بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة محمَّد
الدَّرس: السَّابع
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:25-31]
– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله، يخبرُ تعالى عن حالِ صنفٍ من النَّاس من الأشقياء من الخلق الَّذين ارتدُّوا على أدبارهم، ارتدُّوا يعني عن الإسلام، وشبَّهَهم بالَّذي ارتدَّ إلى الوراء، {ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} تولَّى، كما يُقالُ: "ولَّو مُدبِرينَ"
{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} يعني: لا عن جهالةٍ، بل عن عمدٍ وخبثٍ شرٍّ، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} يعني: الحقُّ واضحٌ عندَهم، لكنَّهم ارتدُّوا على تعمُّدٍ، هؤلاء ما الَّذي أوجبَ لهم هذا الانتكاسَ؟ أوجبَ لهم الشَّيطانُ، الشَّيطانُ زيَّنَ لهم الكفرَ بعدَ الإيمانِ، زيَّنَ لهم الكفرَ بعدَ الإيمانِ، {سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} أطمعَهم بطولِ الأملِ وطولِ الحياةِ.
ويذكرُ اللهُ تعالى سببًا من أسباب هذا البلاءِ، هذا الارتكاسِ والانتكاسِ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} تواطؤُوا هؤلاء الذين كانوا مؤمنين وانتكسُوا هؤلاء قد تواطؤُوا مع الكفَّار وأئمةِ الكفرِ الَّذين كرهوا ما أنزلَ اللهُ فأحبطَ أعمالَهم، قالوا لهم: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} هذا ممالأةٌ، مالَؤُوا أهلَ الباطلِ فعُوقِبُوا -والعياذُ بالله- بانتكاسِ عقولهم، فعموا بعدما أبصرُوا، عموا عن الحقِّ بعدَما أبصروا، {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ}
قالَ اللهُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} يعلمُ ما يُسِرُّون وما يُعلِنون، هؤلاء الَّذين يُظهرون الإيمانَ ويُبطنون الكفرَ ويرتدُّون عن الإسلام على بصيرةٍ اللهُ يعلمُ حالَهم وسرَّهم، وسيجزيهم الجزاءَ العدلَ عاجلًا في الدُّنيا أو آجلًا في الآخرة.
قالَ اللهُ: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ} هؤلاءِ المخذولون، يخبرُ اللهُ عن سوءِ حالهم، عندَ الموت، فحالُهم حالٌ فظيعةٌ، حالٌ فظيعةٌ! تُرسَلُ إليهم ملائكةُ العذابِ يَتوفَّونهم يَتوفَّونهم فيقبضون أرواحَهم {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام:61]
هؤلاء رسلٌ، ملائكةُ الموتِ رسلٌ يُبعَثون لقبضِ من أرادَ اللهُ موتَه، ثمَّ هؤلاء الملائكةُ المرسَلون إلى هؤلاء الأشقياء، ماذا يفعلون؟ يفعلون بهم {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} هذا الضَّرب لا، هل أحدٌ يرى شيئًا من هذا، أمورٌ غيبيَّةٌ وإن كانَ الميِّتُ بينَ أظهرِ أهلِه، يُفعَلُ به هذا وهو بينَ أهله، الملائكةُ عالمٌ من عالم الغيبِ، هم معنا لكن نحن لا نشعرُ بهم، الملائكةُ الموكَّلون بنا بكتابةِ أعمالنا أو بحفظِنا، هم معَنا، ولكنَّنا لا نشعرُ بهم ولا نراهم، ولا، لكن نؤمنُ بهم، نؤمنُ بوجودهم، نؤمنُ بالملائكة.
من أصول الإيمانِ: الإيمانُ بالملائكة على اختلافِ أصنافهم وأعمالهم، هؤلاءِ ملائكةُ العذابِ أيضًا لا يدري عنهم، يقولُ اللهُ: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] يعني: الرُّوحُ {بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} [الواقعة:83-84] النَّاسُ ينظرون إلى الميِّتِ الـمُحتَضَرِ، اللهُ أكبرُ، ينظرون إليه وروحُه تُنزَعُ، وهي تُنزَعُ، وأهلُه ينظرون ما لهم حيلةٌ.
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] هذه مثلُ آيةِ {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83]، {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26-27] من يرقي؟ أينَ الطَّبيبُ؟ هات الطَّبيبَ؟ وماذا يصنعُ الطَّبيبُ بمن حضرَهُ الموتُ ودنَتْ منه الملائكةُ {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:27-28] الفراقُ فراقُ الروحِ للبدن، وفراقُ البدنِ لأهله، خلاص إذا خرجَت الرُّوحُ النَّاس لا يريدون جسدَ الميِّتِ، يكون اهتمامهم بالتَّخلُّصِ منه، إنَّها لَعِبرٌ تمرُّ على النَّاس مشاهدةً وسماعًا ومعَ ذلكَ القلوبُ غافلةٌ وقاسيةٌ.
الشاهدُ قولُهُ: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} يضربونها تعذيبًا، ويضربونها لتخرجَ الرَّوحُ، إذًا هي تخرجُ بشدَّةٍ ويستخرجُها الملائكةُ بعنفٍ، اقرأ القرآنَ يفسِّر بعضُه بعضًا: {وَلَوْ تَرَى} [الأنعام:93] هذا أسلوبُ تهويلٍ، مثل "كيف" {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ}، كيفَ يكونُ حالُهم؟ كيف تكونُ حالُهم {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} [الأنعام:93] إذًا الملائكةُ يضربون أولئك الظَّالمين يضربونهم بأيديهم، الملائكةُ لهم أيدٍ ولهم أجنحةٌ، سبحانَ الله! {إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام:93]، {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93].
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} الآياتَ.
يُخبِرُ تعالى عن حالةِ المرتدِّينَ عن الهدى والإيمانِ على أعقابِهم إلى الضَّلالِ والكفرانِ، ذلكَ لا عن دليلٍ دلَّهم ولا برهانٍ، وإنَّما هو تسويلٌ مِن عدوِّهم الشَّيطانِ وتزيينٌ لهم، وإملاءٌ منهُ لهم: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} [النساء:120]
وذلكَ بأنَّهم قد تبيَّنَ لهم الهدى، فزهدُوا فيهِ ورفضُوهُ، و{قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ} مِن المبارزِينَ العداوةَ للهِ ولرسولِهِ {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ} أي: الَّذي يوافقُ أهواءَهم، فلذلكَ عاقبَهم اللهُ بالضَّلالِ، والإقامةِ على ما يوصلُهم إلى الشَّقاءِ الأبديِّ
– الشيخ : أعوذُ بالله مِن الشِّقوة
– القارئ : والعذابِ السَّرمديِّ.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} فلذلكَ فضحَهم، وبيَّنَها لعبادِهِ المؤمنينَ؛ لِئَلَّا يغترُّوا بها.
{فَكَيْفَ} ترى حالَهم الشَّنيعةَ، ورؤيتَهم الفظيعةَ {إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ} الـمُوكَّلونَ بقبضِ أرواحِهم، {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} بالمقامعِ الشَّديدةِ؟!
– الشيخ : اللهُ أعلمُ، الَّذي في الآية بأيديهم، ما ندري في المقامع والَّا بأيديهم ضربًا
– القارئ : {ذَلِكَ} العذابُ الَّذي استحقُّوهُ ونالُوهُ {بِـ} سببِ {أنَّهَم اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} مِن كلِّ كفرٍ وفسوقٍ وعصيانٍ.
{وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} فلم يكنْ لهم رغبةٌ فيما يقرِّبُهم إليهِ، ولا يدنيهم منهُ، {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي: أبطلَها وأذهبَها، وهذا بخلافِ مَن اتَّبعَ ما يرضي اللهَ وكرهَ سخطَهُ، فإنَّهُ سيكفِّرُ عنهُ سيِّئاتِهِ، ويضاعفُ أجرَهُ وثوابَهُ. قالَ اللهُ تعالى..
– الشيخ : إلى هنا بس [يكفي] انتهى.