنبياء ويَستهزئون بما أخبروهم به مِن الوعيد، يستهزئون بالآيات، وهذا مِن جهلِهم وضلالِـهم وإصرارِهم على التكذيب. {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ}. 

{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أخذَهم اللهُ بأنواعِ العذاب العاجل في الدنيا قبلَ الطوفان، قبلَ الغَرَق، أرسل عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ، {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أخذَهم الله بأنواع العذاب؛ لعلَّهم يتوبون ويرجعون عن غَيِّهم وكفرِهم وعِنادِهم.

{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا}، في بعضِ الآيات: {يَا مُوسَى} [البقرة:55] وذكر السِّحرُ هذا مِن نوع التعظيم؛ لأنَّ السِّحر عندَهم مُعَظَّم، يزعمون أنَّ موسى ساحرٌ، فهم يقولون: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ.. إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} وربما أنَّ قولهم: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} أنه سُخريةٌ أيضًا، {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} مثل قولهم: {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}، {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ}.

قال الله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} لما كُشِفَ عنهم العذاب الدنيوي العاجل لم يَفُوا بقولهم: {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} وقولهم: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} بل نكثُوا العهدَ ورجعوا إلى غَيِّهم واستمرُّوا على كفرِهم وعنادِهم وتكذيبِهم، {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}.

{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ} أيضًا وهذا غرورُ هذا الطاغية، مِن غرورِه، يُنادي قومَه {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} يفخرُ بملكِه، يفخر ويُخاطب قومَه يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} عندَه أنهار لعلَّها اتُّخِذَ لها طرقًا ومجاريًا تحتَ قصوره وتحتَ مجالسِه التي يجلسُ فيها {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.

{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} أليستُ خيرًا مِن هذا الـمَهين -يعني: موسى- وهو الـمَهين الخبيث، يُحَقِّرُ موسى يقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} يَعيبُهُ بما فيه مِن ثِقَلِ اللِّسان أو اللَّثْغَة التي في لسانِهِ التي ذكرَها موسى عندما طلبَ مِن ربِّه أن يُمَدَّهُ بأخيه هارون: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا} [القصص:34] {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}.

ويَدَّعِي يقول: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} يعني: لو أنه جاء بأَسْوِرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ تدلُّ على المالِ والغنى والثَّراء وأن ربَّه يُمِدَّه بأنواع الزينة؛ لأنَّ هذا هو المطلب، مطلبُ هؤلاء الكفرة وأمثالُهم مِن الجهلة مطلبُهم زينةُ الدنيا، وهم يعتبرون الميزانَ عندهم هو حظوظ الدنيا، كما قالَ الجَهَلَة مِن بني إسرائيل في شأنِ قارون: {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]  

{فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} اسْتَخَفَّهُم وأثَّر عليهم حتى أطاعوه في تكذيبِ موسى -عليه السلام- {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}.

قال الله: {فَلَمَّا آَسَفُونَا} هذا معناه: أغْضَبُونا، {فَلَمَّا آَسَفُونَا} أيْ: أغْضَبُونا، {فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} أغرقَ اللهُ فرعونَ وقومَه، كما فصَّلَ اللُه ذلك في آياتٍ: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79،78] فلمَّا {أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي…} [يونس:90] {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:136]

{فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ} صاروا عِبرةً للمُعْتَبِرين وسَلَفًا للقومِ الكافرين، {وَجَعَلْنَاهُمْ} -كمَا قالَ تعالى- {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:41] أَئِمَّةً، سَلَفًا لِمَن جاء بعدَهم مِن الكفرة المعاندين والطُّغاة المعاندين، {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ}.

 

(تفسير السَّعدي)

القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعين. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمن السَّعدي -رحمه الله تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} الآيات.

لـمَّا قالَ تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ مُوسَى وَدَعْوَتَهُ، الَّتِي هِيَ أَشْهَرُ مَا يَكُونُ مِنْ دَعَوَاتِ الرُّسُلِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهَا فِي كِتَابِهِ، فَذَكَرَ حَالَهُ

الشيخ : قصةُ موسى مع فرعون كثيرًا ما يذكرُها الله في السُّور المكيَّة كما في سورةِ الأعراف وطه والشُّعراء، ذكرَها مُفصَّلَة، ويذكرُ سبحانه وتعالى قصةَ موسى مع بني إسرائيل في السُّور المدنية كما في سورةِ البقرة وفي سورةِ المائدة، الله أكبر، الله أكبر، وكذلك ذكر قصتَه مُفصَّلة في سورة القصص.

 

القارئ : وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهَا فِي كِتَابِهِ، فَذَكَرَ حَالَهُ مَعَ فِرْعَوْنَ، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} الَّتِي دَلَّتْ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى صِحَّةٍ مَا جَاءَ بِهِ، كَالْعَصَا، وَالْحَيَّةِ

الشيخ : عليهم السلام

القارئ : كَالْعَصَا، وَالْحَيَّةِ، وَإِرْسَالِ الْجَرَادِ

الشيخ : لا، العَصَا هِي الحَيَّة

القارئ : بدون "واو" يعني؟

الشيخ : لا، ما، العبارة، "كَالْعَصَا" ما هِي، "وَالْحَيَّةِ" أيش بعدها؟

القارئ : وَإِرْسَالِ الْجَرَادِ، وَالْقُمَّلِ، إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.

{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِرَبِّهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ.

{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} أَيْ: رَدُّوهَا وَأَنْكَرُوهَا، وَاسْتَهْزَأُوا بِهَا، ظُلْمًا وَعُلُوًّا، فَلَمْ يَكُنْ لِقُصُورٍ بِالْآيَاتِ، وَعَدَمِ وُضُوحٍ فِيهَا.

وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} أَيِ: الْآيَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ أَعْظَمُ مِنَ السَّابِقَةِ، {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} كَالْجَرَادِ، وَالْقُمَّلِ، وَالضَّفَادِعِ، وَالدَّمِ، آيَاتٌ مُفَصَّلَاتٌ. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُذْعِنُونَ لَهُ؛ لِيَزُولَ شِرْكُهُمْ وَشَرُّهُمْ.

{وَقَالُوا} عِنْدَمَا نَزَلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ: {يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ} يَعْنُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا إِمَّا مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ بِهِ، وَإِمَّا أَنَّ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ عِنْدَهُمْ مَدْحًا، فَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ بِأَنْ خَاطَبُوهُ بِمَا يُخَاطِبُونَ بِهِ مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ، وَهُمُ السَّحَرَةُ، فَقَالُوا: {يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} أَيْ: بِمَا خَصَّكَ اللَّهُ بِهِ، وَفَضَّلَكَ بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ، {أَنْ يَكْشِفَ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} إِنْ كَشَفَ اللَّهُ عَنَّا ذَلِكَ.

{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} أَيْ: لَمْ يَفُوا بِمَا قَالُوا، بَلْ غَدَرُوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف:133]

{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ} مُسْتَعْلِيًا بِبَاطِلِهِ، قَدْ غَرَّهُ مُلْكُهُ، وَأَطْغَاهُ مَالُهُ وَجُنُودُهُ: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} أَيْ: أَلَسْتُ الْمَالِكَ لِذَلِكَ، الْمُتَصَرِّفَ فِيهِ، {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} أَيِ: الْأَنْهَارُ الْمُنْسَحِبَةُ مِنَ النِّيلِ، فِي وَسَطِ الْقُصُورِ وَالْبَسَاتِينِ. {أَفَلا تُبْصِرُونَ} هَذَا الْمُلْكَ الطَّوِيلَ الْعَرِيضَ، وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِ الْبَلِيغِ، حَيْثُ افْتَخَرَ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ، وَلَمْ يَفْخَرْ بِأَوْصَافٍ حَمِيدَةٍ، وَلَا أَفْعَالٍ سَدِيدَةٍ.

{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} يَعْنِي -قَبَّحَهُ اللَّهُ- بِالْمَهِينِ: مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، كَلِيمِ الرَّحْمَنِ، الْوَجِيهِ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ: أَنَا الْعَزِيزُ، وَهُوَ الذَّلِيلُ الْمُهَانُ الْمُحْتَقَرُ، فَأَيُّنَا خَيْرٌ؟ {و} مَعَ هَذَا فَـإنه {لَا يَكَادُ يُبِينُ} عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ بِالْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَصِيحِ اللِّسَانِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْعُيُوبِ فِي شَيْءٍ، إِذَا كَانَ يُبَيِّنُ مَا فِي قَلْبِهِ، وَلَوْ كَانَ ثَقِيلًا عَلَيْهِ الْكَلَامُ.

ثُمَّ قَالَ فِرْعَوْنُ: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} أَيْ: فَهَلَّا كَانَ مُوسَى بِهَذِهِ الْحَالَةِ، أَنْ يَكُونَ مُزَيَّنًا مُجَمَّلًا بِالْحُلِيِّ وَالْأَسَاوِرِ؟ {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} يُعَاوِنُونَهُ عَلَى دَعْوَتِهِ، وَيُؤَيِّدُونَهُ عَلَى قَوْلِهِ.

{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} أَيِ: اسْتَخَفَّ عُقُولَهُمْ بِمَا أَبْدَى لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الشُّبَهِ، الَّتِي لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وَلَا حَقِيقَةَ تَحْتَهَا، وَلَيْسَتْ دَلِيلًا عَلَى حَقٍّ وَلَا عَلَى بَاطِلٍ، وَلَا تَرُوجُ إِلَّا عَلَى ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ.

فَأَيُّ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ مُحِقٌّ، لِكَوْنِ مُلْكِ مِصْرَ لَهُ، وَأَنْهَارَهُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِ؟

وَأَيُّ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى لِقِلَّةِ أَتْبَاعِهِ، وَثِقَلِ لِسَانِهِ، وَعَدَمِ تَحْلِيَةِ اللَّهِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ لَقِيَ مَلَأً لَا مَعْقُولَ عِنْدَهُمْ، فَمَهْمَا قَالَ اتَّبَعُوهُ، مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} فَبِسَبَبِ فِسْقِهِمْ، قَيَّضَ لَهُمْ فِرْعَوْنَ، يُزَيِّنُ لَهُمُ الشِّرْكَ وَالشَّرِّ.

{فَلَمَّا آسَفُونَا} أَيْ: أَغْضَبُونَا بِأَفْعَالِهِمْ {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} لِيَعْتَبِرَ بِهِمُ الْمُعْتَبِرُونَ، وَيَتَّعِظَ بِأَحْوَالِهِمُ الْمُتَّعِظُونَ.

انتهى.