بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الفتح
الدَّرس: الرَّابع
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ:
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:15-17]
– الشيخ : إلى هنا، سبحانَ اللهِ.
الحمدُ لله، كذلكَ يخبرُ اللهُ عن المخلَّفين المتخلِّفين عنه في عمرةِ الحديبيةِ كما تقدَّمَ أنَّهم جاؤُوا يعتذرونَ يقولون: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:11] فهؤلاءِ أيضًا يخبرُ اللهُ عنهم أنَّهم {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ} إذا انطلقَ المسلمونَ إلى غزوةِ خيبر فإنَّ اللهَ وعدَهم ذلكَ، {إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} يقولُ هؤلاء المخلَّفون، يقولون للرَّسول والصَّحابة: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} يعني: نغزو معَكم، وقد أخبرَ سبحانه وتعالى أنَّهم لا يتَّبعونهم، قالَ اللهُ: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} يعني: أخبرَ اللهُ من قبل أنَّهم لا يتَّبعونهم، وقالوا: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أيضًا لما قيلَ لهم: لا تتَّبعونا، أو لن تتَّبعونا، قالوا: إنَّكم تحسدوننا، تَحْسُدُونَنَا أنْ نشاركَكم في المغانمِ.
{بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} وإنَّما قالوا مثلَ هذه الأقوالِ لعدم فقهِهم، فالفقهُ والعقلُ والدِّينُ يمنعُ من الأقوالِ والأفعالِ الذَّميمةِ، وإذا قَلَّ الفقهُ وقعَ الإنسانُ في التَّخبُّطِ في الأقوالِ والأفعالِ، (مَن يُردِ اللهُ بهِ خيرًا يفقِّهْهُ في الدِّينِ)، {بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا}
قالَ تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ} هذا خبرٌ أيضًا من الله، أمرَ اللهُ نبيَّهُ أن يبلِّغَه لأولئك المخلَّفين من الأعرابِ يقولُ: {سَتُدْعَوْنَ} في المستقبلِ {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} قالَ المفسِّرونَ: إنَّ هذا دعوةُ الخلفاءِ الرَّاشدين لقتالِ المرتدِّين وقتالِ سائرِ الكفَّار كالفرس والرُّوم، وقد دعا أبو بكرٍ إلى قتالِ المرتدِّين فقاتلَهم وقاتلَهم معَه الصَّحابةُ -رضيَ اللهُ عنهم-، وكذلكَ دعا عمرُ وعثمانُ إلى قتالِ الفرسِ والرُّومِ ففتحوا الفتوحَ بتوفيقِ اللهِ {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} {تُقَاتِلُونَهُمْ} إذا أبَوا أنْ يُسلِموا، {أَوْ يُسْلِمُونَ} فتكفُّون عن قتالهم، {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}.
{فَإِنْ تُطِيعُوا} إذا دُعِيْتُم إلى الجهادِ {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وفي هذا ترغيبٌ وترهيبٌ، ترغيبٌ في الجهادِ وتحذيرٌ من التَّولِّي عنهُ، {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}
ثمَّ ذكرَ سبحانه وتعالى بعضَ الأعذارِ الَّتي يُعذَرُ بها الإنسانُ إذا قعدَ عن الجهاد كالعمى والعرجِ والمرضِ {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} يعني: في التَّخلُّفِ عن الجهادِ؛ لأنَّها عوائقٌ، الأعمى ظاهرٌ، والأعرجُ كذلك والمريضُ، كلُّ هذه أعذارٌ، فلا حرجَ عليهم في قعودِهم عن الجهادِ.
قالَ اللهُ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} في هذا بشارةٌ وإنذارٌ، بشارةٌ للمطيعين المؤمنين، وإنذارٌ للعاصين القاعدين المتخلِّفين عن الجهادِ معَ الرَّسولِ -صلَّى الله عليه وسلَّمَ-. نعم يا محمَّد
– طالب: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ}
– الشيخ : يريدون أنْ يبدِّلوا ما أخبرَ اللهُ عنهم بأنَّهم لا يتَّبعونهم، يعني: أخبرَ اللهُ من قبل بأنَّهم لا يتَّبعونهم ولا يكونون معَهم، فلمَّا أرادَ الصَّحابةُ أن يغزوا قالوا: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} يعني: قالَ اللهُ من قبل: إنَّكم لا تتَّبعوننا.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ} الآيةَ:
لمَّا ذكرَ تعالى المُخلَّفينَ وذمَّهم، ذكرَ أنَّ مِن عقوبتِهم الدُّنيويَّةِ، أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وأصحابَهُ إذا انطلقُوا إلى غنائمَ لا قتالَ فيها ليأخذُوها، طلبُوا منهم الصُّحبةَ والمشاركةَ، ويقولونَ: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ} بذلكَ {أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} حيثُ حكمَ بعقوبتِهم، واختصاصُ الصَّحابةِ المؤمنينَ بتلكَ الغنائمِ شرعًا وقَدَرًا. {قُلْ} لهم {لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} إنَّكم محرومونَ منها بما جنيْتُم على أنفسِكم، وبما تركْتُم القتالَ أوَّلَ مرَّةٍ.
{فَسَيَقُولُونَ} مجيبينَ لهذا الكلامِ، الَّذي مُنِعُوا بهِ عن الخروجِ: {بَلْ تَحْسُدُونَنَا} على الغنائمِ، هذا مُنتَهى علمِهم في هذا الموضعِ، ولو فهمُوا رشدَهم، لعلمُوا أنَّ حرمانَهم بسببِ عصيانِهم، وأنَّ المعاصي لها عقوباتٌ دنيويَّةٌ ودينيَّةٌ، ولهذا قالَ: {بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلًا}.
قالَ اللهُ تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ} الآياتَ.
لمَّا ذكرَ تعالى أنَّ المُخلَّفينَ مِن الأعرابِ يتخلَّفونَ عن الجهادِ في سبيلِهِ، ويعتذرونَ بغيرِ عذرٍ، وأنَّهم يطلبونَ الخروجَ معَهم إذا لم يكنْ شوكةٌ ولا قتالٌ، بل لمجرَّدِ الغنيمةِ، قالَ تعالى مُمتحِنًا لهم: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي: سيدعوكم الرَّسولُ ومَن نابَ منابَهُ مِن الخلفاءِ الرَّاشدينَ والأئمةِ، وهؤلاءِ القومُ فارسُ والرُّومُ ومَن نحا نحوَهم وأشبَههم.
{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أي: إمَّا هذا وإمَّا هذا، وهذا هوَ الأمرُ الواقعُ، فإنَّهم في حالِ قتالِهم ومقاتلتِهم لأولئكَ الأقوامِ، إذْ كانَتْ شِدَّتُهم وبأسُهم معَهم، فإنَّهم في تلكَ الحالِ لا يقبلونَ أنْ يَبذلوا الِجزيةَ، بل إمَّا أنْ يدخلوا في الإسلامِ، وإمَّا أنْ يُقاتَلوا على ما هم عليهِ، فلمَّا أثخنَهم المسلمونَ، وضعفُوا وذلُّوا، ذهبَ بأسُهم، فصارُوا إمَّا أنْ يُسلِمُوا، وإمَّا أنْ يَبذلُوا الجزيةَ، {فَإِنْ تُطِيعُوا} الدَّاعيَ لكم إلى قتالِ هؤلاءِ {يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} وهوَ الأجرُ الَّذي رتَّبَهُ اللهُ ورسولُهُ على الجهادِ في سبيلِ اللهِ، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} عن قتالِ مَن دعاكم الرَّسولُ إلى قتالِهِ، {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} ودلَّتْ هذهِ الآيةُ على فضيلةِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ، الدَّاعينَ لجهادِ أهلِ البأسِ مِن النَّاسِ، وأنَّهُ تجبُ طاعتُهم في ذلكَ.
ثمَّ ذكرَ الأعذارَ الَّتي يُعذَرُ بها العبدُ عن الخروجِ إلى الجهادِ، فقالَ: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أي: في التَّخلُّفِ عن الجهادِ؛ لعذرَهم المانعُ.
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في امتثالِ أمرِهما، واجتنابِ نهيهما {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} فيها ما تشتهيهِ الأنفسُ، وتَلَذُّ الأعينُ، {وَمَنْ يَتَوَلَّ} عن طاعةِ اللهِ ورسولِهِ {يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} فالسَّعادةُ كلُّها في طاعةِ اللهِ، والشَّقاوةُ في معصيتِهِ ومخالفتِهِ.
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ}
– الشيخ : أحسنْتَ أحسنْتَ، باركَ اللهُ بك.