بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة محمَّد
الدَّرس: الثَّالث
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:10-14]
– الشيخ : إلى هنا، يقولُ تعالى موبِّخًا للكافرين المشركين، الكافرين بمحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وما جاءَ به، يقولُ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} ماذا جرى على من قبلهم من أعداء الرُّسلِ؟ ففي الأرض مساكنُ أولئك الكافرين.
{فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} سنَّةٌ، سنَّةُ اللهِ ماضيةٌ في الكافرين، وهو التَّدميرُ، ولكن قد تطولُ مدَّةُ بعضِ الأممِ وذلك من الاستدراج، من مكر اللهِ، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام:44]
ونحنُ ننتظرُ هذا في هذه الدُّولِ الكافرةِ الظَّالمةِ الطَّاغيةِ المتسلِّطةِ، ننتظر سنَّةَ اللهِ فيهم، فسنَّةُ الاستدراجِ جاريةٌ عليهم، وسنَّةُ الأخذِ مُنتظَرةٌ، وهم أيضًا ينزلُ بهم ما يشاءُ اللهُ بينَ حينٍ وآخرَ من النَّكباتِ، {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد:31]
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} هو مولاهم المتولِّي لأمورِهم وشأنهم حفظًا ونصرًا وتأييدًا وهدايةً وتوفيقًا، هو مولاهم نِعمَ المولى، هو مولى المؤمنين، هو وليُّهم، مولى بمعنى وليٍّ، اللهُ وليُّ المؤمنين، هو مولى المؤمنين {بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} ما لهم من وليٍّ، ما لهم من وليٍّ ينصرُهم ويمنعُهم من عذاب اللهِ.
ثمَّ قالَ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} وهذا من وَلَايتِه لهم أن يدخلَهم جنَّاتٍ في الآخرة، يُدخلُهم {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ففي الدُّنيا ينجيهم ممَّا يصيبُ أعداءَهم، وفي الآخرة يزحزحُهم عن النَّار ويُدخلُهم الجنَّةَ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} هذه حالُهم في الدُّنيا والآخرة، حالُهم في الدُّنيا {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} ما لهم، ليس لهم غرضٌ في الأكلِ إلَّا إشباع الشَّهوات، إشباعُ الشَّهوة، لا إله إلَّا الله، {كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} تحقيرٌ، هذا فيه تحقيرٌ، تحقيرٌ لهم، يأكلون كما تأكلُ الحميرُ والكلابُ وبهيمةُ الأنعامِ، {كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} ثمَّ مصيرُهم إلى جهنَّمَ {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} هذه عاقبتُهم، هذه حالُهم في الدُّنيا لا يعملون صالحًا، أعمالُهم كلُّها إمَّا جرائمٌ وسيِّئاتٌ وظلمٌ وكفرٌ وشركٌ، والَّا تمتُّع، هذا عملُهم في الدُّنيا، ويومَ القيامة قال اللهُ: {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}.
ثمَّ توجَّهَ الخطابُ إلى النَّبيِّ تسليةً له، تسليةً له ممَّا نالَه الأعداء من الأذى في الأقوال والأفعال، يقولُ اللهُ كثير كثير من القرى كانوا أشدَّ قوَّةً من قريتك الَّتي أخرجَتْك وهي مكَّة، يعني أهلُها، أهلُها أخرجُوا الرَّسولَ وضيَّقُوا عليه حتَّى هاجرَ وتركَ مكَّةَ وهي أحبُّ البلادِ إليه، {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ}، يعني: كثيرٌ من القرى، "كأيِّن" هذه تدلُّ على الكثرةِ، {هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ} يعني: كم من قريةٍ هِيَ أَشَدُّ مِنْ قَرْيَتِكَ وقد أَهْلَكْنَاهُمْ، إذًا فقريتُك لا يعجزونه سبحانه، وستمضي فيهم السُّنَّةُ -السُّنَّة الكونيَّة- {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ}.
ثمَّ قالَ تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ} هل يستويانِ؟ مَن يكونُ على علمٍ وبصيرةٍ في هذه الدُّنيا، وعلى هدىً ومن كانَ قد فسدَتْ بصيرتُه، فسدَتْ، فسدَ عقلُه، حتَّى صارَ يرى الحسنَ قبيحًا والقبيحَ حسنًا، هذا انتكاسٌ وفسادٌ للفطرة وفسادٌ في الأرضِ {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ} هل يستويان؟ هذا وهذا لا يستويان في عقل العاقلِ، لا يستويان في عقلٍ ولا شرعٍ، {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ} الآياتَ:
أي: أفلا يسيرُ هؤلاءِ المكذِّبونَ بالرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فإنَّهم لا يجدونَ عاقبتَهم إلَّا شرَّ العواقبِ، فإنَّهم لا يلتفتونَ يمنةً ولا يسرةً إلَّا وجدُوا مَن كانَ قبلَهم قد بادُوا وهلكُوا، واستأصلَهم التَّكذيبُ والكفرُ، فخمَدُوا، ودمَّرَ اللهُ عليهم أموالَهم وديارَهم، بل دمَّرَ أعمالَهم ومكرَهم، وللكافرينَ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، أمثالُ هذهِ العواقبِ الوخيمةِ، والعقوباتِ الذَّميمةِ.
وأمَّا المؤمنونَ، فإنَّ اللهَ تعالى ينجيهم مِن العذابِ، ويجزلُ لهم كثيرَ الثَّوابِ.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} فتولَّاهم برحمتِهِ، فأخرجَهم مِن الظُّلماتِ إلى النُّورِ، وتولَّى جزاءَهم ونصرَهم، {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ} باللهِ تعالى، حيثُ قطعُوا عنهم ولايةَ اللهِ، وسدُّوا على أنفسِهم رحمتَهُ {لَا مَوْلَى لَهُمْ} يهديهم إلى سُبُلِ السَّلامِ، ولا يُنجيهم مِن عذابِ اللهِ وعقابِهِ، بل أولياؤُهم الطَّاغوتُ، يخرجونَهم مِن النُّورِ إلى الظُّلماتِ، أولئكَ أصحابُ النَّارِ هم فيها خالدونَ.
قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا…} الآيةَ.
لمَّا ذكرَ تعالى أنَّهُ وليُّ المؤمنينَ، ذكرَ ما يفعلُ بهم في الآخرةِ، مِن دخولِ الجنَّاتِ، الَّتي تجري مِن تحتِها الأنهارُ، الَّتي تسقي تلكَ البساتينَ الزَّاهرةَ، والأشجارَ النَّاضرةَ المثمرةَ، لكلِّ زوجٍ بهيجٍ
– الشيخ : لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله، نعوذُ بالله من الخذلان.
– القارئ : لكلِّ زوجٍ بهيجٍ، وكلِّ فاكهةٍ لذيذةٍ.
ولـمَّا ذكرَ أنَّ الكافرينَ لا مولىً لهم، ذَكرَ أنَّهم وُكِلُوا إلى أنفسِهم، فلم يتَّصفُوا بصفاتِ المروءةِ، ولا الصِّفاتِ الإنسانيَّةِ، بل نزلُوا عنها دركاتٍ، وصارُوا كالأنعامِ، الَّتي لا عقلَ لها ولا فضلَ، بل جُلُّ همِّهم ومقصدِهم التَّمتُّعُ بلذَّاتِ الدُّنيا وشهواتِها، فترى حركاتِهم الظَّاهرةَ والباطنةَ دائرةً حولَها، غيرَ متعدِّيةٍ لها إلى ما فيهِ الخيرُ والسَّعادةُ، ولهذا كانَت النَّارُ مثوىً لهم، أي: منزلًا مُعَدًّا، لا
– الشيخ : ينبغي للمسلمِ الَّذي مَنَّ اللهُ عليه بالإسلام أنْ يجعلَ جلَّ همِّه ما يسعدُ به في الآخرة، ما يكونُ همُّه مطالبَ الدُّنيا، فتكون أفكارُه -سبحان الله- دائرةً على المأكلِ والمشربِ والملبسِ والمسكنِ والمركبِ تكون همومُه دائرةً، وهذا يقعُ فيه كثيرٌ من المسلمين، وهم بهذا يكونون مُشبهين بحال الكافرين في تعلُّقِ هممِهم ورغباتهم وأفكارِهم بمطالب الدُّنيا، (فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ)
من النَّاس من يكونُ غارقًا في هذه الاهتمامات ومنهم من يكون عندَه قدرٌ من ذلك، لكن ينبغي للمسلم أن يروِّضَ نفسَه ويتفكَّرَ دائمًا في الدُّنيا والآخرة، فكِّرْ في الدُّنيا في فنائِها وزوالِها ونغصِ عيشِها، كلُّها مشحونةٌ بالنَّغص والهمومِ والخوفِ والأخطارِ، والآخرةُ دارُ البقاءِ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:14-17].
– القارئ : أي: منزلًا معدًّا، لا يخرجونَ منها، ولا يُفتَّرُ عنهم مِن عذابِها.
قالَ اللهُ تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ…} الآيةَ.
أي: وكم مِن قريةٍ مِن قرى المكذِّبينَ، هيَ أشدُّ قوَّةً مِن قريتِكَ، في الأموالِ والأولادِ والأعوانِ، والأبنيةِ والآلاتِ.
أهلكَتْهُم
– الشيخ : أهلكْتُهُم
– القارئ : {أَهْلَكْنَاهُمْ}
– الشيخ : أو {أَهْلَكْنَاهُمْ}
– القارئ : حينَ كذَّبُوا رسلَنا، ولم تفدْ فيهم المواعظُ، فلا تجدُ لهم ناصرًا، ولم تُغنِ عنهم قوَّتُهم مِن عذابِ اللهِ شيئًا.
فكيفَ حالُ هؤلاءِ الضُّعفاءِ -أهلِ قريتِكَ- إذ أخرجُوكَ عن وطنِكَ وكذَّبُوكَ، وعادُوكَ، وأنتَ أفضلُ المرسَلِينَ، وخيرُ الأوَّلِينَ والآخرِينَ؟!
– الشيخ : اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم عليه، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه
– القارئ : أليسُوا بأحقِّ مِن غيرهم بالإهلاكِ والعقوبةِ، لولا أنَّ اللهَ تعالى بعثَ رسولَهُ بالرَّحمةِ والتَّأنِّي بكلِّ كافرٍ وجاحدٍ؟
قالَ اللهُ تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} الآيةَ.
أي: لا يستوي مَن هوَ على بصيرةٍ مِن أمرِ دينِهِ، علمًا وعملًا قد علمَ الحقَّ واتَّبعَهُ، ورجا ما وعدَهُ اللهُ لأهلِ الحقِّ، كمَن هوَ أعمى القلبِ، قد رفضَ الحقَّ وأضلَّهُ، واتَّبعَ هواهُ بغيرِ هدىً مِن اللهِ، ومعَ ذلكَ، يرى أنَّ ما هوَ عليهِ هوَ الحقُّ، فما أبعدَ الفرقَ بينَ الفريقينِ! وما أعظمَ التَّفاوتَ بينَ الطَّائفتينِ، أهلِ الحقِّ وأهلِ الغيِّ!
– الشيخ : إلى هنا.