بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الفتح
الدَّرس: الثَّاني
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا(13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفتح:8-14]
– الشيخ : إلى هنا، الحمدُ لله، يقولُ تعالى مُمتنًّا على عباده بنعمةٍ عظيمةٍ وهي إرسالُ هذا الرَّسولِ {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا} [المزمل:15] صلَّى الله عليه وسلَّمَ، محمَّدُ بن عبدِ الله خاتمُ النَّبيِّين، {أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} [المزمل:15] {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} [المزمل:15]
{وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} أرسلَه شاهدًا على هذه الأمَّة كما قالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] وَمُبَشِّرًا لمن أجابَه بالنَّصر والنَّجاة والسَّعادة والفلاح والجنَّة والكرامة، ونذيرًا لمن عصاه وأعرضَ عن دعوتِه صلَّى الله عليه وسلَّم بسوءِ العاقبةِ وبالعذابِ الأليمِ في الدُّنيا والآخرةِ، {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} [المزمل:15]
{شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} هذه الحكمةُ من إرسالِ هذا الرَّسول هو أنْ يؤمنَ العبادُ بالله ورسوله {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ربًّا وإلهًا، وموصوفًا بكلِّ كمالٍ، مُنزَهًّا عن كلِّ نقصٍ، وتؤمنوا بالرَّسول -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بأنَّه عبدُ اللهِ ورسولُه، وأنَّه رسولُ اللهِ حقًّا جاءَ بالهدى ودينِ الحقِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ.
{وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ} يعني: تعظِّمُوهُ {وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} … هذه الضَّمائرُ تعودُ، الأوَّلُ والثَّاني للرَّسولِ {تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} للرَّسول ويُحتمَلُ أنْ يكونَ للهِ، {وَتُسَبِّحُوهُ} هذا للهِ وحدَه، التَّسبيحُ هذا للهِ وحدَه، والتَّعزيرُ والتَّوقيرُ للهِ والرَّسولِ، وقيلَ: للرَّسول خاصَّةً، وإذا كانَ التَّعزيرُ والتَّوقيرُ التعظيمَ، فالتَّعظيمُ لله سبحانَه وتعالى، ولرسولِه بالإيمانِ والطَّاعةِ.
{وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أو النَّهار وآخرِه {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130] {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}.
ثمَّ قالَ تعالى في شأنِ المبايعينَ له، فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما خرجَ معتمِرًا ووصلَ إلى قربِ مكَّةَ صدَّهُ المشركون ومنعوه فنزلَ بالحديبيةِ على مشارفِ مكَّةَ، فأرسلَ النَّبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- عثمانَ يتفاوضُ معَ المشركين ويبلِّغُهم أنَّ الرَّسولَ إنَّما جاءَ معتمِرًا لم يجِئْ لحربٍ ولا قتالٍ، فأُشيعَ أنَّ عثمانَ –رضي اللهُ عنه- قُتِلَ، فدعا النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصحابَه إلى البيعةِ، إلى أنْ يبايعوه، فبايعوه، منهم من يقولُ: بايعْناهُ على الموتِ، يعني: نبايعُه، يعني: نقاتلُ حتَّى نموتَ، أو على ألَّا نفرَّ، فبايعوا تلك البيعةَ العظيمةَ الَّتي عُرِفَتْ ببيعةِ الرِّضوان؛ لما سيأتي.
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} لأنَّ طاعةَ الرَّسولِ طاعةٌ لله {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] ومن بايعَ الرَّسولَ فقد بايعَ اللهَ، {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} والبيعةُ تكونُ باليدِ، البيعةُ تكونُ باليدِ؛ ولهذا إذا جاءَ أحدٌ يبايعُ الرَّسولَ يقولُ: (ابسطْ يدَكَ) فيبسطُ النَّبيُّ يدَه فيضربُ عليها، والبيعةُ عهدٌ؛ ولهذا قالَ تعالى: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} فعُلِمَ بذلك أنَّ الصَّحابةَ إنَّما بايعوا اللهَ وعاهدوا اللهَ.
{وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} فتوعَّدَ النَّاكثينَ، ووعدَ الموفينَ، وقد أوفوا رضيَ اللهُ عنهم، أوفوا عزمًا ونيَّةً، ولو حصلَ قتالٌ لأوفوا بعهدهم وقاتلوا وصدقوا اللهَ، ولكنَّ اللهَ كما قالَ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح:24]
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} الآياتَ:
أي: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} أيُّها الرَّسولُ الكريمُ {شَاهِدًا} لأمَّتِكَ بما فعلُوهُ مِن خيرٍ وشرٍّ، وشاهدًا على المقالاتِ والمسائلِ، حقِّها وباطلِها، وشاهدًا للهِ تعالى بالوحدانيَّةِ والانفرادِ بالكمالِ مِن كلِّ وجهٍ، {وَمُبَشِّرًا} مَن أطاعَكَ وأطاعَ اللهَ بالثَّوابِ الدُّنيويِّ والدِّينيِّ والأُخرويِّ، {وَنَذِيرًا} مَن عصى اللهَ بالعقابِ العاجلِ والآجلِ، ومِن تمامِ البشارةِ والنَّذارةِ: بيانُ الأعمالِ والأخلاقِ الَّتي يبشَّرُ بها وينذرُ، فهوَ المبينُ للخيرِ والشَّرِّ، والسَّعادةِ والشَّقاوةِ، والحقِّ مِن الباطلِ، ولهذا رتَّبَ على ذلكَ
– الشيخ : يعني هوَ المبلِّغُ لأسبابِ البشارةِ والسَّعادةِ وأسبابِ النَّذارة، أسباب الشِّقوة، فيلزمُ من أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بشيرٌ ونذيرٌ أنْ يبيِّنَ الأسبابَ الموصِلةَ لاستحقاقِ البشارةِ، والأسبابَ المفضيةَ إلى ما يوجبُ النَّذارةَ والتَّحذيرَ والإنذارَ، فهو مبلِّغٌ للشَّرائع ومبلِّغٌ للجزاء، للأوامرِ والنَّواهي وما يترتَّبُ على امتثال الأوامرِ واجتنابِ المناهي وما يترتَّبُ على خلاف ذلك.
– القارئ : ولهذا رتَّبَ على ذلكَ قولَهُ: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: بسببِ دعوةِ الرَّسولِ لكم، وتعليمِهِ لكم ما ينفعُكم، أرسلْناهُ لتقومُوا بالإيمانِ باللهِ ورسولِهِ، المستلزِمِ ذلكَ لطاعتِهما في جميعِ الأمورِ.
{وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} أي: تُعَزِّرُوا الرَّسولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، {وَتُوَقِّرُوهُ} أي: تُعظِّمُوهُ وتُجِلُّوهُ، وتقومُوا بحقوقِهِ، كما كانَتْ لهُ المنَّةُ العظيمةُ برقابِكم، {وَتُسَبِّحُوهُ} أي: تسبِّحُوا للهِ {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أوَّلَ النَّهارِ وآخرَهُ، فذكرَ اللهُ في هذهِ الآيةِ الحقَّ المشترَكَ بينَ اللهِ وبينَ رسولِهِ، وهوَ الإيمانُ بهما، والمختصُّ بالرَّسولِ، وهوَ التَّعزيرُ والتَّوقيرُ، والمُختَصِّ باللهِ، وهوَ التَّسبيحُ لهُ والتَّقديسُ بصلاةٍ أو غيرِها.
– الشيخ : هذه تنبيهةٌ حسنةٌ وهو أنَّ الحقوقَ منها ما هو مختَصٌّ بالله، ومنها ما هو مختَصٌّ بالرَّسول، ومنها ما هو مشترَكٌ، فالإيمانُ والطَّاعةُ لله ورسوله، والعبادةُ والخشيةُ والتَّسبيحُ لله وحدَه، والمحبَّةُ للهِ ورسولِهِ، ففي هذه الآيةِ ذكرَ اللهُ الأمرَ المشتركَ وهو الإيمانُ بالله ورسوله، والمختصُّ بالرَّسول وهو التَّعزيرُ والتَّوقيرُ، والتَّسبيحُ وهو المختصُّ بالله سبحانه {وَتُسَبِّحُوهُ}، فهذه الضَّمائرُ منها ما يعودُ إلى الرَّسول، ومنها ما يعودُ إلى الله، وفي ذلك خلافٌ بينَ المفسِّرينَ.
– القارئ : قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} الآيةَ.
هذهِ المبايعةُ الَّتي أشارَ اللهُ إليها هيَ "بيعةُ الرِّضوانِ" الَّتي بايعَ الصَّحابةُ -رضيَ اللهُ عنهم- فيها رسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ألَّا يفرُّوا عنهُ، فهيَ عقدٌ خاصٌّ مِن لوازمِهِ ألَّا يفِرُّوا، ولو لم يبقَ منهم إلَّا القليلُ، ولو كانُوا في حالٍ يجوزُ الفرارُ فيها، فأخبرَ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} حقيقةُ الأمرِ أنَّهم {يُبَايِعُونَ اللَّهَ} ويعقدونَ العقدَ معَهُ، حتَّى إنَّهُ مِن شدَّةِ تأكُّدِهِ أنَّهُ قالَ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي: كأنَّهم بايعُوا اللهَ وصافحُوهُ بتلكَ المبايعةِ، وكلُّ هذا لزيادةِ التَّأكيدِ والتَّقويةِ، وحملِهم على الوفاءِ بها، ولهذا قالَ: {فَمَنْ نَكَثَ} فلم يَفِ بما عاهدَ اللهَ عليهِ {فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أي: لأنَّ وبالَ ذلكَ راجعٌ إليهِ، وعقوبتَهُ واصلةٌ لهُ، {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} أي: أتى بهِ كاملًا مُوفرًّا، {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} لا يعلمُ عظمَهُ وقدرَهُ إلَّا الَّذي آتاهُ إيَّاهُ.
– الشيخ : إلى هنا.