بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة محمَّد
الدَّرس: الأوَّل
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:1-4]
– الشيخ : الحمدُ للهِ، هذه سورةٌ اسمُها سورةُ: "محمَّد"؛ لذكرِ محمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في مَطْلَعِهَا، {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ}، وتُسمَّى: "سورةُ القتالِ"؛ لأنَّ اللهَ أمرَ في أوَّلها بالقتال، بل السُّورةُ مِن أوَّلها إلى آخرها في شأنِ القتالِ، وهي مدنيَّةٌ قطعًا، موضوعُها الجهادُ، والجهادُ إنَّما شُرِعَ في المدينةِ.
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} كفرُوا بالله ورسله وآياته وأعرضُوا عن هدى اللهِ وصدُّوا الآخرين، صدُّوا غيرَهم، فالكفَّارُ يصدُّون بأنفسهم عن الحقِّ ويسعون في صدِّ النَّاس عنه، فيَجمعونَ بينَ الكفرِ والظُّلم، {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} يعني: أذهبَ أعمالَهم وأبطلَها وأحبطَها، فما قد يعملونه مِن أعمالٍ حسنةٍ هي باطلةٌ لا تنفعُهم {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} هذا خبرٌ عن الكفَّار، عن حالِهم ومآلِهم.
ويأتي ذكرُ المؤمنين {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسلِه، آمنوا بالله ورسله وملائكتِه وكتبِه، وعملُوا الأعمالَ الصَّالحةَ من الفرائض وغيرها، {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ} هذا تخصيصٌ بعدَ تعميمٍ {آمَنُوا} هذا عطفٌ على ما قبله، عطفُ الخاصِّ على العامِّ، {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} مِن الكتاب والحكمةِ، الجزاء: {رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}، وما نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ هُوَ الْحَقُّ، هُوَ الْحَقُّ وحدَه، كلُّ ما خالفَه، كلُّ ما خالفَه فهو باطلٌ {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}.
ثمَّ قالَ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} هذا بيانٌ للسَّببِ، سببُ ضلالهم وفساد أعمالهم وصلاح أحوالِ المؤمنين سببُ ذلك أنَّ {الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ} فريقان متضادَّان مختلفان في اعتقاداتهم وفي أعمالهم وأحوالهم ومصيرِهم {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} فالكافرون تجري عليهم سنَّةُ اللهِ، هو جزاءٌ، سنَّةُ اللهِ في الكافرين الأوَّلين والآخرين.
قالَ: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: لقيتُموهم في لقاءِ الحربِ، {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} إغراءٌ بقتلِهم، {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} يعني: اقصدوا إلى رقابهم، "ضرب" هذا مصدرٌ معناه الأمرُ {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} لا تأخذْكم فيهم هوادةٌ ولا رأفةٌ، كما قالَ الله للملائكة: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال:12] {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] وهنا قالَ: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}.
{حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} يعني: لا تأسروا، بل اقتلوهم عليكم بضربِ الرِّقاب إلى أن تضعفوهم وتكسروا شوكتَهم فحينئذٍ لا بأسَ من الأسرِ، يعني المسلمون إذا واجهُوا الكفَّارَ، أحيانًا يقصدون إلى الأسر لأسبابٍ ولأغراضٍ ولمصالحَ، اللهُ يقول: لا، اقتلوهم، اقتلوهم، إلى أنْ تنكسرَ الشَّوكةُ فحينئذٍ إذا ضعفَتْ قوَّتُهم ونُهِكُوا فَأْسُرُوا حينئذٍ، {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}
ثمَّ الأسرى أمرُهم دائرٌ بينَ، إمَّا إذا رأى الإمامُ المصلحةَ في إطلاقهم أطلقَهم، وإذا رأى أنْ يأخذَ منهم عِوَضَ فداءٍ يفدون أنفسَهم بمالٍ فهذا إذًا.. {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}
ودلَّت السُّنَّةُ أيضًا على خيار آخر وآخر وهو القتلُ، فالإمامُ مُخيَّرٌ في الأسرى بينَ المنِّ والفداءِ والقتالِ والاسترقاقِ، وقد أسرَ المسلمون سبعين مِن صناديدِ المشركين يومَ بدرٍ وتردَّدُوا في أمرِهم وصارَ الخيارُ بأن يأخذوا منهم الفداءَ.
قالَ اللهُ: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} يعني: امضوا، امضوا في قتالِ وقتلِ المشركين {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} إمَّا بكفِّ الكفَّار، وإمَّا بالمهادنة والمصالحة، {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}، واللهُ أعلمُ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-: تفسيرُ سورةِ القتالِ
– الشيخ : الآنَ مكتوبٌ فيها، في المصاحفِ مكتوبٌ "القتال" ولَّا [أو] "محمَّد"؟
– طالب: محمَّد
– الشيخ : لا بأسَ
– القارئ : تفسيرُ سورةِ القتالِ، وهيَ مدنيَّةٌ.
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآياتَ.
هذهِ الآياتُ مشتملاتٌ على ذكرِ ثوابِ المؤمنينَ وعقابِ العاصينَ، والسَّببِ في ذلكَ، ودعوةِ الخلقِ إلى الاعتبارِ بذلكَ، فقال: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وهؤلاءِ رؤساءُ الكفرِ، وأئمَّةُ الضَّلالِ، الَّذينَ جمعُوا بينَ الكفرِ باللهِ وآياتِهِ، والصَّدِّ لأنفسِهم وغيرِهم عن سبيلِ اللهِ، الَّتي هيَ الإيمانُ بما دعَتْ إليهِ الرُّسلُ واتِّباعُهُ.
فهؤلاءِ {أَضَلَّ} اللهُ {أَعْمَالَهُمْ} أي: أبطلَها وأشقاهم بسببِها، وهذا يشملُ أعمالَهم الَّتي عملُوها؛ ليكيدُوا بها الحقَّ وأولياءَ اللهِ
– الشيخ : "ليكيدوا"؟
– القارئ : نعم
– الشيخ : يعني: الأعمالُ الكيديَّةُ الَّتي يحاربون بها أهلَ الإسلامِ اللهُ يبطلُها ويردُّ كيدَهم في نحورهم، يشملُ أعمالَهم الكيديَّة
– القارئ : وهذا يشملُ أعمالَهم الَّتي عملُوها؛ ليكيدوا بها الحقَّ وأولياءَ اللهِ، إنَّ اللهَ جعلَ كيدَهم في نحورِهم، فلم يدركُوا ممَّا قصدُوا شيئًا
– الشيخ : مثل {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36] هذا من إبطال عملهم، {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}
– القارئ : وأعمالُهم الَّتي يرجونَ أنْ يُثابُوا عليها، أنَّ اللهَ سيُحبطُها عليهم، والسَّببُ في ذلكَ أنَّهم اتَّبعُوا الباطلَ، وهوَ كلُّ غايةٍ لا يُرادُ بها وجهُ اللهِ مِن عبادةِ الأصنامِ والأوثانِ، والأعمالُ الَّتي في نصرِ الباطلِ لَمَّا كانَتْ باطلةً، كانَتْ الأعمالُ لأجلِها باطلةً.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا} بما أنزلَ اللهُ على رسلِهِ عمومًا، وعلى محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- خصوصًا، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بأنْ قامُوا بما عليهم مِن حقوقِ اللهِ، وحقوقِ العبادِ الواجبةِ والمستحبَّةِ.
{كَفَّرَ} اللهُ {عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} صغارَها وكبارَها، وإذا كُفِّرَتْ سيِّئاتُهم، نجَوا مِن عذابِ الدُّنيا والآخرةِ. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي: أصلحَ دينَهم ودنياهم، وقلوبَهم وأعمالَهم، وأصلحَ ثوابَهم، بتنميتِهِ وتزكيتِهِ، وأصلحَ جميعَ أحوالِهم
– الشيخ : يعني: أصلحَ شأنَهم كلَّه {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} يعني: شأنَه كلَّه
– القارئ : والسَّببُ في ذلكَ أنَّهم: {اتَّبعُوا الْحَقُّ} الَّذي هوَ الصِّدقُ واليقينُ، وما اشتملَ عليهِ هذا القرآنُ العظيمُ، الصَّادرُ {مِنْ رَبِّهِمْ} الَّذي ربَّاهم بنعمتِهِ، ودبَّرَهم بلطفِه فربَّاهم تعالى بالحقِّ فاتَّبعُوهُ، فصلحَتْ أمورُهم، فلمَّا كانَتْ الغايةُ المقصودةُ لهم، متعلِّقةً بالحقِّ المنسوبِ إلى اللهِ الباقي الحقِّ المبينِ، كانَتْ الوسيلةُ صالحةً باقيةً، باقيًا ثوابُها.
{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} حيثُ بيَّنَ لهم تعالى أهلَ الخيرِ وأهلَ الشَّرِّ، وذكرَ لكلٍّ منهم صفةً يُعرَفونَ بها ويتميَّزونَ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]
قالَ اللهُ تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآياتَ.
يقولُ تعالى -مرشدًا عبادَهُ إلى ما فيهِ صلاحُهم، ونصرُهم على أعدائِهم-: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} في الحربِ والقتالِ، فاصدقُوهم القتالَ، واضربُوا منهم الأعناقَ، {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} وكسرْتُم شوكتَهم، ورأيْتُم الأسرَ أولى وأصلحَ، {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} أي: الرِّباطَ، وهذا احتياطٌ لأسرِهم؛ لئلَّا يهربُوا،
– الشيخ : كلمة: "شدُّوا" هو يريدُ كلمة "شدُّوا"، {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} ما هو أسر ها على الخفيف، لا، ربط حتَّى لا يهربون {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}
– القارئ : فإذا شُدَّ منهم الوثاقُ اطمأنَّ المسلمونَ مِن حربِهم ومِن شرِّهم، فإذا كانُوا تحتَ أسرِكم، فأنتم بالخيارِ بينَ الـمَنِّ عليهم، وإطلاقِهم بلا مالٍ ولا فداءٍ، وإمَّا أنْ تفدوهم بألَّا تطلقُوهم حتَّى يشتروا أنفسَهم
– الشيخ : أيش؟ الفدى يعني، لا تطلقوهم حتَّى يفدوا أنفسَهم، بعوضٍ يعني
– القارئ : أو يشتريهم أصحابُهم بمالٍ، أو بأسيرٍ مسلمٍ عندَهم.
وهذا الأمرُ مستمرٌّ {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي: حتَّى لا يبقى حربٌ، وتبقونَ في المسألةِ والمهادنةِ، فإنَّ لكلِّ مقامٍ مقالًا ولكلِّ حالٍ حكمًا.
انتهى.