الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الأحقاف/(8) من قوله تعالى {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن} الآية 29 إلى قوله تعالى {ومن لا يجب داعي الله} الآية 32
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(8) من قوله تعالى {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن} الآية 29 إلى قوله تعالى {ومن لا يجب داعي الله} الآية 32

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الأحقاف

الدَّرس: الثَّامن

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:29-32]

الشيخ : إلى هنا، سبحان الله، لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله، يقولُ تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا} يعني: واذكرْ أيُّها الرَّسولُ حينَ {صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا} يعني: جماعةً، جماعةٌ من الجنِّ {صَرَفْنَا إِلَيْكَ} صرفَهم اللهُ إلى الرَّسول، يعني: جعلَ في قلوبهم الرَّغبةَ والتَّوجُّهَ إلى الرَّسول؛ ليستمعوا هذا القرآنَ الَّذي جاءَ به {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} جاؤُوا؛ ليستمعوا، في الآيةِ الأخرى قالَ اللهُ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن:1-2]

{فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} يعني: قالَ بعضُهم لبعضٍ: أنصتوا، يعني: أقبلوا على استماعِ القرآنِ ولا تنشغلوا عنه بشيءٍ، سكوت، الإنصاتُ: هو كمالُ الاستماعِ، به كمالُ الاستماعِ.

{فَلَمَّا قُضِيَ} يعني: قُضِيَت التِّلاوةُ وفَرَغَ النَّبيُّ من تلاوة القرآنِ {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا} يعني: ذهبوا {إِلَى قَوْمِهِمْ} هؤلاء جماعةٌ من الجنِّ، لما قُضِيَت التِّلاوةُ {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} محذِّرين واعظين مذكِّرين، فاستمعوا الهدى وآمنوا به وأقبلوا عليه ثمَّ توجَّهوا لنفعِ قومِهم، لدعوةِ، للدعوةِ، فحصلَ لهم العلمُ والعملُ والدَّعوةُ، علموا باستماعِهم، وعملُوا لإيمانهم به وتواصيه، ودعوا حيثُ ذهبُوا إلى قومِهم.

والجنُّ خلقَهم اللهُ لعبادته كما خلقَ الإنسَ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فهم مكلَّفونَ مأمورونَ مَنهيُّون، وهذا يُستدَلُّ به على أنَّ رسالةَ محمَّدٍ للثَّقلَينِ: الجنِّ والإنسِ، رسولُ الله إلى الثَّقلَينِ: إلى الجنِّ والإنسِ، ولكن كلٌّ يتعلَّقُ به مِن الشَّرائع ما يناسبُ حالَه؛ لأنَّ طبائعَ الجنِّ ليست كطبائع الإنس في خلقهم وفي أحوالهم وتصرُّفاتهم.

{قَالُوا يَا قَوْمَنَا} هذا تبليغٌ، هذا البلاغُ، {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا … مِنْ بَعْدِ مُوسَى} يعني: كتابٌ {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} وهذا يقتضي أنَّهم كانوا أيضًا يتلقَّون عن موسى -عليه السَّلامُ-، {كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} مصدِّقٌ لما قبلَه من كتبِ الله، هذا القرآنُ مصدِّقٌ وشاهدٌ للكتب السَّابقة، وهذا المعنى كثيرٌ في القرآن، يعني: ذكرُ التَّصديقِ، وهذا شأنُ الرُّسلِ، اللَّاحقُ يصدِّقُ السَّابقَ، والسَّابقُ يبشِّرُ باللَّاحقِ، ولهذا عيسى -عليه السَّلامُ- جاءَ مصدِّقًا لمن قبلَه مصدِّقًا لموسى والتَّوراة ومبشِّرًا بالرَّسول الَّذي بعده {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]

{يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} وهذا توصيفٌ منهم، يصفون القرآنَ بأنَّه يهدي {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} في الاعتقادات وفي الأعمالِ {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} ويهدي إلى الطَّريق القويمِ المستقيمِ الموصِلِ للغاية المحمودةِ {إِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} لا اعوجاجَ فيه.

ثمَّ يؤكِّدون {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} أَجِيبُوا، يؤكِّدون، يعني: أوَّلًا بلَّغُوا، ثمَّ طالبوا قومَهم بأن يستجيبوا وأن يؤمنوا ويتَّبعوا {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} ثمَّ ذكروا الجزاءَ: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} بلَّغُوهم ودعوهم وحذَّرُوهم، وهذا، وهذه حقيقةُ الإنذارِ {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} فبلَّغُوا ودعوا قومَهم ليجيبوا وحذَّرُوهم من عواقب الامتناعِ عن الإيمان، وذكَّرُوهم بما يترتَّبُ على إيمانهم: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} هذا وعدٌ {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وهذا وعيدٌ.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:

{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} الآياتَ:

كانَ اللهُ تعالى قد أرسلَ رسولَهُ محمَّدًا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- إلى الخلقِ إنسِهم وجنِّهم وكانَ لا بدَّ مِن إبلاغِ الجميعِ لدعوةِ النُّبوَّةِ والرِّسالةِ.

فالإنسُ يمكنُهُ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- دعوتُهم وإنذارُهم، وأمَّا الجنُّ فصرفَهم اللهُ إليهِ بقدرتِهِ وأرسلَ إليهِ {نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} أي: وصَّى بعضُهم بعضًا بذلكَ، {فَلَمَّا قُضِي} وقد وعَوهُ وأثَّرَ ذلكَ فيهم {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} نصحًا منهم لهم وإقامةً لحجَّةِ اللهِ عليهم وقيَّضَهم اللهُ معونةً لرسولِهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- في نشرِ دعوتِهِ في الجنِّ.

{قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} لأنَّ كتابَ موسى أصلٌ للإنجيلِ وعُمدةٌ لبني إسرائيلَ في أحكامِ الشَّرعِ، وإنَّما الإنجيلُ مُتمِّمٌ ومُكمِّلٌ ومُغيِّرٌ لبعضِ الأحكامِ.

{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي} هذا الكتابُ الَّذي سمعْناهُ {إِلَى الْحَقِّ} وهوَ الصَّوابُ في كلِّ مطلوبٍ وخبرٍ {وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} موصلٌ إلى اللهِ وإلى جنَّتِهِ مِن العلمِ باللهِ وبأحكامِهِ الدِّينيَّةِ وأحكامِ الجزاءِ.

فلمَّا مدحُوا القرآنَ وبيَّنُوا محلَّهُ ومرتبتَهُ دعوهم إلى الإيمانِ بهِ، فقالُوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} أي: الَّذي لا يدعو إلَّا إلى ربِّهِ لا يدعوكم إلى غرضٍ مِن أغراضِهِ ولا هوىً، وإنَّما يدعوكم إلى ربِّكم ليثيبَكم ويزيلَ عنكم كلَّ شرٍّ ومكروهٍ، ولهذا قالُوا: {وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وإذا أجارَهم مِن العذابِ الأليمِ فما ثمَّ بعدَ ذلكَ إلَّا النَّعيمُ فهذا جزاءُ مَن أجابَ داعيَ اللهِ.

{وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ} فإنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ فلا يفوتُهُ هاربٌ ولا يغالبُهُ مغالِبٌ.

{وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وأيُّ ضلالٍ أبلغُ مِن ضلالِ مَن نادتْهُ الرُّسلُ ووصلَتْ إليهِ النُّذرُ بالآياتِ البيِّناتِ، والحججِ المتواتراتِ فأعرضَ واستكبرَ؟

قالَ اللهُ تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ}

الشيخ : إلى هنا.