بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة محمَّد
الدَّرس: الخامس
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:16-19]
– الشيخ : إلى هنا، الحمدُ لله، يقولُ تعالى: {وَمِنْهُمْ} من هؤلاء الكفَّار والمنافقين {مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} يستمعُ لحديثِك، لحديثك معَ أصحابك، يستمعون، لكنَّهم يستمعون وهم معرضون غافلون، فإذا {خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} يعني: لأهلِ العلمِ الَّذين يفقهون عن اللهِ ورسولِه، ويُقبلون على حديث الرَّسول يقولون لهم: {مَاذَا قَالَ آنِفًا}؟ ماذا تكلَّم به؟ {مَاذَا قَالَ آنِفًا}؟ "آنفًا" يقولُ أهلُ اللُّغة: ظرفٌ للوقت القريبِ، الوقتُ القريبُ الماضي، {مَاذَا قَالَ آنِفًا}؟ مثل الي [الذي] نقول الآن: وش الي [ماذا] حصل تو؟ "تو" هذه الآن، يعني: قبلَ قليلٍ، {مَاذَا قَالَ آنِفًا}؟ وما ذاك إلَّا لغفلتهم وإعراضِهم.
قالَ اللهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا يفقهون، لا يفقهون، ما يسمعون من آياتِ وحديثِ رسولِ اللهِ {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} فلا علمَ ولا عملَ، ففي العمل يتَّبعون أهواءَهم وفي العلم لا يفقهون؛ لأنَّ اللهَ طبعَ على قلوبهم، وهذا قالَه اللهُ في المنافقين والكفَّار: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3]
قالَ اللهُ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} الَّذين اهتدوا، آمنوا باللهِ ورسولِه، وطلبوا الحقَّ، زادَهم اللهُ هدىً بما سمعوا من الرَّسول {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} زادَهم علمًا وتقىً، فزادوا علمًا وعملًا {زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} فشتانَ بينَ الفريقين: فريقِ المعرضين الغافلين، وفريقِ المؤمنين المهتدين.
قالَ اللهُ: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ}، "هَلْ يَنْظُرُونَ" بمعنى: ينتظرون، السَّاعةُ آتيةٌ، فهؤلاء الكفَّار ينتظرون السَّاعةَ، آتية {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} السَّاعة أي: القيامة.
{فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} والأشراطُ جمعُ شَرَطٍ، أي: علامةٍ، جاءتْ أشراطُ السَّاعةِ وانشقَّ القمرُ، اقتربتْ وجاءتْ علاماتُها، وللسَّاعة علاماتٌ، أشراطٌ كثيرةٌ، أوَّلُ أشراطِ السَّاعة بعثة خاتم النبيِّين -صلَّى الله عليه وسلَّمَ-.
قال اللهُ: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ} أنَّى لهم التَّذكُّرُ إذا جاءتْهم السَّاعةُ، إذا جاءَتهم السَّاعةُ فَأَنَّى لَهُمْ ذِكْرَاهُمْ، {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ} أنَّى لهم إذا جاءتْهم السَّاعةُ أن يتذكَّروا؛ لأنَّه حينئذٍ يفوت أو فاتَ أوانُ التَّذكُّرِ، {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23]
ثمَّ قالَ سبحانه لنبيِّه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} هذا أمرٌ للنَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بأن يعلم هذا العلمَ الَّذي هو أصلُ الدِّينِ، وهو التَّوحيدُ، {اعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فأمرَه بالعلمِ وأمرَه…، أمرَه بالعلم بالتَّوحيد وأنَّه لا معبودَ بحقٍّ إلَّا اللهُ، وأمرَه بالاستغفارِ، فبدأَ بالعلمِ قبلَ القولِ والعملِ، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وكانَ النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- كثيرَ الاستغفارِ، يقولُ: (اللَّهمَّ اغفرْ لي وتبْ عليَّ، اللَّهمَّ اغفرْ لي وتبْ عليَّ)، يكثرُ الاستغفارَ، {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فأمرَ اللهُ نبيَّه بأنْ يستغفرَ لذنبه وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وهذا ينبغي للمسلمِ أن يستغفرَ لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، هذه دعوةُ إبراهيمَ ودعوةُ نوح، نوح عليه السَّلامُ يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] فيحسنُ المسلمُ يحسن إلى نفسه ويحسنُ إلى عمومِ إخوانِه المؤمنين.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} الآياتَ:
يقولُ تعالى: ومِن المنافقينَ {مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} ما تقولُ، استماعًا لا عن قبولٍ وانقيادٍ
– الشيخ : إي، يستمعون لا عن قبولٍ بل نفاقًا.
– القارئ : بل معرِضةٌ قلوبُهم عنهُ، ولهذا قالَ: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} مستفهِمِينَ عمَّا قلْتَ، وما سمعُوا ممَّا لم يكنْ لهم فيه رغبةٌ {مَاذَا قَالَ آنِفًا} أي: قريبًا، وهذا في غايةِ الذَّمِّ لهم، فإنَّهم لو كانُوا حريصينَ على الخيرِ لألقَوا إليهِ أسماعَهم، وَوَعَتْهُ قلوبُهم، وانقادَتْ لهُ جوارحُهم، ولكنَّهم بعكسِ هذهِ الحالِ، ولهذا قالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي: ختمَ عليها، وسدَّ أبوابَ الخيرِ الَّتي تصلُ إليها؛ بسببِ اتِّباعِهم أهواءَهم، الَّتي لا يهوونَ فيها إلَّا الباطلَ.
ثمَّ بيَّنَ حالَ المهتدينَ، فقالَ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} بالإيمانِ والانقيادِ، واتِّباعِ ما يُرضي اللهَ {زَادَهُمْ هُدًى} شكرًا منهُ تعالى لهم على ذلكَ، {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} أي: وفَّقَهم للخيرِ، وحفظَهم مِن الشَّرِّ، فذكرَ للمهتدينَ جزاءَيْنِ: العلمَ النَّافعَ، والعملَ الصَّالحَ.
قالَ اللهُ تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ} الآيةَ.
أي: فهل ينظرُ هؤلاءِ المكذِّبونَ أو ينتظرونَ {إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي: فجأةً، وهم لا يشعرونَ {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أي: علاماتُها الدَّالَّةُ على قربِها.
{فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} أي: مِن أينَ لهم، إذا جاءَتْهم السَّاعةُ وانقطعَتْ آجالُهم أنْ يتذكَّرُوا ويستعتبُوا؟ قد فاتَ ذلكَ، وذهبَ وقتُ التَّذكُّرِ، فقد عُمِّرُوا ما يتذكَّرُ فيهِ مَن تذكَّرَ، وجاءَهم النَّذيرُ.
ففي هذا الحثُّ على الاستعدادِ قبلَ مفاجأةِ الموتِ، فإنَّ موتَ الإنسانِ قيامُ ساعتِهِ.
قالَ اللهُ تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} الآيةَ.
العلمُ لا بدَّ فيهِ مِن إقرارِ القلبِ ومعرفتِهِ، بمعنى ما طلبَ منهُ علمُهُ، وتمامُهُ أنْ يعملَ بمقتضاهُ.
وهذا العلمُ الَّذي أمرَ اللهُ بهِ -وهوَ العلمُ بتوحيدِ اللهِ- فرضُ عينٍ على كلِّ إنسانٍ، لا يسقطُ عن أحدٍ، كائنًا مَن كانَ، بل كلٌّ مضطرٌّ إلى ذلكَ. والطَّريقُ إلى العلمِ بأنَّهُ لا إلهَ إلَّا هوَ أمورٌ:
أحدُها بل أعظمُها: تدبُّرُ أسمائِهِ وصفاتِهِ، وأفعالِهِ الدَّالَّةِ على كمالِهِ وعظمتِهِ وجلالتِهِ فإنَّها توجبُ بذلَ الجهدِ في التَّألُّهِ لهُ، والتَّعبُّدِ للرَّبِّ الكاملِ الَّذي لهُ كلُّ حمدٍ ومجدٍ وجلالٍ وجمالٍ.
الثَّاني: العلمُ بأنَّهُ تعالى المنفردُ بالخلقِ والتَّدبيرِ، فيُعلَمُ بذلكَ أنَّهُ المنفرِدُ بالألوهيَّةِ.
الثَّالثُ: العلمُ بأنَّهُ المنفرِدُ بالنِّعمِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ، فإنَّ ذلكَ يوجبُ تعلُّقَ القلبِ بهِ ومحبَّتِهِ، والتَّألُّهِ لهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ.
الرَّابعُ: ما نراهُ ونسمعُهُ مِن الثَّوابِ لأوليائِهِ القائمينَ بتوحيدِهِ مِن النَّصرِ والنِّعمِ العاجلةِ، ومِن عقوبتِهِ لأعدائِهِ المشركينَ بهِ، فإنَّ هذا داعٍ إلى العلمِ بأنَّهُ تعالى وحدَهُ المستحقُّ للعبادةِ كلِّها.
الخامسُ: معرفةُ أوصافِ الأوثانِ والأندادِ الَّتي عُبِدَتْ معَ اللهِ، واتُّخذَتْ آلهةً، وأنَّها ناقصةٌ مِن جميعِ الوجوهِ، فقيرةٌ بالذَّاتِ، لا تملكُ لنفسِها ولا لعابديها نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ولا ينصرونَ مَن عبدَهم، ولا ينفعونَهم بمثقالِ ذرَّةٍ مِن جلبِ خيرٍ أو دفعِ شرٍّ، فإنَّ العلمَ بذلكَ يوجبُ العلمَ بأنَّهُ لا إلهَ إلَّا اللهُ وبطلانَ إلهيَّةِ ما سواهُ.
السَّادسُ: اتِّفاقُ كتبِ اللهِ على ذلكَ، وتواطؤُها عليهِ.
السَّابعُ: أنَّ خواصَ الخلقِ، الَّذين هم أكملُ الخليقةِ أخلاقًا وعقولًا ورأيًا وصوابًا وعلمًا -وهم الرُّسلُ والأنبياءُ والعلماءُ الرَّبَّانيُّونَ- قد شهدُوا للهِ بذلكَ.
الثَّامنُ: ما أقامَهُ اللهُ مِن الأدلَّةِ الأفقيَّةِ والنَّفسيَّةِ الَّتي تدلُّ على التَّوحيدِ أعظمَ دلالةٍ، وتُنادي عليهِ بلسانِ حالِها بما أودعَها مِن لطائفِ صنعِهِ، وبديعِ حكمتِهِ، وغرائبِ خلقِهِ.
فهذهِ الطُّرقُ الَّتي أكثرَ اللهُ مِن دعوةِ الخلقِ بها إلى أنَّهُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأبداها في كتابِهِ وأعادَها عندَ تأمُّلِ العبدِ في بعضِها، لا بدَّ أنْ يكونَ عندَهُ يقينٌ وعلمٌ بذلكَ، فكيفَ إذا اجتمعَتْ وتواطأَتْ واتَّفقَتْ، وقامَتْ أدلَّةُ التَّوحيدِ مِن كلِّ جانبٍ، فهناكَ يرسخُ الإيمانُ والعلمُ بذلكَ في قلبِ العبدِ، بحيثُ يكونُ كالجبالِ الرَّواسي، لا تزلزلُهُ الشُّبهُ والخيالاتُ، ولا يزدادُ -على تكرُّرِ الباطلِ والشُّبهِ- إلَّا نموًّا وكمالًا.
هذا، وإنْ نظرْتَ إلى الدَّليلِ العظيمِ، والأمرِ الكبيرِ -وهوَ تدبُّرُ هذا القرآنِ العظيمِ، والتَّأمُّلُ في آياتِهِ- فإنَّهُ البابُ الأعظمُ إلى العلمِ بالتَّوحيدِ ويحصلُ بهِ مِن تفاصيلِهِ وجملِهِ ما لا يحصلُ في غيرِهِ.
وقولُهُ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} أي: اطلبْ مِن اللهِ المغفرةَ لذنبِكَ، بأنْ تفعلَ أسبابَ المغفرةِ مِن التَّوبةِ والدُّعاءِ بالمغفرةِ، والحسناتِ الـماحيةِ، وتركِ الذُّنوبِ والعفوِ عن الجرائمِ.
{وَاسْتَغْفِرْ} أيضًا {لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فإنَّهم -بسببِ إيمانِهم- كانَ لهم حقٌّ على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ.
ومِن جملةِ حقوقِهم أنْ يدعوَ لهم ويستغفرَ لذنوبِهم، وإذا كانَ مأمورًا بالاستغفارِ لهم المتضمِّنِ لإزالةِ الذُّنوبِ وعقوباتِها عنهم، فإنَّ مِن لوازمِ ذلكَ النُّصحَ لهم، وأنْ يُحبَّ لهم مِن الخيرِ ما يحبُّ لنفسِهِ، ويكرهُ لهم مِن الشَّرِّ ما يكرهُ لنفسِهِ، ويأمرُهم بما فيهِ الخيرُ لهم، وينهاهم عمَّا فيهِ ضررُهم، ويعفو عن مساويهم ومعايبِهم، ويحرصُ على اجتماعِهم اجتماعًا تتألَّفُ بهِ قلوبُهم، ويزولُ ما بينَهم مِن الأحقادِ المفضيةِ للمعاداةِ والشِّقاقِ، الَّذي بهِ تكثرُ ذنوبُهم ومعاصيهم.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} أي: تصرفاتِكم وحركاتِكم، وذهابَكم ومجيئَكم، {وَمَثْوَاكُمْ} الَّذي بهِ تستقرُّونَ، فهوَ يعلِّمُكم في الحركاتِ والسَّكناتِ، فيجازيكم على ذلكَ أتمَّ الجزاءِ وأوفاهُ.
انتهى.
– الشيخ : لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله، قد أحسنَ الشَّيخُ -رحمه اللهُ- بالإشارة إلى دلائل التَّوحيدِ الَّتي يحصلُ بها العلمُ، فالعلمُ له أسبابٌ لابدَّ من سلوك أسبابٍ، فالنَّاسُ لا ينزل عليهم وحيٌ، والرَّسولُ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- يشارك النَّاسَ في دلائل التَّوحيدِ من تدبُّر الآيات والتَّفكُّر في الآيات الكونيَّة ويختصُّ بالوحي الَّذي ينزلُه اللهُ عليه، فيعلمُ ما لم يكن عالـمـًا به {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، الرَّسولُ أعلمُ النَّاسِ، أعلمُ النَّاسِ بربِّه، وأعلمُ النَّاس بحقِّه، وأقومُ النَّاس بحقِّ ربِّه، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.