بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الجاثية
الدَّرس: الثَّالث
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [الجاثية:12-15]
– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله.
يُذكِّرُ سبحانه وتعالى في هذه الآياتِ ببعضِ نعمِه على العبادِ، بما سخَّر لهم في هذا الوجود، ومن أعظمِ ذلك تخسيرُ البحر، حتَّى جعلَه قابلاً لجريانِ الفلكِ عليه، على ظهرِه، سبحانَ الله!
يقولُ الجغرافيُّون: إنَّ ثلاثةَ أرباعِ الأرضِ كلُّها ماءٌ، فيها البحارُ الصَّغيرةُ، وفيها ما يُسمَّى بالمحيطات.
{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} بِأَمْرِهِ سبحانه وتعالى الأمرُ الكونيُّ، مثلَ: {وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54] فكلُّ هذا الوجودِ قائمٌ بأمره، ويتحرَّكُ بأمره، ويسكنُ بأمره {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [الشورى:33] السُّفنُ كان في القديم إلى وقتٍ قريبٍ كانت السَّببُ المؤثِّرُ لحركة وجريان السُّفن هي الرِّياحُ، {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ} [الشورى:32-34] إذا شاءَ الله أغرقَ هذه السُّفنَ حتَّى تذهب في قاعِ البحر، ثمَّ فتحَ اللهُ على العبادِ هذهِ الأسبابَ العجيبةَ، فصنعت البواخر الكبيرة العظيمة، وتقطعُ المحيطاتِ، يعني في القديم ما كانتْ أكثر التَّنقُّلات في البحار المحدودةِ بين أقطارِ الأرضِ وبين البلدانِ. {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ}
{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} بالتِّجارةِ، تطلبوا فضلَ الله بالتجارةِ بنقلِ السِّلع، {تَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} تطلبوا فضلَ الله ورزقه، كثيرًا ما يذكرُ اللهُ المكاسبَ التِّجاريَّة بأنَّها فضلٌ من الله {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] {إِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}، اطلبوا من رزقِه ومكاسب في التِّجارة.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، هذه الغايةُ، الغايةُ العظمى هي شكرُ العبادِ لربِّهم تعظيمًا وثناءً وطاعةً وانقيادًا، شكر، أعطى اللهُ العبادَ هذه النِّعمَ ويسَّرَها لهم؛ ليشكروه فيذكروه ويطيعوه، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
ثمَّ قالَ تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} هذا عامٌّ، الأوَّلُ نصّ على تسخيرِ البحر، وفي الآية الثانية نبَّهَ على تسخيرِ كلِّ ما في هذا الوجودِ {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} في السَّمواتِ سخَّر الكواكبَ والشَّمسَ والقمرَ هذه سمَّاها مسخَّرات، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم:33] وسخَّر ما في الأرض من أسبابٍ من الحيوانات المذلَّلة المسخَّرة للعباد، وسخَّر الأراضي، الأرضُ مسخَّرةٌ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] اللهُ أكبرُ، ففي هذه الموجوداتِ آياتٌ على…، دالَّةٌ على قدرةِ الرَّبِّ وحكمتِه ورحمته -لا إله إلَّا الله- وكمال علمه وفي نفسِ الوقتِ هي نعمٌ على العباد، فعلى العبادِ التَّفكُّر، يتفكَّرون، أمَّا من ينظر إلى هذه الموجودات نظرَ البهائمِ فهو لا يتفكَّرُ، يتفرَّجُ بس [فقط] يشوف [يرى]، العقلاءُ المؤمنون ينظرون إلى هذه الموجودات بعقولٍ متفكِّرين ومتذكِّرين{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} هذا التَّخسيرُ من اللهِ لا من غيرِه.
وكذلك علمْنا الآن من التَّسخيرِ السماويِّ؛ لأنَّ كلَّ ما علاك فهو سماءٌ، فيدخلُ في تسخيرِ ما في السَّموات يدخل في ذلك تسخيرُ السَّحاب، تسخيرُ النُّجوم -كما تقدَّمَ- وتسخيرُ الجوِّ الآن كما سخَّرَ البحرَ؛ لتجري الفلكُ فيه سخَّرَ الجوَّ؛ لتجري فيه هذه الطَّائراتُ، السُّفنُ من صنعِ البشر لكنَّ اللهَ الَّذي علَّمَهم وهداهم وسخَّرَ البحرَ لهم وسخَّرَ الفلكَ، وهكذا كلُّ ما ينتفعُ به النَّاس من الحيوانات أو المصنوعاتِ، يجبُ أن تتوجَّه القلوبُ إلى الَّذي خلقَ هذا الوجودَ، خلقَ الأسبابَ، وخلقَ العقولَ وهداها، مضتْ قرونٌ بعدَ قرونٍ ولم يعرفْ النَّاسُ هذه الأسبابَ الحديثةَ ثمَّ هدى عقولَ من شاءَ من العباد هدايةً كونيَّةً لا إله إلَّا الله.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} هنا، ثمَّ التَّفكُّر يقود إلى الشُّكر، التَّفكُّر يقود إلى التَّذكُّر والتَّذكُّر يقود إلى الشُّكر، والشُّكرُ أعظمُ ذلك، عبادتُه تعالى وحده لا شريكَ له، وطاعته وطاعة رسلِه.
{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} يأمرُ اللهُ نبيَّهُ أنْ يأمرَ المؤمنين بأن يعفو عن الكفَّارِ ويصبروا على أذاهم حتَّى يحكمَ اللهُ، حتَّى يحكمَ اللهُ وهو خيرُ الحاكمين، {قُلْ لِلَّذِينَ} قلْ يا محمَّد، قلْ يا أيُّها الرَّسولُ، {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا}، {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ثمَّ قالَ تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} مثلَ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7] {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت:6] واللهُ تعالى لا تنفعُه طاعةُ المطيعين ولا تضرُّه معصيةُ العاصين، وإنَّما يعود ذلك إلى المكلَّف فهو المنتفعُ أو المتضرِّرُ.
{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} هذه النِّهايةُ، يرجعونَ بعد إلى ربِّهم فيحكم بينهم ويجزي العاملين على أعمالهم، المحسنين منهم والمسيئين {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] جعلَ اللهُ لهذا الخلقِ موعدًا، يوم، يوم يجمع اللهُ في الأوَّلين والآخرين، ميقاتٌ، {مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:50]
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ} الآياتَ:
يخبرُ تعالى بفضلِهِ على عبادِهِ وإحسانِهِ إليهم بتسخيرِ البحرِ لسيرِ المراكبِ والسُّفنِ بأمرِهِ وتيسيرِهِ، {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} بأنواعِ التِّجاراتِ والمكاسبِ، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} اللهُ تعالى فإنَّكم إذا شكرْتُموهُ زادَكم مِن نعمِهِ وأثابَكم على شكرِكم أجرًا جزيلًا.
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} أي: مِن فضلِهِ وإحسانِهِ، وهذا شاملٌ لأجرامِ السَّمواتِ والأرضِ ولما أودعَ اللهُ فيهما مِن الشَّمسِ والقمرِ والكواكبِ والثَّوابتِ والسَّيَّاراتِ وأنواعِ الحيواناتِ وأصنافِ الأشجارِ والثَّمراتِ وأجناسِ المعادنِ وغيرِ ذلكَ ممَّا هوَ مُعَدٌّ لمصالحِ بني آدمَ ومصالحِ ما هوَ مِن ضروراتِهِ، فهذا يوجبُ عليهم أنْ يبذلُوا غايةَ جهدِهم في شكرِ نعمتِهِ وأنْ تتغلغلَ أفكارُهم في تدبُّرِ آياتِهِ وحكمِهِ ولهذا قالَ
– الشيخ : التَّدبُّر؛ للاهتداءِ، للاهتداء إلى الحكمِ والغايات، أمَّا التَّفكُّرُ لطلب المنافعِ الدُّنيويَّة فهذا ليسَ.. يعني مطلوبٌ بقدرٍ، ولهذا لو استقامَ المسلمون على دينِهم وأخذوا من منافعِ الدُّنيا ما تيسَّرَ لهم لم يضرَّهم أن لم يبلغوا مبلغَ الأممِ في الصِّناعة والـمُبتكَرات والـمُخترَعات، الكفَّارُ غايتُهم الدُّنيا، هي الغايةُ، ليسَ لهم غايةٌ وراءَها، أمَّا المؤمنون فيطلبونَ من الدُّنيا ما يعينُهم على ما خُلِقُوا له، على ما خُلِقُوا له… لا إله إلَّا الله، للهِ الحكمةُ البالغةُ.
– القارئ : ولهذا قالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وجملةُ ذلكَ أنَّ خلقَها وتدبيرَها وتسخيرَها دالٌّ على نفوذِ مشيئةِ اللهِ وكمالِ قدرتِهِ، وما فيها مِن الإحكامِ والإتقانِ وبديعِ الصَّنعةِ وحسنِ الخلقةِ دالٌّ على كمالِ حكمتِهِ وعلمِهِ، وما فيها مِن السَّعةِ والعظمةِ والكثرةِ دالٌّ على سعةِ ملكِهِ وسلطانِهِ، وما فيها مِن التَّخصيصاتِ والأشياءِ المتضادَّاتِ دليلٌ على أنَّهُ الفعَّالُ لـِما يريدُ، وما فيها مِن المنافعِ والمصالحِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ دليلٌ على سعةِ رحمتِهِ، وشمولِ فضلِهِ وإحسانِهِ وبديعِ لطفِهِ وبِـرِّهِ، وكلُّ ذلكَ دالٌّ على أنَّهُ وحدَهُ المألوهُ المعبودُ الَّذي لا تنبغي العبادةُ والذُّلُّ والمحبَّةُ إلَّا لهُ وأنَّ رسلَهُ صادقونَ فيما جاؤُوا بهِ، فهذهِ أدلَّةٌ عقليَّةٌ واضحةٌ لا تقبلُ ريبًا ولا شكًّا.
قالَ اللهُ تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآياتَ.
يأمرُ تعالى عبادَهُ المؤمنينَ بحسنِ الخُلقِ والصَّبرِ على أذيَّةِ المشركينَ بهِ، الَّذينَ لا يرجونَ أيَّامَ اللهِ أي: لا يرجونَ ثوابَهُ ولا يخافونَ وقائعَهُ في العاصينَ فإنَّهُ تعالى سيجزي كلَّ قومٍ بما كانُوا يكسبونَ. فأنتم -يا معشرَ- المؤمنينَ يجزيكم على إيمانِكم وصفحِكم وصبرِكم ثوابًا جزيلًا.
وهم إنْ استمرُّوا على تكذيبِهم فلا يحلُّ بكم ما حلَّ بهم مِن العذابِ الشَّديدِ والخزيِ ولهذا قالَ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}.
ثمَّ قالَ تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا}
– الشيخ : إلى هنا، انتهى، لا إله إلَّا الله، يا الله، يا الله، سبحان الله، حكمةٌ بالغةٌ.