الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الحجرات/(3) من قوله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} الآية 9 إلى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم} الآية 11

(3) من قوله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} الآية 9 إلى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم} الآية 11

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الحجرات

الدَّرس: الثَّالث

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:9-11]

الشيخ : إلى هنا.

يأمرُ اللهُ سبحانه وتعالى في هذه الآياتِ بالإصلاحِ بينَ المقتتِلين من المسلمين: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} بتقريبِ وجهاتِ النَّظرِ، وقد يكونُ بتحمُّلِ مالٍ لكلٍّ من الطَّائفتين أو لإحداهما؛ ليرجعوا عن الفتنة وعن القتالِ {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}.

{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} يعني: تجاوزَتْ ولم تستجبْ للإصلاحِ {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} قاتلوها، فأمرَ بالصُّلحِ أوَّلًا، فإذا اقتتلَ المسلمون فإنَّه يُسعَى في الإصلاحِ بينَهم وتقريبِ وتخفيفِ الخلافِ والشِّقاقِ والنَّصيحةِ للجميعِ بأنْ يتركوا هذا الأمرَ القبيحَ الفظيعَ فإنَّ القتالَ بينَ المسلمين من أعظمِ الذُّنوب، (لا ترجعُوا بعدي…) يقولُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (لا ترجعُوا بعدي كفَّارًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ)، ويقولُ: (إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ) قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا القَاتِلُ فَمَا بَالُ المَقْتُولِ قَالَ: (إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ). يعني: عازمٌ على القتلِ.

{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ} يعني: ترجعَ، حتَّى ترجعَ {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} تستجيبُ للحقِّ وتقبلُ الصُّلحَ.

{فَإِنْ فَاءَتْ} إنْ رجعَت الطَّائفةُ الباغيةُ {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} لأنَّه لابدَّ أنْ يبقى أمور فيما بينَهم من الإتلافات، وما قُتِلَ بينَهم من القتلى، إذًا فهذا صلحٌ آخرُ، الصُّلحُ الأوَّلُ لكفِّ ومنعِ القتالِ، والصُّلحُ الثَّاني لأداءِ الحقوقِ ولتستوفيَ كلُّ طائفةٍ من الأخرى ما أتلفَتْ عليها.

ثمَّ قالَ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فأثبتَ الأخوَّةَ معَ الاقتتالِ، وهذا يدلُّ على أنَّ المسلمَ لا يكفرُ بارتكابِ الذَّنبِ الكبيرِ ولو كانَ قتلًا، فالقاتلُ أخو المقتولِ ما دامَا مسلمَينِ وكلاهما إخوةٌ، كما في الآيةِ الأخرى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] فأثبتَ أخوَّةَ الدِّينِ وأخوَّةَ الإيمانِ معَ الاقتتالِ ومعَ القتلِ، سبحانَ الله.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} إنَّها الأخوَّةُ العظيمةُ، هذه الأخوَّةُ الَّتي فوقَ كلِّ الرَّوابطِ والعلاقاتِ البشريَّة، أخوَّةُ الدِّينِ وأخوَّةُ الإيمانِ، فالمؤمنونَ إخوةٌ وإنْ اختلفَتْ أزمانُهم وديارُهم وقبائلُهم وأنسابُهم فهم إخوةٌ، الإيمانُ يجمعُهم، الدِّينُ -دينُ الإسلامِ- يجمعُهم، (وكونوا عبادَ اللهِ إخوانًا) يقولُ عليه الصَّلاة والسَّلام: (وكونوا عبادَ اللهِ إخوانًا)، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً … فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]

ثمَّ نهى المؤمنين والمؤمنات عن السُّخريةِ ببعضِهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} القومُ هم الرِّجالُ، القومُ في اللُّغةِ العربيَّةِ اسمٌ يختصُّ بالرِّجال، ولهذا قالَ: {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ}، {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ … وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} ولعلَّ الَّذي يُسخَرُ بهِ خيرٌ من السَّاخر ففي هذا…، والسُّخريةُ إنَّما تصدرُ عن الاحتقارِ، السُّخريةُ تصدرُ عن الاحتقار، وقد يكونُ من سُخِرَ به هو خيرٌ من السَّاخر: {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ}، {عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ}.

ثمَّ نهى عن اللَّمزِ والتَّعييرِ بالألقابِ: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} الآيةَ:

وهذا أيضًا مِن الآدابِ الَّتي على أولي الألبابِ التَّأدُّبُ بها واستعمالُها، وهو أنَّهُ إذا أخبرَهم {فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} أي: خبرٍ، أنْ يتثبَّتوا في خبرِهِ، ولا يأخذوهُ مُجرَّدًا

– الشيخ : يعني: ولا يأخذوا الخبرَ مُجرَّدًا دونَ نظرٍ ودونَ تثبُّتٍ.

– القارئ : فإنَّ في ذلكَ خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثمِ، فإنَّ خبرَهُ إذا جُعِلَ بمنزلةِ خبرِ الصَّادقِ العدلِ حُكِمَ بموجبِ ذلكَ ومقتضاهُ، فحصلَ مِن تلفِ النُّفوسِ والأموالِ بغيرِ حقٍّ بسببِ ذلكَ الخبرِ ما يكونُ سببًا للنَّدامةِ، بل الواجبُ عندَ خبرِ الفاسقِ التَّثبُّتُ والتَّبيُّنُ، فإنْ دلَّتِ الدَّلائلُ والقرائنُ على صدقِهِ، عُمِلَ بهِ وصُدِّقَ، وإنْ دلَّتْ على كذبِهِ كُذِّبَ ولم يُعمَلْ بهِ، ففيهِ دليلٌ على أنَّ خبرَ الصَّادقِ مقبولٌ، وخبرَ الكاذبِ مردودٌ، وخبرَ الفاسقِ مُتوقَّفٌ فيهِ كما ذكرْنا، ولهذا كانَ السَّلفُ يقبلونَ رواياتِ كثيرٍ مِن الخوارجِ المعروفينَ بالصِّدقِ ولو كانُوا فُسَّاقًا.

قالَ اللهُ تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ…} الآياتَ.

أي: ليكنْ لديكم معلومًا أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بينَ أظهرِكم، وهوَ الرَّسولُ الكريمُ البارُّ الرَّاشدُ الَّذي يريدُ بكم الخيرَ وينصحَ لكم، وتريدونَ لأنفسِكم مِن الشَّرِّ والمضرَّةِ ما لا يوافقُكم الرَّسولُ عليهِ، {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ} لَشقَّ عليكم وأعنتَكم، ولكنَّ الرَّسولَ يرشدُكم واللهُ تعالى يحبِّبُ إليكم الإيمانَ ويُزيِّنُهُ في قلوبِكم بما أودعَ اللهُ في قلوبِكم مِن محبَّةِ الحقِّ وإيثارِهِ، وبما نصبَ على الحقِّ مِن الشَّواهدِ، والأدلَّةِ الدَّالَّةِ على صحَّتِهِ وقَبولِ القلوبِ والفِطرِ لهُ، وبما يفعلُهُ تعالى بكم مِن توفيقِهِ للإنابةِ إليهِ، ويُكِرِّهُ إليكم {الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ}، أي: الذُّنوبَ الكبارَ، {وَالْعِصْيَانَ}: هيَ ما دونَ ذلكَ مِن الذُّنوبِ بـما أودعَ في قلوبِكم مِن كراهةِ الشَّرِّ، وعدمِ إرادةِ فعلِهِ، وبما نصبَهُ مِن الأدلَّةِ والشَّواهدِ على فسادِهِ ومضرَّتِهِ وعدمِ قبولِ الفِطرِ لهُ، وبما يجعلُهُ اللهُ في القلوبِ مِن الكراهةِ لهُ.

 

{أُولَئِكَ} أي: الَّذينَ زيَّنَ اللهُ الإيمانَ في قلوبِهم، وحبَّبَهُ إليهم، وكرَّهَ إليهم الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ {هُمُ الرَّاشِدُونَ} أي: الَّذينَ صلُحَتْ علومُهم وأعمالُهم، واستقامُوا على الدِّينِ القويمِ، والصِّراطِ المستقيمِ.

وضدُّهم الغاوونَ، الَّذين حبَّبَ إليهم الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، وكرَّهَ إليهم الإيمانَ، والذَّنبُ ذنبُهم، فإنَّهم لمَّا فسقُوا طبعَ اللهُ على قلوبِهم، ولمَّا {زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ولمَّا لم يؤمنوا بالحقِّ لمَّا جاءَهم أوَّلَ مرَّةٍ، قلبَ اللهُ أفئدتَهم.

وقولُهُ: {فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} أي: ذلكَ الخيرُ الَّذي حصلَ لهم، هوَ بفضلِ اللهِ عليهم وإحسانِهِ، لا بحولِهم وقوَّتِهم.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: عليمٌ بـِمَن يشكرُ النِّعمةَ فيوفِّقُهُ لها، ممَّن لا يشكرُها ولا تليقُ بهِ فيضعُ فضلَهُ، حيثُ تقتضيهِ حكمتُهُ.

قالَ اللهُ تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآياتَ.

هذا متضمِّنٌ لنهي المؤمنينَ عن أنْ يبغيَ بعضُهم على بعضٍ، ويقتلَ بعضُهم بعضًا، وأنَّهُ إذا اقتتلَتْ طائفتانِ مِن المؤمنينَ فإنَّ على غيرِهم مِن المؤمنينَ أنْ يَتلافوا هذا الشَّرَّ الكبيرَ بالإصلاحِ بينَهم، والتَّوسُّطِ بذلكَ على أكملِ وجهٍ يقعُ بهِ الصُّلحُ، ويسلكُوا الطُّرقَ الموصِلةَ إلى ذلكَ، فإنْ صلحَتَا فبها ونعمَتْ.

{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي: ترجعُ إلى ما حَدَّ اللهُ ورسولُهُ مِن فعلِ الخيرِ وتركِ الشَّرِّ، الَّذي مِن أعظمِهِ الاقتتالُ، وقولُهُ: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} هذا أمرٌ بالصُّلحِ وبالعدلِ في الصُّلحِ، فإنَّ الصُّلحَ قد يُوجَدُ، ولكن لا يكونُ بالعدلِ بل بالظُّلمِ والحيفِ على أحدِ الخصمَينِ، فهذا ليسَ هوَ الصُّلحُ المأمورُ بهِ، فيجبُ ألَّا يُراعَى أحدُهما لقرابةٍ أو وطنٍ أو غيرِ ذلكَ مِن المقاصدِ والأغراضِ، الَّتي تُوجِبُ العدولَ عن العدلِ.

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: العادلينَ في حكمِهم بينَ النَّاسِ وفي جميعِ الولاياتِ الَّتي تولَّوها، حتَّى إنَّهُ قد يَدخلُ في ذلكَ عَدْلُ الرَّجلِ في أهلِهِ وعيالِهِ في أداءِ حقوقِهم، وفي الحديثِ الصَّحيحِ: (الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا).

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} هذا عقدٌ عقدَهُ اللهُ بينَ المؤمنينَ، أنَّهُ إذا وُجِدَ مِن أيِّ شخصٍ كانَ في مشرقِ الأرضِ ومغربِها: الإيمانُ باللهِ، وملائكتِهِ، وكتبِهِ، ورسلِهِ، واليومِ الآخرِ، فإنَّهُ أخٌ للمؤمنِينَ، أخوَّةً توجبُ أنْ يُحِبَّ لهُ المؤمنونَ ما يحبُّون لأنفسِهم، ويكرهُوا لهُ ما يكرهونَ لأنفسِهم، ولهذا قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- آمرًا بحقوقِ الأخوَّةِ الإيمانيَّةِ: (لا تحاسدُوا، ولا تَنَاجَشُوا، ولا تباغضُوا، ولا تدابرُوا، وكونُوا عبادَ اللهِ إخوانًا، المسلمُ أخو المسلمِ لا يظلمُهُ، ولا يخذِلُهُ، وَلاَ يَكْذِبُهُ). متَّفقٌ عليهِ، وفيهما عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (المؤمنُ للمؤمنِ، كالبنيانِ يشدُّ بعضُهُ بعضًا) وشبَّكَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بينَ أصابعِهِ.

ولقد أمرَ اللهُ ورسولُهُ بالقيامِ بحقوقِ المؤمنِينَ بعضُهم لبعضٍ، وبما بهِ يحصلُ التآلُفُ والتَّوادُدُ والتَّواصُلُ بينَهم، كلُّ هذا تأييدٌ لحقوقِ بعضِهم على بعضٍ، فمِن ذلكَ إذا وقعَ الاقتتالُ بينَهم الموجِبُ لتفرُّقِ القلوبِ وتباغُضِها وتدابُرِها، فليُصْلِحِ المؤمنونَ بينَ إخوانِهم، وليَسْعَوا فيما بهِ يزولُ شنآنُهم.

ثمَّ أمرَ بالتَّقوى عمومًا ورتَّبَ على القيامِ بالتَّقوى وبحقوقِ المؤمنينَ الرَّحمةَ، فقالَ: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وإذا حصلَتِ الرَّحمةُ حصلَ خيرُ الدُّنيا والآخرةِ، ودلَّ ذلكَ على أنَّ عدمَ القيامِ بحقوقِ المؤمنينَ مِن أعظمِ حواجبِ الرَّحمةِ.

وفي هاتينِ الآيتينِ مِن الفوائدِ، غيرُ ما تقدَّمَ: أنَّ الاقتتالَ بينَ المؤمنينَ منافٍ للأخوَّةِ الإيمانيَّةِ، ولهذا كانَ مِن أكبرِ الكبائرِ، وأنَّ الإيمانَ والأخوَّةَ الإيمانيَّةَ لا يزولانِ معَ وجودِ القتالِ كغيرِهِ مِن الذُّنوبِ الكبارِ الَّتي دونَ الشِّركِ، وعلى ذلكَ مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وعلى وجوبِ الإصلاحِ بينَ المؤمنينَ بالعدلِ، وعلى وجوبِ قتالِ البُغاةِ حتَّى يرجعوا إلى أمرِ اللهِ، وعلى أنَّهم لو رجعُوا لغيرِ أمرِ اللهِ، بأنْ رجعُوا على وجهٍ لا يجوزُ الإقرارُ عليهِ والتزامُهُ أنَّهُ لا يجوزُ ذلكَ، وأنَّ أموالَهم معصومةٌ؛ لأنَّ اللهَ أباحَ دماءَهم وقتَ استمرارِهم على بغيِهم خاصَّةً دونَ أموالِهم.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ}

الشيخ : قفْ على هذا، القتالُ ينافي الأخوَّةَ الإيمانيَّةَ بمعنى أنَّه لا يليقُ بالمؤمنين أن يقتتلوا، ولا ينافيها بمعنى أنَّه لا يزيلُها ويرفعُ الأخوَّةَ، فهو لا يرفعُ الأخوَّةَ ولا يليقُ بينَ الأخوةِ، فالقتالُ لا يليقُ بينَ الأخوةِ المؤمنين، والقتالُ كذلك لا يزيلُ الأخوَّةَ الَّتي عقدَها اللهُ بينَهم، فالقتالُ ينافيها من وجهٍ، ولا ينافي الأخوَّةَ من وجهٍ.