بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الجاثية
الدَّرس: السَّادس
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية:23-26]
– الشيخ : إلى هنا، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم.
يقولُ تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} إنَّ أمرَ هذا الشَّقيِّ، إنَّ أمرَه لعجيبٌ! نسأل اللهَ العافيةَ، فهو يعبدُ هواه {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} فهو متَّبعٌ لما يميل إليه طبعُه وتميلُ إليه نفسُه الأمَّارةُ بالسُّوء، فهو يدور مع هواه، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ} صارَ هواه هو معبودُه، فهو منقادٌ، منقادٌ لهواه، {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} أضلَّه اللهُ في حال أنَّه عالمٌ لم يكن عن جهالةٍ بل هو -والعياذُ بالله- بل هو متَّبعٌ لهواه عن علمٍ وعمدٍ، ويُحتمَلُ أنَّ قولَه: {عَلَى عِلْمٍ} يعني: أضلَّهُ اللهُ عالـمـًا بحقيقةِ حاله.
{وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} فلا يسمعُ الهدى ولا يصغي للآياتِ، وعلى قلبِهِ فلا يفكِّرُ إلَّا فيما يوافقُ هواه، لا يقبلُ الحقَّ، إذا خُتِمَ على القلبِ انسدَّتْ عنه طرقُ الخيرِ فلا يدخلُ إليه خيرٌ ولا يخرجُ منه شرٌّ، الطُّرقُ مسدودةٌ، وبصرُه عليه غشاوةٌ لا ينظرُ ببصره نظرَ الاعتبارِ والتَّفكُّر والاهتداء بالآيات، {صُمٌّ} كما قالَ اللهُ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] في الآيةِ الأخرى: {فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]
{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} هؤلاءِ الكافرون يكفرون باليومِ الآخرِ، لا يؤمنون بالدَّارِ الآخرة، لا يعرفون إلَّا هذه الدُّنيا، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} يعني: ما هناك آخرةٌ، ما هناك بَعْثٌ، ما هي إلَّا هذه الدُّنيا، نموتُ ونحيا، جيلٌ ينقرضُ ويموت وجيلٌ ينشأ، هذه الحياةُ، نموتُ ونحيا نموتُ ونحيا، يعني يموتُ جيلٌ ويحيا جيلٌ وهلمَّ.. وفي زعمِهم أنَّ هذه الدُّنيا هكذا دائمةٌ دائمة، فليسَ هناك أجلٌ لهذه الحياةِ تكون بعدها حياةٌ آخرةٌ.
{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} الدَّهرُ السنين والأعوام تمرُّ علينا فنهلكُ، فالدَّهرُ هو الَّذي يهلكنا، {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} قال اللهُ: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} هذه هي الظُّنونُ ووساوسُ الشَّيطانِ {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} إذا تُلِيَ عليهم القرآنُ الَّذي يذكِّرُ بالبعث الَّذي فيه ذكرُ البعثِ {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16] {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [المؤمنون:80] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هاتوا آباءَنا الي [الذين] ماتوا، ابعثوهم لنا، هذه.. لنا {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى:16] ستُبعثون أنتم وهم، سيُبعَثُ الجميعُ {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49-50]
{قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} يومُ القيامةِ حقٌّ واقعٌ لا ريبَ فيه ولا شكَّ {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} بل هم جاهلون غافلونَ معرضون، جاهلون غافلون معرضون، لا يُصغونَ إلى هدىً، ولا يستجيبون لداعٍ يدعوهم إلى الرَّشادِ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-، في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الآياتَ.
يقولُ تعالى: {أَفَرَأَيْتَ} الرَّجلَ الضَّالَّ الَّذي {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} فما هويَهُ سلكَهُ سواءً كانَ يُرضِي اللهَ أو يسخطُهُ. {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} مِن اللهِ تعالى أنَّهُ لا تليقُ بهِ الهدايةُ ولا يزكو عليها. {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} فلا يسمعُ ما ينفعُهُ، {وَقَلْبِهِ} فلا يعي الخيرَ
– الشيخ : حتَّى ولو كانَ يسمعُ البعيدَ فهذا في حكمِ الأصمِّ، فالَّذي لا يسمعُ ما ينتفعُ به حكمُه حكمُ الأصمِّ، هذه الجوارحُ -الأسماعُ والأبصارُ- هذه إنَّما تكونُ خيرًا لصاحبِها إذا انتفعَ بها، إذا يتوصَّلُ بها إلى الخير، أمَّا من لا يسمع إلَّا الباطلَ فلو أنَّه أصمٌّ لكانَ أهونَ عليه، وهكذا البصرُ وهكذا العقلُ، فالكفَّار لم ينتفعوا بأسماعِهم ولا أبصارِهم ولا بعقولهم {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف:26] ما نفعتْهم ولا أغنتْ عنهم ولا أنجتْهم من عذابِ اللهِ النَّازلِ بهم.
لهم أسماعٌ وأبصارٌ، وهذا ينطبقُ تمامًا على هذه الأممِ الكافرة أبدًا، حالهم حالُ البهائم، حالُهم حالُ البهائمِ سواءً عتاتُهم وطُغاتُهم وكبراؤُهم أو عامَّتُهم وطَغَامُهم وسائرُ جماعاتهم لا يعرفون إلَّا هذه الحياة الدُّنيا، ما يعرفونَ ولا يرعوون ولا يصغونَ ولا يستجيبون مقبلونَ على هذه الدُّنيا بكلِّ قواهم بقلوبهم بعقولهم بأسماعِهم بأبصارهم بجوارحِهم {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ} [يونس:7-8].
– القارئ : {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} تمنعُهُ مِن نظرِ الحقِّ، {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} أي: لا أحدَ يهديه وقد سدَّ اللهُ عليهِ أبوابَ الهدايةِ وفتحَ لهُ أبوابَ الغوايةِ، وما ظلمَهُ اللهُ ولكنْ هوَ الَّذي ظلمَ نفسَهُ وتسبَّبَ لمنعِ رحمةِ اللهِ عليهِ {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ما ينفعُكم فتسلكونَهُ وما يضرُّكم فتجتنبونَهُ.
{وَقَالُوا} أي: منكرو البعثِ {مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} أي: إنْ هيَ إلَّا عاداتٌ وجريٌ على رسومِ اللَّيلِ والنَّهارِ.
– الشيخ : ليلٌ ونهارٌ متعاقبةٌ أبدَ الآبادِ بزعمهم.
– القارئ : يموتُ أناسٌ ويحيا أناسٌ ومَن ماتَ فليسَ براجعٍ إلى اللهِ ولا مجازيهُ بعملِهِ.
وقولُهم هذا صادرٌ عن غيرِ علمٍ {إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} فأنكرُوا المعادَ وكذَّبُوا الرُّسلَ الصَّادقينَ مِن غيرِ دليلٍ دلَّهم على ذلكَ ولا برهانٍ.
إنْ هيَ إلَّا ظنونٌ واستبعاداتٌ خاليةٌ عن الحقيقةِ ولهذا قالَ تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وهذا جراءةٌ منهم على اللهِ، حيثُ اقترحُوا هذا الاقتراحَ وزعمُوا أنَّ صدقَ رسلِ اللهِ متوقِّفٌ على الإتيانِ بآبائِهم، وأنَّهم لو جاؤُوهم بكلِّ آيةٍ لم يؤمنوا إلَّا إنْ اتَّبعَتْهم الرُّسلُ على ما قالُوا، وهم كَذَبَةٌ فيما قالُوا وإنَّما قصدُهم دفعُ دعوةِ الرُّسلِ لا بيانُ الحقِّ، قالَ تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وإلَّا فلو وصلَ العلمُ باليومِ الآخرِ إلى قلوبِهم، لعملُوا لهُ أعمالًا وتهيَّؤُوا لهُ.
– الشيخ : أحسنتَ، يا الله العفوَ والعافيةَ.