بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الدُّخان
الدَّرس: الثَّالث
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان:17-29]
– الشيخ : إلى هنا، لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ.
يقولُ تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ} يعني: قبلَ أولئك المشركين من قريشٍ وغيرِهم، {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} والفتنةُ في القرآنِ معناها الابتلاءُ، ابتلاهم بأنواعٍ من الابتلاءاتِ، ابتلاهم بإرسالِ الرُّسلِ إليهم، أرسلَ اللهُ إليهم موسى وهارونَ، وابتلاهم بما أرسلَ عليهم من ألوانِ العذابِ، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} [الأعراف:133] {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} [الأعراف:134]
{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} هو موسى -عليهِ السَّلامُ-، وهذا ثناءٌ مِن اللهِ على هذا الرَّسولِ، فهو رسولٌ كريمٌ، وهو كليمُ اللهِ، كلَّمَهُ تكليماً، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ}.
{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} موسى كانَ يُطالبُ فرعونَ بأنْ يتركَ بني إسرائيلَ يتركهم؛ لأنَّهم مُستعبَدين مُستعبَدين وهوَ متسلِّطٌ عليهم {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:4] يَسُومُهم سوءَ العذابِ. يقولُ: {أَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:105] {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}.
{وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ} لا تتكبَّروا على اللهِ بمعصيتِه والعتوِّ عن طاعتِه والاستجابةِ لما دعوتُكم إليه، {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} جاءَ بالآياتِ البيِّناتِ، {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}.
{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} فهو يعوذُ بربِّه، ويستعيذُ بربِّه من أن يتسلَّطوا عليه {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} هو ربُّنا جميعاً ربِّي وربّكم، فهو تعالى ربُّ كلِّ شيءٍ، {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونَ}
{وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} إِذا لَمْ تُؤْمِنُوا لِي وتستجيبوا لما دعوتُكم إليه، فاتركوني {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ}
{فَدَعَا رَبَّهُ} دعا موسى ربَّه أنْ ينجيَه وقومَه، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ}، {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ}
فأمرَه اللهُ بالإسراء، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} وجاءَتْ آياتٌ كثيرةٌ فيها هذا المعنى {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه:77] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:52-53] المهمُّ أنَّ موسى دعا ربَّه أن ينجيَه وقومَه فأمرَه أن يخرجَ بهم ليلاً {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}
{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} هذا عندَما سارَ موسى بقومِه ليلاً وانتهوا إلى البحرِ، انتهوا إلى البحرِ فموسى، وفرعون وجنودُه من ورائِهم، فأمرَ اللهُ موسى أوَّلاً أنْ يتركَ البحرَ رهواً يعني: ساكناً راكداً، حتَّى ضاقَ عليهم الخناقُ وانتهى فرعونُ وجنودُه وأصبحَ بنو إسرائيلَ في وضعٍ عصيبٍ، قالوا لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:61-63] أمرَه أن يضربَ البحرَ الآن بعصاه، {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] فانفتحَتْ فيه طرقٌ سلكَها بنو إسرائيلَ ومضوا إلى الجانبِ الآخرِ، وتبعَهم فرعونُ وجنودُه {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الشعراء:64-66] {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ}
{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ} {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} تركوا هذه الدُّنيا وما فيها من أنواعِ المتعِ واللَّذَّات تركوها وخلفَهم غيرهم، وفي الآيةِ الأخرى: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:59] {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ}.
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} ذهبُوا، ذهبوا غيرَ مأسوفٍ عليهم، ذهبوا وما بكى عليهم شيءٌ، {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} يذكرُ المفسِّرون أنَّ السَّماءَ والأرضَ تبكي على الصَّالحين والمؤمنين الَّذين كانوا يعمرونها، كانوا يَعْمُرُونَ الأرضَ بالأعمالِ الصَّالحةِ، وتصعدُ أعمالُهم إلى السَّماءِ فإذا ماتوا فقدَت الأرضُ والسَّماء ما كانتْ تعرفُه منهم، وما كانَ يجري منهم على الأرضِ ويصعدُ منهم إلى السَّماء، فكانتْ تبكي عليهم، وبكاءُ السَّمواتِ والأرضِ من جنسِ القول في كلامِها، فلها بكاءٌ ولها كلامٌ يناسبُ حالَها، وإن كنَّا لا نعرفُ ولا نعلمُ حقيقتَه، لكن المعنى: أنَّ هؤلاءِ ذهبوا وما بكى عليهم شيءٌ، كما يقالُ: "ذهبوا غيرَ مأسوفٍ عليهم".
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} الآياتَ.
لمَّا ذكرَ تعالى تكذيبَ مَن كذَّبَ الرَّسولَ محمَّداً -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ذكرَ أنَّ لهم سلفاً مِن المكذِّبِينَ، فذكرَ قصَّتَهم معَ موسى وما أحلَّ اللهُ بهم ليرتدعَ هؤلاءِ المكذِّبونَ عمَّا هم عليهِ فقالَ: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} أي: ابتليْناهم واختبرْناهم بإرسالِ رسولِنا موسى بنِ عمرانَ إليهم الرَّسولِ الكريمِ الَّذي فيهِ مِن الكرمِ ومكارمِ الأخلاقِ ما ليسَ في غيرِهِ.
{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} أي: قالَ لفرعونَ وملئِهِ: {أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ}، يعني بهم: بني إسرائيلَ أي: أرسلُوهم وأطلقُوهم مِن عذابِكم وسومِكم إيَّاهم سوءَ العذابِ فإنَّهم عشيرتي وأفضلُ العالـَمين في زمانِهم.
وأنتم قد ظلمْتُموهم واستعبدْتُموهم بغيرِ حقٍّ فأرسلُوهم
– الشيخ : ابتلاءٌ عظيمٌ! حسبُنا اللهُ، ابتلاءٌ، لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله.
– القارئ : فأرسلُوهم ليعبدُوا ربَّهم، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي: رسولٌ مِن ربِّ العالمينَ أمينٌ على ما أرسلَني بهِ لا أكتمُكم منهُ شيئاً ولا أزيدُ فيهِ ولا أنقصُ وهذا يوجبُ تمامَ الانقيادِ لهُ.
{وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} بالاستكبارِ عن عبادتِهِ والعلوِّ على عبادِ اللهِ
– الشيخ : وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَقومه، اللهُ أكبرُ، وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَقومه فِي الْأَرْضِ
– القارئ : {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي: بحجَّةٍ بيَّنةٍ ظاهرةٍ وهوَ ما أتى بهِ مِن المعجزاتِ الباهراتِ والأدلَّةِ القاهراتِ، فكذَّبُوهُ وهمُّوا بقتلِهِ فلجأَ إلى اللهِ مِن شرِّهم فقالَ: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} أي: تقتلوني أشرَّ القتلاتِ بالرَّجمِ بالحجارةِ.
{وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} أي: لكم ثلاثُ مراتبَ: الإيمانُ بي وهوَ مقصودي منكم، فإنْ لم تحصلْ منكم هذهِ المرتبةُ فاعتزلوني لا عليَّ ولا لي، فاكفوني شرَّكم. فلم تحصلْ منهم المرتبةُ الأولى ولا الثَّانيةُ بل لم يزالوا متمرِّدينَ عاتينَ على اللهِ محاربينَ لنبيِّهِ موسى -عليهِ السَّلامُ- غيرَ مُمكِّنينَ لهُ مِن قومِهِ بني إسرائيلَ. {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} أي: قد أجرمُوا جرماً يُوجِبُ تعجيلَ العقوبةِ.
– الشيخ : أجرمُوا بالكفرِ والشِّركِ، والكفر بالله والعتو على رسلِ الله، وأجرموا بظلمِ بني إسرائيل، فجمعُوا بينَ الكفرِ والظُّلمِ للعباد، الكفر بالله وظلم العباد، اللهُ أكبرُ.
– القارئ : فأخبرَ عليهِ السَّلامُ بحالِهم وهذا دعاءٌ بالحالِ الَّتي هيَ أبلغُ مِن المقالِ
– الشيخ : يعني: ذكرُ الإنسانِ حالَه أو حالَ عدوِّه هذا من السؤالِ بالحالِ، مثل قوله: {إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] لم يقلْ، يطلبُ شيئاً معيَّناً بل ذكرَ أنَّه فقيرٌ، فقيرٌ إلى الله، فهذا من التَّوسُّلِ بالحالِ، كما يقولُ: "يا ربِّ إنِّي عبدُك الضَّعيفُ، إنِّي عبدُك الأسيرُ المسرفُ على نفسه، يا ربِّ إنِّي عبدُك المظلومُ" فهذا سؤالٌ بالحالِ، هذا هو الَّذي يقولون له: "لسانُ الحالِ"، سؤالٌ بلسانِ الحالِ.
– القارئ : كما قالَ عن نفسِهِ عليهِ السَّلامُ: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] فأمرَهُ اللهُ أنْ يسريَ بعبادِهِ ليلاً وأخبرَهُ أنَّ فرعونَ وقومَهُ سيتبعونَهُ. {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} أي: بحالِهِ وذلكَ أنَّهُ لمَّا سرى موسى ببني إسرائيلَ كما أمرَهُ اللهُ ثمَّ تبعَهم فرعونُ فأمرَ اللهُ موسى أنْ يضربَ البحرَ فضربَهُ فصارَ اثني عشرَ طريقاً وصارَ الماءُ مِن بينِ تلكَ الطُّرقِ كالجبالِ العظيمةِ فسلكَهُ موسى وقومُهُ.
فلمَّا خرجُوا منهُ أمرَهُ اللهُ أنْ يتركَهُ رهواً، أي: بحالِهِ؛ ليسلكَهُ فرعونُ وجنودُهُ {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} فلمَّا تكاملَ قومُ موسى خارجينَ منهُ وقومُ فرعونَ داخلينَ فيهِ أمرَهُ اللهُ تعالى أنْ يلتطمَ عليهم فغرقُوا عن آخرِهم
– الشيخ : يعني: أمرَ اللهُ البحرَ، كلُّ شيءٍ منقادٌ لأمرِ الله من الملائكةِ والجنِّ والإنسِ والجماداتِ، كلُّ شيءٍ خاضعٌ لأمر اللهِ، الجبال والبحار، لا إله إلَّا الله.
– القارئ : أمرَهُ اللهُ تعالى أنْ يلتطمَ عليهم فغرقُوا عن آخرِهم وتركُوا ما مُتِّعُوا بهِ مِن الحياةِ الدُّنيا وأورثَهُ اللهُ بني إسرائيلَ الَّذين كانُوا مستعبَدينَ لهم ولهذا قالَ: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا} أي: هذهِ النِّعمةَ المذكورةَ {قَوْمًا آخَرِينَ} وفي الآيةِ الأخرى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:59]
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ} أي: لمَّا أتلفَهم اللهُ وأهلكَهم لم تبكِ عليهم السَّماءُ والأرضُ، أي: لم يحزنْ عليهم ولم يُؤسَ على فراقِهم، بل كلٌّ استبشرَ بهلاكِهم وتلفِهم حتَّى السَّماءُ والأرضُ؛ لأنَّهم ما خلفُوا مِن آثارِهم إلَّا ما يُسَوِّدُ وجوهَهم ويوجبُ عليهم اللَّعنةَ والمقتَ مِن العالمينَ.
{وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} أي: مُمهَلينَ عن العقوبةِ بل اصطلمَتْهم في الحالِ.
ثمَّ امتنَّ تعالى على بني إسرائيلَ
– الشيخ : إلى هنا بس [يكفي] انتهى، اللهُ المستعانُ.