بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الحجرات
الدَّرس: الرَّابع
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:12-13]
– الشيخ : إلى هنا، هذه هي الآيةُ الخامسةُ الَّتي تتصدَّرُ بخطاب المؤمنين ونداءِ المؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وبعدَ كلِّ خطابٍ وكلِّ نداءٍ للمؤمنين أمرٌ أو نهي، كما جاءَ عن ابن مسعودٍ: "إذا سمعْتَ اللهَ يقولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فارعَها سمعَكَ فإمَّا خيرٌ تُؤمَرُ بهِ أو شرٌّ تُنهَى عنهُ".
وهنا ينهى اللهُ عن أمورٍ في هذه الآيةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} هذا يدلُّ على أنَّ أكثرَ الظُّنونِ سيِّئةٌ، {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} بعضُه إثمٌ وبعضُه ليسَ بإثمٍ، فالظَّنُّ المبنيُّ على الدَّلائل هذا ظنٌّ لا إثمَ فيه، وأمَّا الظَّنُّ الَّذي لا دليلَ عليه ما هو إلَّا وساوسُ يلقيها الشَّيطانُ في قلبِ الإنسانِ فتلكَ هي ظنُّ الإثمِ وهو الأكثرُ {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.
{وَلَا تَجَسَّسُوا} التَّجسُّسُ: البحثُ عن خصوصيات النَّاس وعورات النَّاس، فلا يجوزُ التَّجسُّسُ على الإنسان في سترِه، فلا تتجسَّسْ عليه في بيتِه، تطَّلعُ على عوراته إمَّا ببحثٍ وسؤالٍ أو بالنَّظر -نظر العين- أو استماع الأذن، التَّجسُّسُ يكونُ بالاستماعِ وبنظرِ العينِ {وَلَا تَجَسَّسُوا}.
ثمَّ قالَ تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} نهى عن الغيبةِ الَّتي حذَّرَ منها الرَّسولُ وفسَّرَها، قالَ: (إيَّاكم والغِيبةَ) قالُوا: وما الغِيبةُ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: (ذكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ)، أخاك المؤمن تذكرُه بما يكرهُ من أخلاقه أو خَلقِه أو أفعالِه وتصرُّفاتِه (ذكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ) فهي كلمةٌ جامعةٌ، وضابطٌ دقيقٌ في معرفة الغيبة، تذكرُهُ بما يكرهُ وهو غائبٌ، من أجل ذلكَ سُمِّيَتْ غيبة، قيلَ: يا رسولَ اللهِ إنْ كانَ فيهِ ما أقولُ؟ قالَ: (فقد اغتبْتَهُ، وإنْ لم يكنْ فيهِ ما تقولُ فقد بهتَّهُ) والبَهْتُ أكثرُ، أقبحُ؛ لأنَّه يجتمعُ فيه معنى الغيبةِ والكذبِ على الغير، الكذب على المسلمِ، وهذا عدوانٌ مركَّبٌ من غيبةٍ وكذبٍ، أمَّا إذا كانَ فيه ما تقولُ فتلك غيبةٌ، كما قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، (إنْ كانَ فيهِ ما تقولُ فقد اغتبْتَهُ، وإنْ لم يكنْ فيهِ ما تقولُ فقد بهتَّهُ).
ثمَّ ينفِّرُ اللهُ عن الغيبةِ بتمثيلِ الغائبِ بالميتِ، وتمثيلِ غيبتِه بالأكلِ من لحمِه ميتًا {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} هذا لا شكَّ أنَّه أمرٌ مكروهٌ بالطَّبع، أكلُ لحمِ الميتِ، أيِّ ميتٍ، هو كريهٌ وتشمئزُّ منه الطِّباعُ، فكيف إذا كانَ هو أخوكَ المسلمُ؟! {فَكَرِهْتُمُوهُ}
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} وصيَّةٌ جامعةٌ جاءَتْ في هذه الآياتِ مرَّاتٍ: في أوَّلِ آيةٍ وفي آيةٍ بعدها {وَاتَّقُوا اللَّهَ}، {وَاتَّقُوا اللَّهَ}، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بعدَ كلِّ وصيَّةٍ أو وصايا تأتي الوصيَّةُ العامَّةُ الجامعةُ، فالوصيَّةُ بتقوى اللهِ وصيَّةٌ جامعةٌ تتضمَّنُ الأمرَ بفعلِ كلِّ طاعةٍ والنَّهي عن كلِّ معصيةٍ.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} وهذا وعدٌ كريمٌ من اللهِ تعالى، ودعوةٌ إلى التَّوبة، هذا فيه الدَّعوةُ إلى التَّوبة فتوبوا، توبوا إلى ربِّكم فإنَّه توَّابٌ، وهوَ رحيمٌ سبحانه وتعالى، وهذان اسمان من أسمائه: "التَّوَّابُ والرَّحيمُ". {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} فمَن اتَّقى اللهَ وأنابَ إليهِ وتابَ إليهِ تابَ اللهُ عليه، فمَن تابَ تابَ اللهُ عليه.
ثمَّ جاءَ خطابٌ عامٌّ لجميع النَّاس -المؤمنين وغيرِهم- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} وهذا يؤكِّدُ ما سبقَ ويبيِّنُ حكمتَهُ، فالنَّاسُ كلُّهم مخلوقون من أصلٍ واحدٍ من نفسٍ واحدةٍ {مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}، البشريَّةُ بأسرها أصلُها ذكرٌ وأنثى، أصلُها وبدايتُها ذكرٌ وأنثى، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] ثمَّ جميعُ الأفرادِ خُلِقُوا من بينِ ذكرٍ وأنثى إلَّا عيسى -عليه السَّلامُ- فهو من أنثى بلا ذكرٍ، من أمٍّ بلا أبٍ، عليه السَّلام، ولهذا يُنسَبُ لأمِّه: "ابن مريم" عليه السَّلامُ، قال العلماءُ: فتضمَّنَ خلقُ جنسِ البشرِ على أربعةِ أقسامٍ:
إنسانٌ من غير ذكرٍ ولا أنثى وهو آدمُ -عليهِ السَّلامُ-، هو أصلُ البشريَّةِ، خلقَه اللهُ من طينٍ ونفخَ فيه من روحِه وسوَّاه وأمرَ الملائكةَ بالسُّجودِ. وأنثى بلا ذكرٍ، وأنثى خلق.. خلق إنسان بلا ذكرٍ ولا أنثى وهو آدمُ.
ومن ذكرٍ بلا أنثى وهي زوجُه خُلِقَتْ من ضِلَعِهِ، زوجُه خُلِقَت من ضِلَعِهِ.
والصِّنفُ الثَّالثُ: من خُلِقَ من أنثى بلا ذكرٍ وهو عيسى.
والرَّابعُ بقيَّةُ أفرادِ الإنسانِ وكلُّهم من بينِ ذكرٍ وأنثى.
فهذه الأربعةُ الأقسامُ تدلُّ على قدرةِ الرَّبِّ، فاللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ يخلقُ ما يشاءُ ممَّا شاءَ كيف شاءَ، يخلقُ ما شاءَ ممَّا شاءَ كيفَ شاءَ سبحانه وتعالى.
واللهُ يذكِّرُ النَّاسَ بأنَّ أصلَهم واحدٌ؛ حتَّى لا يفخرَ أحدٌ على أحدٍ ولا يسخرُ أحدٌ من أحدٍ، وهذا يؤكِّدُ ويعلِّلُ لما سبقَ من الوصايا، {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ}، ويؤيِّدُ ويفسِّرُ ذلك قوله صلَّى الله عليه وسلَّمَ: (كلُّكم لآدمَ وآدمُ مِن ترابٍ) كلُّهم يرجعون إلى آدمَ، وآدمُ من ترابٍ، فلا فضلَ لأحدٍ على أحدٍ، إلَّا بالتَّقوى الَّتي ذكرَ اللهُ بقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فالفضلُ بالتَّقوى هذا أصلُ التَّفاضُل الحقيقيِّ، فلا الأنسابُ ولا الحظوظُ ولا العقولُ منشأٌ للتَّفاضُلِ عندَ الله، التَّفاضُلُ عندَ اللهِ بالتَّقوى فقط، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} لاحظْ: {عِنْدَ اللَّهِ} أكرمُ النَّاسِ أتقاهم.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} الآياتَ:
وهذا أيضًا مِن حقوقِ المؤمنينَ بعضِهم على بعضٍ، أنْ {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} بكلِّ كلامٍ وقولٍ وفعلٍ دالٍّ على تحقيرِ الأخِ المسلمِ، فإنَّ ذلكَ حرامٌ لا يجوزُ، وهوَ دالٌّ على إعجابِ السَّاخرِ بنفسِهِ، وعسى أنْ يكونَ المسخورُ بهِ خيرًا مِن السَّاخرِ، وهوَ الغالبُ والواقعُ، فإنَّ السُّخريةَ لا تقعُ إلَّا مِن قلبٍ مُمتلِئٍ مِن مساوئِ الأخلاقِ، متحلٍّ بكلِّ خلقٍ ذميمٍ، متخلٍّ مِن كلِّ خلقٍ كريمٍ، ولهذا قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (بحسْبِ امرئٍ مِن الشَّرِّ، أنْ يحقرَ أخاه المسلمَ).
– الشيخ : يعني يكفيهِ من الشَّرِّ أن يحقرَ أخاه المسلمَ، يعني: شرٌّ عظيمٌ يكفيه، يكفيه من الشَّرِّ أنْ يحقرَ أخاه المسلمَ، ويحقره بمعنى يستصغرُه ويكونُ في عينه ناقصًا وفي عينِه مذمومًا ولا يستحقُّ شيئًا فهو ينظرُ إليه بعينِ الازدراءِ والاحتقارِ.
– القارئ : ثمَّ قالَ: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: لا يعبْ بعضُكم على بعضٍ، واللَّمزُ: بالقولِ، والهمزُ: بالفعلِ
– الشيخ : {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] اللَّمزُ: بالقول، والهمزُ: بالفعلِ، وهيَ كلُّها من مظاهر الاحتقارِ، وكلَّما كانَ المسخورُ به أفضلَ وأكرمَ عندَ اللهِ كانَت السُّخريةُ أقبحَ، فالسُّخريةُ بالمسلم العاديِّ حرامٌ، والسُّخريةُ بالرَّجل الصَّالحِ أقبحُ من ذلك.
– القارئ : وكلاهما منهيٌّ عنهُ حرامٌ، مُتوعَّدٌ عليهِ بالنَّارِ.
كما قالَ تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] الآيةَ، وسَمَّى الأخَ المؤمنَ نفسًا لأخيهِ؛ لأنَّ المؤمنينَ ينبغي أنْ يكونَ هكذا حالُهم
– الشيخ : يعني: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} يعني: لا يلمزْ بعضُكم بعضًا، وكثيرًا ما يُعبَّرُ عن المسلمين بالنَّفسِ، {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] يعني: لا يقتلْ بعضُكم بعضًا، فإنَّ أخاك المسلمَ بمنزلة نفسٍ، {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}
– القارئ : لأنَّ المؤمنينَ ينبغي أنْ يكونَ هكذا حالُهم كالجسدِ الواحدِ، ولأنَّهُ إذا همزَ غيرَهُ، أوجبَ للغيرِ أنْ يهمزَهُ، فيكونُ هوَ المتسبِّبُ لذلكَ.
{وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ} أي: لا يعيِّرْ أحدُكم أخاهَ، ويلقِّبْهُ بلقبٍ يكرهُ أنْ يُقالَ فيهِ، وهذا هوَ التَنابُزُ، وأمَّا الألقابُ غيرُ المذمومةِ فلا تدخلُ في هذا.
– الشيخ : نعم، المرادُ الألقابُ المذمومةُ الَّتي يكونُ في ذكرِها إساءةٌ وإحراجٌ للمخاطَبِ، يكونُ مُلقَّبًا بعيبٍ فيه، بعيبٍ في خَلقِه، أو بعيبٍ في خُلقِه، يلقِّبُه وينبزُه ويعيِّرُه، يعيِّرُه بالعرج بالعمى يعيِّرُه بالأسود، إلَّا كما سيذكر الشَّيخ إلَّا إذا كانَ مشهورًا بلقبٍ من هذا النَّوعِ فيذكره للتَّعريفِ فقط، فلان الفلانيُّ أيش؟ فلان الأعرج، فيذكرُ صفتَه للتَّعريف، ويذكرُ لقبَه الَّذي هو معروفٌ به ولا يذكرُه، ولا يخاطبُه به على وجهِ اللَّمز والنَّبز.
– القارئ : {بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ} أي: بئسَما تبدَّلْتُم عن الإيمانِ والعملِ بشرائعِهِ، وما يقتضيهِ بالإعراضِ عن أوامرِهِ ونواهيهِ، باسمِ الفسوقِ والعصيانِ الَّذي هوَ التَّنابُزُ بالألقابِ.
{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وهذا هوَ الواجبُ على العبدِ أنْ يتوبَ إلى اللهِ تعالى، ويخرجُ مِن حقِّ أخيهِ المسلمِ باستحلالِهِ والاستغفارِ والمدحِ لهُ مقابلةً على ذمِّهِ.
{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فالنَّاسُ قسمانِ: ظالمٌ لنفسِهِ غيرُ تائبٍ، وتائبٌ مفلِحٌ، ولا ثَمَّ قسمٌ ثالثٌ غيرُهما.
قالَ اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا}
– الشيخ : وهذا يُستفادُ منه أنَّ الإصرارَ على الذَّنبِ ذنبٌ، الإصرارُ على الذَّنب ذنبٌ، ولهذا قالَ: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} فنسبَهم ووصفَهم بالظُّلم؛ لإصرارهم على الذَّنب وتركِهم للتَّوبة، فالواجبُ على العبد إذا أذنبَ أن يتوبَ فإذا استمرَّ ولم يتبْ كانَ مصرًّا، فكانَ ظالمًا، ظالمًا بفعلِ الذَّنب ابتداءً وظالمًا بإصرارهِ عليه، والذَّنبُ يعظمُ بالإصرارِ، ولهذا جاءَ في المشهورِ عن ابنِ عبَّاسٍ: "لا صغيرةَ معَ الإصرارِ"
– القارئ : قالَ اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ}
نهى اللهُ تعالى عن كثيرٍ مِن الظَّنِّ السُّوءِ بالمؤمنينَ، فـ {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وذلك، كالظَّنِّ الخالي مِن الحقيقةِ والقرينةِ، وكظنِّ السُّوءِ الَّذي يقترنُ بهِ كثيرٌ مِن الأقوالِ والأفعالِ المحرَّمةِ، فإنَّ بقاءَ ظنِّ السُّوءِ بالقلبِ لا يقتصرُ صاحبُهُ على مجرَّدِ ذلكَ، بل لا يزالُ بهِ حتَّى يقولَ ما لا ينبغي، ويفعلُ ما لا ينبغي
– الشيخ : يعني الظُّنونُ السَّيِّئةُ تجرُّ إلى أمورٍ أخرى، تجرُّ إلى النَّميمة إلى الغيبة إلى الكذب، فظنُّ السُّوءِ الَّذي نهى اللهُ عنه يؤدِّي إلى ذنوبٍ أخرى وعدوانٍ، أنواعٌ من العدوان مع ما فيه من التُّهمة الباطلة الَّتي لا أصلَ لها.
– القارئ : وفي ذلكَ أيضًا إساءةُ الظَّنِّ بالمسلمِ وبغضِهِ وعداوتِهِ المأمورِ بخلافِ ذلكَ منهُ.
{وَلا تَجَسَّسُوا} أي: لا تفتِّشُوا عن عوراتِ المسلمينَ، ولا تتَّبعوها، ودعوا المسلمَ على حالِهِ، واستعملُوا التَّغافُلَ عن زلَّاتِهِ الَّتي إذا فُتِّشَت ظهرَ منها ما لا ينبغي.
{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} والغيبةُ -كما قالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (ذكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ ولو كانَ فيهِ).
ثمَّ ذكرَ مثلًا منفِّرًا عن الغيبةِ، فقالَ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} شبَّهَ أكلَ لحمِهِ ميتًا المكروهَ للنُّفوسِ غايةَ الكراهةِ باغتيابِهِ
– الشيخ : الظَّاهرُ -واللهُ أعلمُ- أنَّه شبَّهَ اغتيابَ المسلمِ لأخيه بأكلِه ميتًا، العكس يعني، المُشبَّهُ هو: الغيبةُ، والمُشبهُ بهِ…، عيبُ المسلمِ في غيبته وذكرُه بما يكرهُ في غيبتِه شُبِّهَتْ بأكلِ لحمِه ميتًا.
– القارئ : فكما أنَّكم تكرهونَ أكلَ لحمِهِ خصوصًا إذا كانَ ميتًا فاقدَ الرُّوحِ، فكذلكَ فلتكرهوا غيبتَهُ، وأكلَ لحمِهِ حيًّا.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} والتَّوَّابُ: الَّذي يأذنُ بتوبةِ عبدِهِ، فيوفِّقُهُ لها ثمَّ يتوبُ عليهِ بقبولِ توبتِهِ، رحيمٌ بعبادِهِ حيثُ دعاهم إلى ما ينفعُهم، وقَبِلَ منهم التَّوبةَ، وفي هذهِ الآيةِ دليلٌ على التَّحذيرِ الشَّديدِ مِن الغيبةِ، وأنَّها مِن الكبائرِ؛ لأنَّ اللهَ شبَّهَها بأكلِ لحمِ الميتِ، وذلكَ مِن الكبائرِ.
– الشيخ : أحسنْتَ، إلى هنا.