الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الجاثية/(1) من قوله تعالى {حم} الآية 1 إلى قوله تعالى {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق} الآية 5
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(1) من قوله تعالى {حم} الآية 1 إلى قوله تعالى {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق} الآية 5

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الجاثية

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:1-6]

الشيخ : إلى هنا، هذه سورةُ الجاثيةِ، سُمِّيَتْ لقوله تعالى فيها: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28] هذه سورةُ الجاثية، وهي مكِّيَّةٌ، تقدَّمَ أنَّ مرادَ أهلِ العلمِ إذا قالُوا: "هذهِ السُّورةُ مكِّيَّةٌ"، يعني: أنَّها نزلَتْ قبلَ الهجرة، ومدنيَّةٌ: يعني نزلَتْ بعدَ الهجرة، هذا أصحُّ ما قيلَ في الفرقِ بينَ المكِّيِّ والمدنيِّ، ما نزلَ قبلَ الهجرةِ يقالُ له: هذا مكِّيٌّ؛ لأنَّ الأغلبَ أنَّه نزلَ بمكَّة، نزلَ بعدَ الهجرةِ فهو مدنيٌّ؛ لأنَّ الأغلبَ أنَّه نزلَ في المدينةِ، هذه السُّورةُ مكِّيَّةٌ.

افتُتِحتْ بذكر تنزيلِ القرآنِ النِّعمة العظمى والآية الكبرى على صدقِ مَن جاءَ به {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} إذاً هذا القرآنُ منزَّلٌ من عند اللهِ، وهو من كلامِ اللهِ، هو كلامُ اللهِ، القرآنُ كلامُ اللهِ، تكلَّمَ بهِ سبحانَه وتعالى، وألقاهُ إلى جبريلَ، ونزلَ به جبريلُ على محمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّمَ-، وكثيراً ما يذكرُ تعالى في الخبرِ عن إنزالِ القرآن، يذكرُ هذين الاسمين، {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}، وأحياناً العزيز العليم، وأحياناً الرَّحمن الرَّحيم {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فهو القويُّ الغالبُ القاهرُ لكلِّ شيءٍ، وهو الحكيمُ له الحكمُ وهو ذو الحكمةِ في شرعِه وقدرِه، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.

ثمَّ قالَ تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} ذكَّرَ تعالى في هذهِ الآياتِ بآياتِه الكونيَّةِ، {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ} خلقُ الإنسانِ آيةٌ من آياتِ اللهِ {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] {وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ} أيضاً، ما يبثُّه من دابةٍ من دوابِّ الأرضِ، {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ}، يقولُ أيضاً: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.

ومن آياتِهِ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كذلك وتعاقُبُ اللَّيلِ والنَّهارِ، وهذا كثيرٌ يُذكِّرُ اللهُ بآياتي اللَّيلِ والنَّهارِ بخلقِهما وإيلاجِ أحدِهما بالآخرِ، وتعاقُبِهما.

ومن آياتِهِ تعالى إنزالُ هذا الرِّزقِ من السَّماءِ، وهو المطرُ {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فسمَّى المطرَ رزقاً، واللهُ يُخرجُ به من الثَّمراتِ ما يكونُ رزقاً، فهو رزقٌ، الماءُ نفسُه رزقٌ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل:10] كثيراً ما يمتنُّ اللهُ على عباده بإنزالِ الماء، الماءُ آيةٌ عظيمةٌ دالَّةٌ على قدرةِ اللهِ ورحمتِه، ونعمةٌ عظيمةٌ فكم للماءِ من منافعَ! ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ عن هذا غافلون، ولهذا ندبَ اللهُ العبادَ إلى التَّفكُّرِ، إلى التَّفكُّرِ في آياتِ الله، تفكَّرْ في الماءِ إذا شربْتَ، إذا اغتسلْتَ إذا توضَّأْتَ، إذا استعملْتَه في حاجاتِك، يقولُ بعضُ أهلِ العلمِ: "إنَّ كلَّ ما كانَ الشَّيء الحاجة إليه أكثر كانَ أوفرَ وأكثرَ"، وهذا منه، الماءُ، اللهُ أكبرُ {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}.

ومن آياتِه: تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ، الرِّياحُ هذه الَّتي تتحرَّكُ، مَن يحرِّكُها؟ مَن يحرِّكُ الرِّياحَ؟ بينما يكونُ الجوُّ هادئاً تتحرَّكُ الرِّيحُ، تارةً تتحرَّكُ من بعيدٍ تأتي مُرسَلةً من بُعدٍ وتقطعُ المسافاتِ وتصلُ إلينا، وتارةً -سبحان الله- تهبُّ من قريبٍ، واللهُ يصرِّفُ الرِّياحَ، في الجهاتِ وفي العلوِّ والانخفاض، في الارتفاع والانخفاض، فالرِّياحُ تأتي شرقاً وغرباً، تأتي شرقاً وجنوباً وشمالاً وبينَ ذلك، تأتي في كلِّ الجهاتِ، وتأتي عاليةً مرتفعةً، وتأتي منخفضةً، واللهُ هو الَّذي يصرفُها كيفَ شاءَ {وتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ} كلُّ هذا آيَاتٌ، {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} لهم عقولٌ يستعملونها ويتفكَّرون فيها، يتفكَّرون بها، {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

ثمَّ قالَ تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} آياتُ اللهِ المتلوَّةِ هي القرآنُ، آياتُ القرآنِ، إذاً فجمعَ في هذه الآياتِ بينَ التَّذكير بآياته الكونيَّةِ، وهي تلكَ المخلوقات، وآياتِه المتلوَّةِ وهي آياتُ القرآن، بدأَ بالتَّذكيرِ بالكتابِ {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}

وبعدَ التَّذكيرِ بالآياتِ الكونيَّةِ عاد التَّذكير بالآياتِ المتلوَّةِ {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا}  {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} الَّذي يتلوها على الرَّسولِ هو جبريلُ، جبريلُ يتلو القرآنَ على الرَّسولِ، والرَّسولُ يتلقَّاهُ، كما قالَ تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ} [القيامة:18] {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16-18] جبريلُ يأتي ويتلو على الرَّسول، والرَّسولُ يتلقَّاه منه.

{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} مَن لم يهتدِ بالقرآنِ لن يهتديَ بأيِّ أمرٍ، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:

تفسيرُ سورةِ الجاثيةِ وهيَ مكِّيَّةٌ بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} الآياتَ.

يُخبِرُ تعالى خبراً يتضمَّنُ الأمرَ بتعظيمِ القرآنِ والاعتناءِ بهِ وأنَّهُ {تَنزيلُ} الكتابِ مِن {مِنَ اللَّهِ} المألوهِ المعبودِ لِما اتَّصفَ بهِ مِن صفاتِ الكمالِ وانفردَ بهِ مِن النِّعمِ، الَّذي لهُ العزَّةُ الكاملةُ والحكمةُ التَّامَّةُ.

ثمَّ أيَّدَ ذلكَ بما ذكرَهُ مِن الآياتِ الأفقيَّةِ والنَّفسيَّةِ مِن خلقِ السَّموات والأرضِ وما بثَّ فيهما مِن الدَّوابِّ وما أودعَ فيهما مِن المنافعِ وما أنزلَ اللهُ مِن الماءِ الَّذي يُحيي بهِ اللهُ البلادَ والعبادَ.

فهذهِ كلُّها آياتٌ بيِّناتٌ وأدلَّةٌ واضحاتٌ على صدقِ هذا القرآنِ العظيمِ وصحَّةِ ما اشتملَ عليهِ مِن الحكمِ والأحكامِ، ودالَّاتٌ أيضاً على ما للهِ تعالى مِن الكمالِ وعلى البعثِ والنُّشورِ. ثمَّ قسَّمَ تعالى..

الشيخ : لا إله إلَّا الله، سبحانَ الله، هذه الآياتُ الكونيَّةُ تدلُّ على صفاتِ الرَّبِّ: من قدرتِهِ ومشيئتِهِ وحكمتِه ورحمتِه وربوبيَّتِه وإلهيَّتِه، ولهذا يذكِّرُ اللهُ بهذه الآياتِ المشهودةِ السَّماويَّة والأرضيَّة، العلويَّة والسُّفليَّة {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32] يعني: الكفَّار، لا إله إلَّا الله.

 

القارئ : ثمَّ قسَّمَ تعالى النَّاسَ بالنِّسبةِ إلى الانتفاعِ بآياتِهِ وعدمِهِ إلى قسمَينِ: قسمٌ يستدلُّونَ بها ويتفكَّرونَ بها وينتفعونَ فيرتفعونَ وهم المؤمنونَ باللهِ وملائكتِهِ وكتبِهِ ورسلِهِ واليومِ الآخرِ إيمانًا تامًّا وصلَ بهم إلى درجةِ اليقينِ، فزكَّى منهم العقولَ وازدادَتْ بهِ معارفُهم وألبابُهم وعلومُهم.

وقسمٌ يسمعُ آياتِ اللهِ سماعًا تقومُ بهِ الحجَّةُ عليهِ ثمَّ يُعرضُ عنها ويستكبرُ، كأنَّه ما سمعَها؛ لأنَّها لم تزكِّ قلبَهُ ولا طهَّرَتْهُ بل بسببِ استكبارِهِ عنها ازدادَ طغيانُهُ.

وأنَّهُ إذا علمَ مِن آياتِ اللهِ شيئًا اتَّخذَها هزوًا فتوعَّدَهُ اللهُ تعالى بالويلِ فقالَ:

{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية:7]

الشيخ : إلى آخرِ الآياتِ، هو دخلَ الشَّيخ في الكلام عن الآياتِ الآتيةِ {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}.