بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الدُّخان
الدَّرس: السَّابع
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ [الدخان:51-59]
– الشيخ : لا إله إلَّا الله، يا رب.. لا إله إلَّا الله، سبحانَ اللهِ العظيم.
كثيراً ما يقرنُ اللهُ في السِّياقِ الواحدِ بينَ الوعدِ والوعيدِ، فبعدَما ذكرَ اللهُ حالَ الأشقياءِ وذكرَ سوءَ حالِهم وما ينزلُ بهم من ألوانِ العذابِ في نارِ جهنَّمَّ، أتبعَ ذلك بذكرِ حالِ المتَّقين، اللهُ أكبرُ، في منزلٍ أمينٍ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ} {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} لا يخافونَ، {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} في غايةٍ من الطّمأنينةِ والهناء، {فِي جَنَّاتٍ} بساتين وافرة بظلالِها وقصورِها وأشجارِها، {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} تفيضُ بأنواعِ الشَّرابِ {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أنهارٌ من ماءٍ من لبنٍ من عسلٍ، اللَّهمَّ إنَّا نسألك من فضلك، لا إله إلَّا الله، {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}.
{يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} فذكرَ سبحانَه وتعالى مقامَهم الَّذي هم مستقرُّونَ فيه أبدَ الآبادِ، وأنَّهم يعيشون حياةَ الأمنِ والطّمأنينة، وذكرَ لباسَهم {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} يلبسونَ الحريرَ {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23]
ويطلبون ما شاؤوا فيها من فواكهَ {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ} بِكُلِّ ما شاؤُوا من أنواعِ الفواكهِ، {آمِنِينَ} لا يخشون انقطاعَها، ولا يخشونَ منعَها {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:33] {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}، {آمِنِينَ}، {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}.
وذكرَ تزويجَهم من نساءِ الحورِ {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} حورٌ، الحوَرُ فسَّرَه أهلُ التَّفسيرِ واللُّغة، جمعُ حوراء، وهي شديدةُ بياضِ العينِ شديدةُ سوادِ العينِ معَ بياضِ البدنِ، عِينٌ يعني: جميلةُ العيونِ كبيرةُ العيونِ، كبرُ العيونِ من ضروبِ الجمالِ {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ}.
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} هذا تمامُ النَّعيمِ أنَّهم آمنون لا يموتونَ فيها، {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] لا يموتون ولا يُخرَجونَ، {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} الَّتي ماتوها قبل، {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} الَّتي مضَتْ، {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} هذه النِّعمةُ الأولى أنْ نجَّاهم من العذابِ من عذابِ الجحيمِ وأدخلَهم الجنَّةَ {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] ولهذا قالَ تعالى: {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ} كلُّ هذا من فضلِه سبحانه وتعالى وكرمِه وإحسانِه على أوليائِه، {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
ثمَّ قالَ تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} هذا القرآنُ يسَّرَهُ اللهُ بلسانِ النَّبيِّ يعني: بلغتِه، {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} كقولِه: {وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} [السجدة:30] ارتقبْ ما وعدَ اللهُ، وهم يرتقبونَ ما وُعِدُوا به وما تُوُّعدوا به، هؤلاء الكافرون، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ…} [الأعراف:53] الآياتَ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-، في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} الآياتَ:
هذا جزاءُ المتَّقينَ للهِ الَّذينَ اتَّقوا سخطَهُ وعذابَهُ بتركِهم المعاصي بتركِهم المعاصي وفعلِهم الطَّاعاتِ، فلمَّا انتفى السُّخطُ عنهم والعذابُ ثبتَ لهم الرِّضى مِن اللهِ والثَّوابُ العظيمُ في ظلٍّ ظليلٍ مِن كثرةِ الأشجارِ والفواكهِ وعيونٍ سارحةٍ تجري مِن تحتِهم الأنهارُ يفجِّرونَها تفجيرًا في جنَّاتِ النَّعيمِ.
فأضافَ الجنَّاتِ إلى النَّعيمِ لأنَّ كلَّ ما اشتملَتْ عليهِ كلُّهُ نعيمٌ وسرورٌ، كاملٌ مِن كلِّ وجهٍ ما فيهِ منغِّصٌ ولا مكدِّرٌ بوجهٍ مِن الوجوهِ.
ولباسُهم مِن الحريرِ الأخضرِ مِن السُّندسِ والإستبرقِ أي: غليظِ الحريرِ ورقيقِهِ ممَّا تشتهيهِ أنفسُهم. {مُتَقَابِلِينَ} في قلوبِهم ووجوهِهم في كمالِ الرَّاحةِ والطَّمأنينةِ والمحبَّةِ والعِشْرةِ الحسنةِ والآدابِ المُستحسَنةِ.
{كَذَلِكَ} النَّعيمُ التَّامُّ والسُّرورُ الكاملُ {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عينٍ} أي: نساءٍ جميلاتٍ مِن جمالِهنَّ وحسنِهنَّ أنَّهُ يحارُ الطَّرفُ في حسنِهنَّ وينبهرُ العقلُ بجمالِهنَّ وينخلبُ اللُّبُّ لكمالِهنَّ {عِينٍ} أي: ضخامِ الأعينِ حِسانِها.
{يَدْعُونَ فِيهَا} أي: الجنَّةَ {بِكُلِّ فَاكِهَةٍ} ممَّا لهُ اسمٌ في الدُّنيا وممَّا لا يُوجَدُ لهُ اسمٌ ولا نظيرٌ في الدُّنيا، فمهما طلبُوهُ مِن أنواعِ الفاكهةِ وأجناسِها أُحضِرَ لهم في الحالِ مِن غيرِ تعبٍ ولا كلفةٍ، {آمِنِينَ} مِن انقطاعِ ذلكَ وآمنينَ مِن مضرَّتِهِ وآمنينَ مِن كلِّ مُكدِّرٍ، وآمنينَ مِن الخروجِ منها والموتِ ولهذا قالَ: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى} أي: ليسَ فيها موتٌ بالكلِّيَّةِ، ولو كانَ فيها موتٌ يُستثنَى لم يستثنِ إلَّا الموتةَ الأولى الَّتي هيَ الموتةُ في الدُّنيا فتمَّ لهم كلُّ محبوبٍ مطلوبٍ، {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ} أي: حصولُ النَّعيمِ واندفاعُ العذابِ عنهم مِن فضلِ اللهِ عليهم وكرمِهِ فإنَّهُ تعالى هوَ الَّذي وفَّقَهم للأعمالِ الصَّالحةِ الَّتي بها نالُوا خيرَ الآخرةِ وأعطاهم أيضاً ما لم تبلغْهُ أعمالُهم، {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وأيُّ فوزٍ أعظمُ مِن نيلِ رضوانِ اللهِ وجنَّتِهِ والسَّلامةِ مِن عذابِهِ وسخطِهِ؟
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} أي: القرآنَ {بِلِسَانِكَ} أي: سهَّلْناهُ بلسانِكَ الَّذي هوَ أفصحُ الألسنةِ على الإطلاقِ وأجلُّها فتيسَّرَ بهِ لفظُهُ وتيسَّرَ معناهُ. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ما فيهِ نفعُهم فيفعلونَهُ وما فيهِ ضررُهم فيتركونَهُ.
{فَارْتَقِبْ} أي: انتظرْ ما وعدَكَ ربُّكَ مِن الخيرِ والنَّصرِ {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} ما يحلُّ بهم مِن العذابِ، وفرَّقَ بينَ الارتقابَينِ: رسولُ اللهِ وأتباعُهُ يرتقبونَ الخيرَ في الدُّينا والآخرةِ، وضدُّهم يرتقبونَ الشَّرَّ في الدُّنيا والآخرةِ.
– الشيخ : أعوذُ باللهِ.
– القارئ : تمَّ تفسيرُ سورةِ الدُّخانِ، وللهِ الحمدُ والـمِنَّةُ. انتهى
– الشيخ : باركَ اللهُ فيك.