الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الفتح/(5) من قوله تعالى {لقد رضي الله عن المؤمنين} الآية 18 إلى قوله تعالى {وأخرى لم تقدروا عليها} الآية 21
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(5) من قوله تعالى {لقد رضي الله عن المؤمنين} الآية 18 إلى قوله تعالى {وأخرى لم تقدروا عليها} الآية 21

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الفتح

الدَّرس: الخامس

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الفتح:18-21]

– الشيخ : إلى هنا.

الحمدُ للهِ، يخبرُ تعالى في هذه الآياتِ عن رضاهُ عن أصحابِ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلَّمَ- الَّذين بايعُوه تحتَ الشَّجرةِ تحديدًا، تحتَ الشَّجرةِ، في تحديدِ المكانِ، وبهذا يُعلَمُ أنَّ المرادَ هذه البيعةُ الَّتي تمَّتْ تحتَ الشَّجرةِ، {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} شجرةٌ معهودةٌ عندَهم، كانَ النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- جالسًا في ظلِّها، فلمَّا دعاهم إلى البيعة بايعُوه وهو تحتَ الشَّجرةِ، رضوانُ اللهِ عليهم.

فبايعُوه على القتالِ حتَّى الموتِ، أو على ألَّا يفرُّوا، هكذا جاءَ في الرِّوايات، يعني: بايعوه بيعةً صادقةً عن تصميمٍ وعن عزمٍ صادقٍ وعن يقينٍ وإيمانٍ، رضيَ اللهُ عنهم، ولهذا أكرمَهم اللهُ هذه الكرامةَ، {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ولهذا سُمِّيَتْ هذه البيعةُ: بيعة الرِّضوانِ، معروفةٌ عندَ المسلمين، بيعةُ الرِّضوانِ {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الإيمانِ والصِّدقِ والعزمِ على نصرةِ الله ورسوله وقتالِ أعدائِه.

{فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أنزلَ عليهم الطُّمأنينةَ وثبَّتَهم فلم يقلقوا ولم يبدِّلوا ولم يغيِّروا بل داموا على تصميمِهم وعلى عزمِهم الصَّادقِ {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} وهو صلحُ الحديبيةِ الَّذي تمَّ بعدَ ذلكَ، بعدَ هذهِ البيعةِ قدَّرَ اللهُ أنْ يجريَ الصُّلحُ بينَ الرَّسولِ -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- وبينَ المشركين، {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} مغانمَ يأخذونها فيما يُستقبَلُ من الزَّمان في قتالِهم لأعداءِ اللهِ من العربِ والعجمِ.

{فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} فهو العزيزُ لا يغلبُه غالبٌ، بل هو القويُّ الغالبُ سبحانه وتعالى، فلا بدَّ أن تكونَ الغلبةُ لأوليائِه، قالَ اللهُ: {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} وهو الحكيمُ في تدبيره وتقديرِه وشرعِه.

{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} وأوَّلُ مغانمَ تحقَّقَتْ لهم بعدَ هذا الوعدِ غنائمُ خيبر، فإنَّ اللهَ وعدَهم ذلكَ وأوفى -سبحانه وتعالى- بوعده وهو الَّذي لا يخلفُ الميعادَ.

{فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} كفَّ اللهُ أيدي المشركين عنهم، وكفَّ أيدي الكافرين عن المؤمنين في مواضعَ كثيرةٍ {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25] فاللهُ تعالى كفَّ أيدي الكفَّارِ عن المؤمنين ونصرَهم ونصرَ اللهُ أولياءَه على أعدائِه {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} وكلُّ ما يحصلُ من النَّصر والغلبةِ للمؤمنين القلَّة على الكافرين وهم الكثرةُ هو آيةٌ من آياتِ اللهِ الدَّالَّةِ على قدرتِه وحكمتِه سبحانَه وتعالى {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} فلا يعجزُه شيءٌ، وهو قادرٌ على نصرِه لأوليائِه في كلِّ المواطنِ وبآياتٍ عجيبةٍ كما نصرَ رسلَه من قبلُ {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} [الصافات:171-172]

 

 (تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:

{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآياتَ:

يخبرُ تعالى بفضلِهِ ورحمتِهِ، برضاهُ عن المؤمنِينَ إذْ يبايعونَ الرَّسولَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- تلكَ المبايعةَ الَّتي بيَّضَتْ وجوهَهم

– الشيخ : نعم بيَّضَتْ وجوهَهم؛ لأنَّها بيعةٌ تدلُّ على صدقِ إيمانِهم ووفائِهم ورغبتِهم في نصرِ اللهِ ورسولِه ودينِه.

– القارئ : واكتسبُوا بها سعادةَ الدُّنيا والآخرةِ

– الشيخ : اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، يا لها من بيعةٍ عظيمةٍ! وكلَّما عظمَ الثَّوابُ دلَّ ذلكَ على كمالِ العملِ وصلاحِه، فلعظمِ شأنِ هذه البيعة كانَ ثوابُها رضوانَ اللهِ عنهم، ومن رضيَ اللهُ عنه فقد فازَ إلى الأبد، فازَ فوزًا عظيمًا.

 

– القارئ : وكانَ سببُ هذهِ البيعةِ -الَّتي يُقالُ لها: "بيعةُ الرِّضوانِ"؛ لرضا اللهِ عن المؤمنِينَ فيها، ويُقالُ لها: "بيعةُ أهلِ الشَّجرةِ"- أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- لمَّا دارَ الكلامُ بينَهُ وبينَ المشركينَ يومَ الحديبيةِ في شأنِ مجيئِهِ، وأنَّهُ لم يجِئْ لقتالِ أحدٍ، وإنَّما جاءَ زائرًا هذا البيتَ، معظِّمًا لهُ، فبعثَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- عثمانَ بنَ عفَّانَ لمكَّةَ في ذلكَ، فجاءَ خبرٌ غيرُ صادقٍ أنَّ عثمانَ قتلَهُ المشركونَ، فجمعَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مَن معَهُ مِن المؤمنِينَ، وكانُوا نحوًا مِن ألفٍ وخمسمائةٍ، فبايعُوهُ تحتَ شجرةٍ على قتالِ المشركينَ، وألَّا يفرُّوا حتَّى يموتوا، فأخبرَ تعالى أنَّهُ رضيَ عن المؤمنينَ في تلكَ الحالِ الَّتي هيَ مِن أكبرِ الطَّاعاتِ وأجلِّ القُرُباتِ

– الشيخ : اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ

– القارئ : {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} مِن الإيمانِ، {فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} شكرًا لهم على ما في قلوبِهم، زادَهم هدىً، وعلمَ ما في قلوبِهم مِن الجَزَعِ مِن تلكَ الشُروطِ الَّتي شرطَها المشرِكونَ على رسولِهِ، فأنزلَ السَّكينةَ عليهم تثبِّتُهم، وتطمئنُّ بها قلوبُهم، {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} وهو: فتحُ خيبرَ، لم يحضرْهُ سوى أهلُ الحديبيةِ، فاختصُّوا بخيبرَ وغنائمِها، جزاءً لهم، وشكرًا على ما فعلُوهُ مِن طاعةِ اللهِ تعالى والقيامِ بمرضاتِهِ.

{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} أي: لهُ العزَّةُ والقدرةُ، الَّتي قهرَ بها الأشياءَ، فلو شاءَ لانتصرَ مِن الكفَّارِ

– الشيخ : كما قالَ تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4] فللهِ الحكمةُ البالغةُ، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فشرعَ اللهُ للمؤمنين قتالَ أعدائِه وقدَّرَ سبحانه وتعالى أنَّ الكفَّارَ يحاربون المسلمين ويعادونهم لتحقُّقِ حكمةِ اللهِ من الابتلاء، ابتلاءُ المؤمنين بالكفَّار والكفَّار بالمؤمنين، {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4] اللهُ بيَّنَ حكمةَ ذلكَ كلِّه.

 

– القارئ : {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} أي: لهُ العزَّةُ والقدرةُ الَّتي قهرَ بها الأشياءَ، فلو شاءَ لانتصرَ مِن الكفَّارِ في كلِّ وقعةٍ تكونُ بينَهم وبينَ المؤمنينَ، ولكنَّهُ حكيمٌ يبتلي بعضَهم ببعضٍ، ويمتحنُ المؤمنَ بالكافرِ.

{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} وهذا يشملُ كلَّ غنيمةٍ غَنِمَها المسلمونَ إلى يومِ القيامةِ، {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} أي: غنيمةَ خيبرَ، أيْ: فلا تحسبُوها وحدَها، بل ثَـمَّ شيءٌ كثيرٌ مِن الغنائمِ سيتبعُها، {وَ} احمدُوا اللهَ إذْ {كفَّ أَيْدِي النَّاسِ} القادرِينَ على قتالِكم، الحريصينَ عليهِ {عَنْكُمْ} فهيَ نعمةٌ وتخفيفٌ عنكم.

{وَلِتَكُونَ} هذهِ الغنيمةُ {آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} يستدلُّونَ بها على خبرِ اللهِ الصَّادقِ، ووعدِهِ الحقِّ، وثوابِهِ للمؤمنينَ، وأنَّ الَّذي قدَّرَها سيُقدِّرُ غيرَها، {وَيَهْدِيَكُمْ} بما يُقيِّضُ لكم مِن الأسبابِ {صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} مِن العلمِ والإيمانِ والعملِ.

{وَأُخْرَى} أيْ: وعدَكُم أيضًا غنيمةً أخرى {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} وقتَ هذا الخطابِ، {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} أيْ: هوَ قادرٌ عليها، وتحتَ تدبيرِهِ وملكِهِ، وقد وَعَدَكُمُوهَا، فلا بدَّ مِن وقوعِ ما وعدَ بهِ؛ لكمالِ اقتدارِ اللهِ تعالى، ولهذا قالَ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}.

{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ}.

– الشيخ : إلى هنا.