بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الأحقاف
الدَّرس: الثَّاني
*** *** ***
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأحقاف:7-9]
– الشيخ : الحمدُ لله، كذلك يخبرُ اللهُ عن بعض أحوالِ الكفَّار الَّذين كذَّبوا بآيات الله، اللهُ أكبرُ، يخبرُ تعالى عن بعض تعاملهم من آيات الله {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} هذا يتضمَّنُ التَّكذيبَ بآيات الله، وجعلها من السِّحر الَّذي هو من عمل الشَّياطين، السِّحرُ من عمل الشَّياطين {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:102] يقولون {هَذَا سِحْرٌ} {هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} يعني: بيِّنٌ، يزعمون أنَّه سحرٌ بيِّنٌ ما فيه كلامٌ ولا فيه، وهذا من مبالغتهم في الباطل والتَّكذيب والتَّنفير عن هدى الله، وعن آياتِ اللهِ، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} إذا تلاها الرَّسولُ أو تلاها غيرُه من المؤمنين {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} لهذا الحقِّ الَّذي جاءَ به الرَّسولُ {هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}
ثمَّ يخبرُ تعالى عن بعض أقوالهم {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يقولون: افتراه، تارةً يقولون: هذا سحرٌ، وتارةً يقولون: هذا افتراءٌ من محمَّدٍ، افتراهُ يعني: اختلقَه، يعني: هو كذبَ، فيصفونَ الرَّسولَ بالكذب، ويدَّعي أنَّ هذه من آيات اللهِ وأنَّها جاءَت من عند اللهِ وليس كذلك بل هو اخترعَها وافتراها، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [السجدة:3] وهذا تكذيبٌ لهم، ما {بَلْ هُوَ الْحَقُّ} [السجدة:3] اليقينُ الَّذي هو صدقٌ وخبرٌ مطابقٌ لـمُخْبَرِهِ، {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [السجدة:3]
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} هذا من الرَّدِّ، هذا يُعلِّمُ اللهُ نبيَّه أن يجيبَهم {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} كما تزعمون فإنَّكم لا تملكون لي من الله شيئًا، فإنَّه لو كان الرَّسولُ افتراه لكان متعرِّضًا لعقوبة الله، ولا يملكُ أحدٌ أن يدفع عنه، كما قالَ تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44-47]
فاللهُ تعالى يقول لنبيِّه: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} هو يعلمُ ما تخوضون وتتكلَّمون وتسرعون فيه من التَّكذيب والتُّهم، {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فاللهُ شهيدٌ على الجميع، لا تخفى عليه من أحوال العباد مؤمنِهم وكافرِهم، لا تخفى عليه حالُ الرَّسول، ولا حالُ أعدائه المكذِّبين، قلْ كفى باللهِ، يعني: كفى اللهُ شهيدًا بيني وبينكم فهو مطَّلعٌ على أحوال الجميع {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}
{قُلْ} أيضًا -اللهُ يلهمُه ويعلِّمُه- {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} يعني: لستُ أوَّلَ رسولٍ، أنا لستُ بِدعًا بل سبقَني رسلٌ كثيرون {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144] {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} يعني: لا أعلمُ الغيبَ ولا أعلمُ ماذا يفعلُ اللهُ بي وبكم إلَّا أنَّه يعلم أنَّ اللهَ سينصرُه على عدوِّه، لكن على وجهِ التَّحديد كيف يكونُ هذا؟ هذا لا يعلمُه الرَّسولُ، ولا يعلمُ ما يفعلُه اللهُ بأعدائه، لكن يعلمُ أنَّ اللهَ سينتقمُ له منهم وينصرُه عليهم. اللهُ أكبرُ.
{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أنا الواجبُ عليَّ ليس إلَّا اتِّباعَ الوحي، إلَّا اتِّباع الوحي هذا هو واجبُ الرَّسولِ وواجبُ أتباعِه.
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} فهو لا يملكُ لنفسه ولا لغيره، كما قالَ تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188] فالقرآنُ هكذا يصدِّقُ بعضُه بعضًا، هذا المعنى الَّذي نجده في هذه الآية نجدُه في آياتٍ أخرى، سبحان الله العظيم.
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} … {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50]
(تفسير الشَّيخِ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} الآياتَ:
أي: وإذا تتلى على المُكذِّبينَ {آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} بحيثُ تكونُ على وجهٍ لا يُمترَى بها ولا يُشَكُّ في وقوعِها وحقِّها لم تفدْهم خيرًا بل قامَتْ عليهم بذلكَ الحجَّةُ، ويقولونَ مِن إفكِهم وافترائِهم {لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي: ظاهرٌ لا شكَّ فيهِ وهذا مِن بابِ قلبِ الحقائقِ الَّذي لا يروجُ إلَّا على ضعفاءِ العقولِ، وإلَّا فبينَ الحقِّ الَّذي جاءَ بهِ الرَّسولُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وبينَ السِّحرِ مِن المنافاةِ والمخالفةِ
– الشيخ : بينَهما تضادٌّ، الَّذي جاءَ به الرَّسولُ والسِّحرُ الَّذي يزعمُه المشركون تضادٌّ، مثل الَّذي يقول: النَّهارُ ليلٌ، هذه مغالطةٌ كبرى، فوصفَ الشَّيءَ بنقيضه، هذه مباهتةٌ ومناقضةٌ ومكابرةٌ.
– القارئ : أعظمُ ممَّا بينَ السَّماءِ والأرضِ، وكيفَ يُقاسُ الحقُّ -الَّذي علا وارتفعَ ارتفاعًا على الأفلاكِ وفاقَ بضوئِهِ ونورِهِ نورَ الشَّمسِ وقامَتِ الأدلَّةُ الأفقيَّةُ والنَّفسيَّةُ عليهِ، وأقرَّتْ بهِ وأذعنَتْ أولو البصائرِ والعقولِ الرَّزينةِ- بالباطلِ الَّذي هوَ السِّحرُ الَّذي لا يصدرُ إلَّا مِن ضالٍّ ظالمٍ خبيثِ النَّفسِ خبيثِ العملِ؟! فهوَ مناسبٌ لهُ وموافقٌ لحالِهِ وهل هذا إلَّا مِن البهرجةِ؟
– الشيخ : سبحان الله هذه شِنشِنةٌ شِنشِنةٌ يعني وطريقةٌ للكفَّار كلِّهم هكذا! {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] كلمةٌ يردِّدونها؛ لأنَّها من وحي الشَّيطان، فالشَّيطانُ يوحي بهذا الكلام، قومُ نوحٍ وقومُ هودٍ وقومُ صالحٍ، وفرعون وقومه، {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:38-39].
– القارئ : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي: افترى محمَّدٌ هذا القرآنَ مِن عندِ نفسِهِ فليسَ هوَ مِن عندِ اللهِ.
{قُلْ} لهم:
– الشيخ : يعني لهم مقالاتٌ، تارةً يقولون هذا سحرٌ، ومرَّةً يقولون هكذا كذب افتراه محمَّدٌ، ألوان، تارةً يقولون: هذا مجنونٌ، هذا الرَّسولُ مجنونٌ، تارةً يقولون: ساحرٌ، {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:8-9] أقوالٌ متناقضةٌ متضاربةٌ.
– القارئ : {إِنِ افْتَرَيْتُهُ} فاللهُ عليَّ قادرٌ وبما تفيضونَ فيهِ عالمٌ، فكيفَ لم يعاقبْني على افترائي الَّذي زعمْتُم؟
فلا {تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} إنْ أرادَني اللهُ بضرٍّ أو أرادَني برحمةٍ {كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فلو كنْتُ متقوِّلًا عليهِ لأخذَ مني باليمينِ ولعاقبَني عقابًا يراهُ كلُّ أحدٍ؛ لأنَّ هذا أعظمُ أنواعِ الافتراءِ لو كنْتُ متقوِّلًا، ثمَّ دعاهم إلى التَّوبةِ معَ ما صدرَ منهم مِن معاندةِ الحقِّ ومخاصمتِهِ فقالَ: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي: فتوبُوا إليهِ وأقلعُوا عمَّا أنتم فيهِ يغفرْ لكم ذنوبَكم ويرحمْكم فيوفِّقْكم للخيرِ ويثيبُكم جزيلَ الأجرِ.
{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} أي: لسْتُ بأوَّلِ رسولٍ جاءَكم حتَّى تستغربُوا رسالتي وتستنكروا دعوتي
– الشيخ : لا إله إلَّا الله، هم يعلمون أنَّ قبلَه رسلٌ، يعلمون
– القارئ : فقد تقدَّمَ مِن الرُّسلِ والأنبياء مَن وافقَتْ دعوتي دعوتَهم فلأيِّ شيءٍ تُنكرونَ رسالتي؟ {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} أي: لسْتُ إلَّا بشرًا ليسَ بيدي مِن الأمرِ شيءٌ واللهُ –تعالى- هوَ المتصرِّفُ بي وبكم الحاكمُ عليَّ وعليكم، {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ولسْتُ الآتي بالشَّيءِ مِن عندي، {وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} فإنْ قبلْتُم رسالتي وأجبْتُم دعوتي فهوَ حظُّكم ونصيبُكم في الدُّنيا والآخرةِ، وإنْ رددْتُم ذلكَ عليَّ فحسابُكم على اللهِ وقد أنذرْتُكم ومَن أنذرَ فقد أُعذِرَ.
– الشيخ : إلى هنا.