بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الحجرات
الدَّرس: الأوَّل
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:1-5]
– الشيخ : إلى هنا.
هذه سورةُ الحجراتِ، سُمِّيَتْ بذلك لقولِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ}، وهي مدنيَّةٌ، أي: نزلَتْ بعدَ الهجرةِ، كما هو المصطلحُ المعروفُ، وقد تضمَّنَتْ هذه السُّورةُ توجيهاتٍ وتعليماتٍ مِن اللهِ لعبادِه المؤمنين، إلى آدابٍ يتأدَّبون بها معَ الرَّسولِ ومعَ إخوانهم المؤمنين، وقد وردَ فيها هذا الخطابُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خمسَ مرَّاتٍ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تضمَّنَتْ وصيَّتَينِ: الأولى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} يعني: لا تتقدَّموا في الكلامِ والحكمِ والقولِ على الله ورسولِه، لا تقولوا حتَّى يقولَ، ولا تحكمُوا حتَّى يحكمَ. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} هذه هي الوصيَّةُ الجامعةُ الَّتي هيَ وصيَّةُ اللهِ للأوَّلين والآخرين {وَاتَّقُوا اللَّهَ} دائمًا هذه الوصيَّةُ تُفتتَحُ بها الوصايا الإلهيَّة، أو تُختتَمُ.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} سَمِيعٌ لأصواتِ العبادِ وهو أيضًا سميعٌ للدُّعاءِ {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] سبحانَهُ وتعالى، أي: يستجيبُ الدُّعاءَ، يسمعُ الدُّعاءَ، يسمعُ دعاءَ الدَّاعين ويستجيبُ، "سمعَ اللهُ لمن حمدَهُ".
وبعدَها أيضًا توجيهٌ آخرُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} نهيٌ للمؤمنين عن أن يرفعوا أصواتَهم بحضرةِ النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا سيما إذا كانَ يتكلَّمُ ويحدِّثُ، {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} عندَ مخاطبتِه: {لَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} كَما يجْهَرُ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ.
{أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} أي: لئلَّا تحبطَ، أو خشيةَ أن تحبطَ أعمالُكم {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}
ثمَّ أثنى اللهُ على الَّذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ بحضرة النَّبيِّ ويتأدَّبون بذلك الأدبِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} هؤلاء هم الَّذين طهَّرَ اللهُ قلوبَهم وأصلحَ قلوبَهم، وجعلَ فيها التَّقوى للهِ تعالى، كما تقدَّمَ في سورة "الفتح": {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح:26]، {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} وعدٌ كريمٌ من الله تعالى بالمغفرة والأجرِ العظيمِ، فبالمغفرةِ ينجون من العذابِ، وبالأجر العظيمِ ينالون النَّعيمَ والفوزَ العظيمَ {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]
ثمَّ ذكرَ وأنكرَ وذمَّ الَّذين كانوا يرفعون أصواتَهم في خطاب النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وينادون الرَّسولَ من بعدٍ بصوتٍ عالٍ: "يا محمَّدُ، يا محمَّدُ": {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} يُنَادُونَكَ: النِّداءُ هو الخطابُ بصوتٍ مرتفعٍ، "يا فلانُ، يا فلانُ" نداءٌ بصوتٍ عالٍ مرتفعٍ، {يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} في هذا ذمٌّ لهم بنقصِ العقلِ، بنقصِ العقلِ.
قال اللهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} صَبَرُوا وتركُوا النِّداءَ {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}، {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفي هذا وعدٌ لهؤلاء بالعذرِ والمغفرةِ، فلعلَّهم عُذِرُوا بسبب الجهلِ، بجهلِهم، خُتِمَتْ هذه الآيةُ بهذا الوعدِ الكريمِ، بهذين الاسمين الشَّريفين المتضمِّنين للمغفرةِ والرَّحمةِ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى-:
ولنسقْ قصَّةَ الحديبيةِ بطولِها، كما ساقَها الإمامُ شمسُ الدِّينِ ابنُ القيِّمِ في "الهدي النَّبويِّ" فإنَّ فيها إعانةً على فهمِ هذهِ السُّورةِ، وتكلُّمٍ على معانيها وأسرارِها، قالَ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:
فَصْلٌ فِي قِصّةِ الْحُدَيْبِيَةِ:
قَالَ نافعٌ: كَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وقتادةَ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ومحمَّدِ بنِ إسحاقَ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ فِي رَمَضَانَ، وَكَانَتْ فِي شَوَّالٍ، وَهَذَا وَهْمٌ، وَإِنَّمَا كَانَتْ غَزَاةُ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ، قَالَ أبو الأسودِ عَنْ عروةَ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، عَلَى الصَّوَابِ.
وَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ أنس أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلَّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ». فَذَكَرَ مِنْهنَّ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَكَانَ مَعَهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، هَكَذَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ جابر وَعَنْهُ فِيهِمَا: "كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ"، وَفِيهِمَا: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: " كُنَّا أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ". قَالَ قتادةُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: كَمْ كَانَ الجماعةُ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ؟ قَالَ: خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةٍ. قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ. قَالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، وهمَ، هُوَ حَدَّثَنِي أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةٍ.
قُلْتُ: صَحَّ عَنْ جابرٍ الْقَوْلَانِ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُمْ نَحَرُوا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَبْعِينَ بَدَنَةً، الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ بِخَيْلِنَا وَرَجْلِنَا. يَعْنِي: فَارِسَهُمْ وَرَاجِلَهُمْ، وَالْقَلْبُ إِلَى هَذَا أَمْيَلُ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَقَوْلُ المسيَّبِ بنِ حزنٍ: قَالَ شعبةُ: عَنْ قتادةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ»
وَغَلِطَ غَلَطًا بَيِّنًا مَنْ قَالَ: كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ، وَعُذْرُهُ أَنَّهُمْ نَحَرُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَالْبَدَنَةُ قَدْ جَاءَ إِجْزَاؤُهَا عَنْ سَبْعَةٍ وَعَنْ عَشَرَةٍ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْبَدَنَةَ كَانَتْ فِي هَذِهِ الغزوةِ عَنْ سَبْعَةٍ، فَلَوْ كَانَتِ السَّبْعُونَ عَنْ جَمِيعِهِمْ لَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ وَتِسْعِينَ رَجُلًا، وَقَدْ قَالَ بتَمَامِ الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ: إِنَّهُمْ "كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ".
فَصْلٌ: فَلَمّا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ خُزَاعَةَ يُخْبِرُهُ عَنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ عُسْفَانَ أَتَاهُ عَيْنُهُ فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كعبَ بنَ لؤي قَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ، وَجَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ، وَاسْتَشَارَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصْحَابَهُ: (أَنْ نَمِيلَ إِلَى ذَرَارِيِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ، فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ محزونينَ، وَإِنْ نجَوا تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللَّهُ، أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ، فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ؟) قَالَ أبو بكرٍ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، إِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَلَمَ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ مَنْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَرُوحُوا إِذًا) فَرَاحُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
– الشيخ : أشارَ رضي اللهُ عنه بالرَّأي السَّديدِ، أشارَ بالرَّأي السَّديد؛ لأنَّهم خرجوا معتمِرين فلا يقاتلون إلَّا من حالَ بينَهم وبينَ البيتِ
– القارئ : حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ)، فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خالدٌ حَتَّى إِذَا هُو بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ
– الشيخ : قَتَرَةِ؟
– القارئ : نعم
– الشيخ : غبارٌ
– القارئ : فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيِّةِ الَّتِي يَهْبِطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ. فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ). ثُمَّ قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّه إِلَّا أَعْطَيْتُمُوهَا)، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ بِهِ، فَعَدَلَ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمـَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ إِنَّمَا يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يُلْبِثْهُ النَّاسُ أَنْ نَزَحُوهُ، فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعَطَشَ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ.
وَفَزِعَتْ قُرَيْشٌ لِنُزُولِهِ عَلَيْهِمْ، فَأَحَبَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَدَعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لِيَبْعَثَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ بِمَكَّةَ مِنْ بَنِي كَعْبٍ أَحَدٌ يَغْضَبُ لِي إِنْ أُوذِيْتُ، فَأَرْسِلْ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَإِنَّ عَشِيرَتَهُ بِهَا، وَإِنَّهُ مُبَلِّغٌ مَا أَرَدْتَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَأَرْسَلَهُ إِلَى قُرَيْشٍ وَقَالَ: (أَخْبِرْهُمْ أَنَّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالٍ، إِنَّمَا جِئْنَا عُمَّارًا، وَادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ)، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ رِجَالًا بِمَكَّةَ مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٍ فَيَدْخُلَ عَلَيْهِمْ وَيُبَشِّرَهُمْ بِالْفَتْحِ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- مُظْهِرٌ دِينَهُ بِمَكَّةَ، حَتَّى لَا يُسْتَخْفَى فِيهَا بِالْإِيمَانِ، فَانْطَلَقَ عثمانُ فَمَرَّ عَلَى قُرَيْشٍ بِبَلْدَحَ فَقَالُوا: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ وَيخْبِرُكُمْ أَنَّا لِمَ نَأْتِ لِقِتَالٍ، وَإِنَّمَا جِئْنَا عُمَّارًا. فَقَالُوا: قَدْ سَمِعْنَا مَا تَقُولُ، فَانْفُذْ لِحَاجَتِكَ، وَقَامَ إِلَيْهِ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ فَرَحَّبَ بِهِ وَأَسْرَجَ فَرَسَهُ، فَحَمَلَ عثمانُ عَلَى الْفَرَسِ، فأَجَارَهُ، وَأَرْدَفَهُ أَبَانٌ حَتَّى جَاءَ مَكَّةَ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ عثمانُ: خَلَصَ عثمانُ قَبْلَنَا إِلَى الْبَيْتِ وَطَافَ بِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا أَظُنُّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ وَنَحْنُ مَحْصُورُونَ). فَقَالُوا: وَمَا يَمْنَعُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ خَلَصَ؟ قَالَ: (ذَاكَ ظَنِّي بِهِ أَلَّا يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ
– الشيخ : اللهُ أكبرُ، الله أكبر، فضيلةٌ لعثمانَ -رضي الله عنه- وهذا هو اللَّائقُ بمنزلة عثمان وإيمانه وتعظيمه، ما كان ليطوفَ بالبيتِ والرَّسولُ محصورٌ خارجَ مكَّة، وقد صدقَ ظنُّ النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعثمان وقد دعاه أهلُ مكَّة ليطوفَ ولكنَّه أبى قالَ: "ما كنْتُ لأطوفَ بالبيتِ ورسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحصرِ".
– القارئ : قَالَ: (ذَاكَ ظَنِّي بِهِ أَلَّا يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ حَتَى نَطُوفَ مَعَهُ)
وَاخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمُشْرِكِينَ فِي أَمْرِ الصُّلْحِ، فَرَمَى رَجُلٌ مِنْ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ رَجُلًا مِنَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَكَانَتْ مَعْرَكَةً، وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، وَصَاحَ الْفَرِيقَانِ كِلَاهُمَا، وَارْتَهَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِمَنْ فِيهِمْ، وَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ عثمانَ قَدْ قُتِلَ، فَدَعَا إِلَى الْبَيْعَةِ، فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَبَايَعُوهُ عَلَى أَلَّا يَفِرُّوا، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِ نَفْسِهِ وَقَالَ: (هَذِهِ عَنْ عثمانَ).
وَلَمَّا تَمَّتِ الْبَيْعَةُ رَجَعَ عثمانُ فَقَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ: اشْتَفَيْتَ يَا أبا عبدِ الله مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ؟ فَقَالَ: "بِئْسَ مَا ظَنَنْتُمْ بِي، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ مَكَثْتُ بِهَا سَنَةً، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُقِيمٌ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَا طُفْتُ بِهَا حَتَّى يَطُوفَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"
– الشيخ : اللهُ أكبرُ، الله أكبر، ردٌّ جميلٌ وعظيمٌ وهو اللَّائقُ به، الله أكبرُ، قالَ: "بِئْسَ مَا ظَنَنْتُمْ بِي"
– القارئ : "وَلَقَدْ دَعَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَأَبَيْتُ" فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَعْلَمَنَا بِاللَّهِ وَأَحْسَنَنَا ظَنًّا، وَكَانَ عمرُ آخِذًا بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْبَيْعَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَبَايَعَهُ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ إِلَّا الجدَّ بنَ قيسٍ".
وَكَانَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ آخِذًا بِغُصْنِهَا يَرْفَعُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ أبو سنانَ الأسديُّ)
وَبَايَعَهُ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي أَوَّلِ النَّاسِ وَأَوْسَطِهِمْ وَآخِرِهِمْ.
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بديلُ بنُ ورقاءَ الخزاعيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ، وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كعبَ بنَ لؤي وعامرَ بنَ لؤي نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنْ جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاؤُوا مَدَدْتُهُمْ
– الشيخ : مَادَدْتُهُمْ؟
– القارئ : الي عندي: "مَدَدْتُهُمْ" كذا
– الشيخ : نعم
– القارئ : وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، وَإِنْ شَاؤُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ أَبَوْا إِلَّا الْقِتَالَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي أَوْ لَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ).
قَالَ بديلُ: سَأُبْلِغُهُمْ مَا تَقُولُ.
فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ: إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ، وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَوْلًا، فَإِنْ شِئْتُمْ عَرَضْتُهُ عَلَيْكُمْ. فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُحَدِّثَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ. وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ. قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ عروةُ بنُ مسعودٍ الثَّقفيُّ: إِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: ائْتِهِ. فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لبُدَيْل، فَقَالَ لَهُ عروة عِنْدَ ذَلِكَ: أَيْ مُحَمَّدٌ، أَرَأَيْتَ لَوِ اسْتَأْصَلْتَ قَوْمَكَ، هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى وُجُوهًا وَأَرَى أَوْباشًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ. فَقَالَ لَهُ أبو بكرٍ: امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟! قَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أبو بكرٍ. قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ. وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكُلَّمَا كَلَّمَهُ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ على رَأْسِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عروةُ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ وَقَالَ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَفَعَ عروةُ رَأْسَهُ وَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ، أَوَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟ وَكَانَ المغيرةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَمَّا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْء)
ثُمَّ إِنَّ عروة جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَيْنَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا جِلْدَهُ وَوَجْهَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا إلى أَمْرِهِ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عروةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيْ قَوْمُ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ عَلَى كِسْرَى وقَيصرَ وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَلِكًا يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ ما تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: ائْتِهِ.
فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (هَذَا فُلَانٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ) فَبَعَثُوهَا لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ الْقَوْمُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، لا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ". فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ وَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ. فَقَامَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فَقَالَ: دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: ائْتِهِ. فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (هَذَا مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ) فَجَعَلَ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَبَيْنَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (قَدْ سُهِّلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ) فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا. فَدَعَا الْكَاتِبَ فَقَالَ: (اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). فَقَالَ سهيلُ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا نَدْرِي مَا هُوَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ.
– الشيخ : قالَ اللهُ: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] هم ينكرون هذا الاسمَ كما جاءَ في القرآن في آياتٍ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان:60]، سبحانَ الله العظيم.
– القارئ : فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ). ثُمَّ قَالَ: (اكْتُبْ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) فَقَالَ سهيل: فَوَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه). فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ). فَقَالَ سهيلُ: وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضَغْطَةً، وَلَكِنْ لكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ. فَكَتَبَ، فَقَالَ سهيلُ: عَلَى أَلَّا يَأْتِيَكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ علينا. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟! فبَيْنَما هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، قَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أظُهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سهيلُ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا قاضيتك عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ). فَقَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَا أُصَالِحُكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَأَجِزْهُ لِي). فقَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ. قَالَ: (بَلَى فَافْعَلْ). قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. قَالَ مِكْرز: بَلَى قَدْ أَجَزْنَاهُ، فَقَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا، أَلَا تَرَوْنَ مَا لَقِيتُ؟! وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ فِي اللَّهِ عَذَابًا شَدِيدًا.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَاللَّهِ مَا شَكَكْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ
– الشيخ : القصَّة طويلةٌ طويلة
– القارئ : نعم
– الشيخ : لعلَّك تقف على هذا.