بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الفتح
الدَّرس: السَّادس
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الفتح:22-26]
– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله.
الحمدُ لله، تقدَّمَ أنَّ الرَّسولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بايعَ أصحابَه على قتال المشركين وبايعوه على ألَّا يفرُّوا، وبعضُهم يقولُ: بايعْناهُ على الموت، يعني: نقاتلُ حتَّى الموت، ثمَّ قدَّرَ اللهُ أنْ يحصلَ الصُّلحُ بينَ المسلمين والمشركين ولم يكنْ هناك قتالٌ، ما كانَ هناك قتالٌ.
فاللهُ يخبرُ في هذه الآيةِ أنَّه لو حصلَ قتالٌ، لو قاتلَ الكفَّارُ المسلمين {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} فاللهُ يخبرُ عن أمرٍ يعلمُ أنَّه لا يقعُ؛ لأنَّه لو وقعَ لكانَ على هذا الوجهِ، لو وقعَ قتالٌ من الكفَّار للمسلمين {لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} أي: لانهزمَ الكفَّارُ وولَّوا على أدبارهم خاسئين، {ثُمَّ لَا يَجِدُونَ} من ينصرُهم أو يرحمُهم أو يتولَّى شؤونَهم، {ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}
ثمَّ أخبرَ أنَّ هذه سنَّةُ اللهِ في شأن أعدائِه معَ أوليائِه، أن ينصرَ أولياءَه وحزبَه كالنَّبيِّين والمرسلين والمؤمنين وأتباعهم، معَ أعدائِه من الكافرين والمشركين، هذه سنَّةُ اللهِ أن يجعلَ الدَّائرةَ على الكفَّار، وإنْ جرتْ حربٌ انهزمَ الكفَّارُ ولولَّوا مدبِرينَ، كما جاءَ في أخبارٍ كثيرةٍ وقصصٍ كثيرةٍ، وما التقى المسلمون معَ الكفَّار إلَّا كانَتْ الهزيمةُ على الكافرين إلَّا في حالاتٍ قليلةٍ لأسبابٍ وقعَتْ {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا…} [التوبة:25] الآيةَ، فهذه سنَّةُ اللهِ في شأن أوليائِه معَ أعدائِه.
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} فكفَّ اللهُ أيديَ الكفَّار عن المسلمين، وأيديَ المسلمين عن الكفَّار، وجرى -بحمدِ الله- ذلكَ الصُّلحُ الَّذي سمَّاه اللهُ فتحًا.
ثمَّ قالَ تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} هؤلاء المشركون من أهل مكَّة من قريشٍ ومن لفَّ لفَّهم هؤلاء كفروا بالله وصدُّوا عن سبيله وصدُّوا عن المسجد الحرامِ {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} كفروا بالله وبرسوله وأشركُوا بالله فهذا هو السَّببُ في أنَّهم لا يُنصَرون، بل سنَّةُ اللهِ فيهم الهزيمةُ، وإنزالُ الشَّرِّ بهم، وإنزالُ العذابِ بهم.
{وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} صدُّوا المسلمين، فهذا ذنبٌ عظيمٌ مضافًا إلى كفرِهم، صدُّوا الرَّسولَ وأصحابَه وهم أحقُّ بالبيت وأحقُّ بالحرم {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34] أولياءُ البيتِ هم المتَّقون المؤمنون المصلِحون، هم أحقُّ بولايةِ البيتِ، لا المشركونَ الَّذين يعبدون معَ اللهِ غيرَهُ وقد نصبوا الأصنامَ حولَ الكعبةِ، ليسوا أولياءَ البيتِ هؤلاء ليسوا أولياءَ البيتِ، أولياءُ البيتِ هم المؤمنون المتَّقون، فالرَّسولُ وأصحابُه هم أحقُّ بالبيت، ومعَ ذلك هؤلاء الكفَّار صدُّوا الرَّسولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما جاءَ لقتالٍ، ما جاءَ إلَّا مُعَظِّمًا للبيت، ما جاءَ إلَّا معظِّمًا للبيت؛ ليطوفَ به ويصلِّيَ فيه، وقد جاءَ الرَّسولُ وأصحابُه بهدي معَهم؛ ليُذبَحَ في الحرم، فصدَّ المشركون المسلمين وصدُّوا الهديَ -أيضًا- عن أنْ يبلغَ محلَّه {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}.
ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّ من حكمته تعالى في عدم وقوعِ القتالِ أنَّه كانَ بين المشركين رجالٌ ونساءٌ مؤمنون، بينَهم بينَ المشركون في مكَّةَ رجالٌ ونساءٌ مؤمنون، فمن رحمةِ اللهِ أنَّه لم يحصلْ قتالٌ، لو حصلَ قتالٌ لقتل المسلمون إخوانهم من حيثُ لا يشعرون {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} لو حصلَ القتالُ ثمَّ قتلَ المسلمون بعضَ أولئك المقيمينَ بمكَّة من المستضعَفين من رجالٍ ونساءٍ لحصلَ حرجٌ على المسلمين ومشقَّةٌ أنَّهم أصابُوا إخوانَهم. {أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}
{لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} يعني: فعلَ ذلكَ كلَّه لِيُدْخِلَ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ.
{لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ} يعني: لو تميَّزَ هؤلاءِ الرِّجالُ والنِّساءُ المؤمنون، لو تميَّزوا وانفصلُوا واستقلُّوا عن اختلاطهم بالمشركين بمكَّة لعذَّبَ اللهُ الكفَّارَ وسلَّطَ عليهم المسلمون بالقتال؛ حتَّى يعذِّبَهم اللهُ بأيدي المسلمين يعذِّبُهم اللهُ {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} الحميَّةُ: العصبيَّةُ والأنفةُ والكِبرُ، فما حملَ المشركين على صدِّ المسلمين عن البيتِ إلَّا التَّعصُّبَ والكِبرَ أن يسمحوا، يرون فيه غضاضةً عليهم أنْ يسمحوا للمسلمين يدخلوا مكَّة، يرونَ ذلك مذلَّةً عليهم ونقصًا في حقِّهم، فحملَهم التَّعصُّبُ والحميَّةُ الجاهليَّةُ على صدِّ المسلمين عن دخول الحرمِ {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} فأنزلَ اللهُ الطَّمأنينةَ والسَّكينةَ في قلبِ نبيِّه وفي قلوب المؤمنين فاستجابوا للصُّلح وعلموا أنَّه خيرٌ وأنَّه فيه خيرٌ للمسلمين ونصرٌ للإسلام والمسلمين.
{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} وهي كلمةُ التَّوحيدِ {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} فدامُوا عليها واستقاموا عليها وثبتُوا عليها {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآياتَ:
هذهِ بشارةٌ مِن اللهِ لعبادِهِ المؤمنينَ، بنصرِهم على أعدائِهم الكافرينَ، وأنَّهم لو قابلُوهم وقاتلُوهم {لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا} يتولَّى أمرَهم، {وَلا نَصِيرًا} ينصرُهم ويعينُهم على قتالِكم، بل هم مخذولونَ مغلوبونَ وهذهِ سنَّةُ اللهِ في الأممِ السَّابقةِ، أنَّ جندَ اللهِ هم الغالبونَ {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا}.
– الشيخ : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] هذا سبقَ في علم اللهِ وكتابه، في كلماتِه أنَّ النَّصرَ لرسلِه والغلبةَ لجندِه، قالَ اللهُ: {كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، وما يحصلُ من هزيمةٍ على المسلمين فلأسبابٍ تكون حصلتْ من بعضِهم أو من كثيرٍ منهم.
فالآنَ ما يعيشُه المسلمون في هذا العصرِ من ضعفٍ وذلَّةٍ وتسلُّطِ الكفَّارِ أمم الكفرِ ودول الكفرِ الكبرى إنَّما ذلك بسببِ تقصيرِ المسلمين في أمرِ دينِهم وعدمِ قيامِهم بما أوجبَ اللهُ عليهم من حكوماتٍ ومن شعوبٍ، فالحكوماتُ والشُّعوبُ كلُّها مفرِّطةٌ تفريطًا عظيمًا في دين اللهِ ومقصِّرةٌ، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]
فهذه الذِّلَّةُ الَّتي عليها المسلمون إنَّما أُتوا من أنفسِهم، {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] هذا من عند أنفسكم، ولما حصلَت الهزيمةُ على المسلمين في عهدِ النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوةِ أحد إنَّما كانَ ذلك بسببِ معصيةِ بعضِ الصَّحابةِ الَّذين عهدَ إليهم النَّبيُّ بأمرٍ ولكنَّهم لم يلتزموا بهِ {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران:152] {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155].
– القارئ : قالَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الآياتَ:
يقولُ تعالى ممتنًّا على عبادِهِ بالعافيةِ مِن شرِّ الكفَّارِ ومِن قتالِهم، فقالَ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ} أي: أهلَ مكَّةَ {عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} أي: مِن بعدِ ما قدرْتُم عليهم، وصارُوا تحتَ ولايتِكم بلا عقدٍ ولا عهدٍ، وهم نحوَ ثمانينَ رجلًا انحدرُوا على المسلمينَ لِيُصِيبُوا منهم غِرَّةً، فوجدُوا المسلمينَ منتبِهينَ فأمسكُوهم، فتركُوهم ولم يقتلُوهم، رحمةً مِن اللهِ بالمؤمنينَ إذْ لم يقتلُوهم، {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} فيجازي كلَّ عاملٍ بعملِهِ، ويدبِّرُكم أيُّها المؤمنونَ بتدبيرِهِ الحسنِ.
ثمَّ ذكرَ -تعالى- الأمورَ المهيِّجةَ على قتالِ المشركينَ، وهيَ كفرُهم باللهِ ورسولِهِ، وصدُّهم رسولَ اللهِ ومَن معَهُ مِن المؤمنينَ، أنْ يأتوا للبيتِ الحرامِ زائرينَ معظِّمينَ لهُ بالحجِّ والعمرةِ، وهم الَّذينَ أيضًا صدُّوا {الهدي مَعْكُوفًا} أي: محبوسًا {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} وهو مَحِلُّ ذبحِهِ وهوَ مكَّةُ، حيثُ تُذبَحُ هدايا العمرةِ، فمنعُوهُ مِن الوصولِ إليهِ ظلمًا وعدوانًا، وكلُّ هذهِ أمورٌ موجِبةٌ وداعيةٌ إلى قتالِهم، ولكنْ ثَمَّ مانعٌ وهوَ: وجودُ رجالٍ ونساءٍ مِن أهلِ الإيمانِ بينَ أظهرِ المشركينَ، وليسُوا متميِّزينَ بمحلَّةٍ أو مكانٍ يمكنُ ألَّا ينالَهم أذىً، فلولا هؤلاءِ الرِّجالُ المؤمنونَ، والنِّساءُ المؤمناتُ، الَّذين لا يعلمُهم المسلمونَ {أَنْ تَطَئُوهُمْ} أي: خشيةَ أنْ تَطَئُوهُمْ {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} والمعرَّةُ: ما يدخلُ تحتَ قتالِهم، مِن نيلِهم بالأذى والمكروهِ، وفائدةٌ أخرويَّةٌ، وهوَ: أنَّهُ {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} فيمُنَّ عليهم بالإيمانِ بعدَ الكفرِ، وبالهدى بعدَ الضَّلالِ، فيمنعُكم مِن قتالِهم لهذا السَّببِ.
{لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: لو زالُوا مِن بينِ أظهرِهم {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} بأنْ نبيحَ لكم قتالَهم، ونأذنَ فيهِ، وننصرَكم عليهم.
قالَ اللهُ تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ…} الآيةَ:
يقولُ تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} حيثُ أنِفُوا مِن كتابةِ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وأنِفُوا مِن دخولِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمؤمنينَ إليهم في تلكَ السَّنةِ، لئلَّا يقولَ النَّاسُ: "دخلُوا مكَّةَ قاهرينَ لقريشٍ"، وهذهِ الأمورُ ونحوها مِن أمورِ الجاهليَّةِ، لم تزلْ في قلوبِهم حتَّى أوجبَتْ لهم ما أوجبَتْ مِن كثيرٍ مِن المعاصي، {فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فلم يحملْهم الغضبُ على مقابلةِ المشركينَ بما قابلُوهم بهِ، بل صبرُوا لحكمِ اللهِ، والتزمُوا الشُّروطَ الَّتي فيها تعظيمُ حرماتِ اللهِ ولو كانَتْ ما كانَتْ، ولم يُبالُوا بقولِ القائلينَ، ولا لومِ اللَّائمينَ.
{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} وهيَ "لا إلهَ إلَّا اللهَ" وحقوقَها، ألزمَهم القيامَ بها، فالتزمُوها وقامُوا بها
– الشيخ : "ألزمَهم بها" يعني وفَّقَهم لها سبحانه وتعالى وثبَّتَهم عليها.
– القارئ : {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} مِن غيرِهم {وَ} كانُوا {أَهْلَهَا} الَّذين استأهلُوها
– الشيخ : "استأهلُوها" نعم مِن الأهليَّة، من الأهليَّة، هم أهلُها، هم أهلُ كلمةِ التَّقوى.
– القارئ : الَّذين استأهلُوها لِمَا يعلمُ اللهُ عندَهم وفي قلوبِهم مِن الخيرِ، ولهذا قالَ: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}.
– الشيخ : إلى هنا، باركَ اللهُ بكَ.