بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة ق
الدَّرس: الثَّاني
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:9-15]
– الشيخ : إلى هنا، إلى هنا، لا إله إلَّا الله.
الحمدُ للهِ، لـمَّا ذَكرَ اللهُ دليلَ قدرتِه تعالى على البعثِ بخلق السَّموات والأرض {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ} [ق:6] إلى قوله: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [ق:7] ذكرَ دليلًا ثانيًا وهو: إحياءُ الأرضِ بعدَ موتها، وهذا يأتي في القرآنِ كثيرًا، الاستدلالُ بإحياءِ الأرضِ، ثمَّ يقول: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [فصلت:39]
وهنا قالَ: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} أنواعُ الأشجارِ والزُّروعِ والثِّمارِ، سبحانَ الله العظيم! وهذا من بركاتِ هذا الماءِ الَّذي أنزلَه اللهُ، {مَاءً مُبَارَكًا} فيه خيرٌ كثيرٌ للعباد، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} بساتين، فيها أنواعُ الأشجارِ المثمرةِ بأنواعِ الثِّمار، {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} حبُّ الزَّرعِ المحصودِ، حصيدٌ بمعنى محصودٌ، وممَّا أنبتَهُ تعالى: النَّخل {بَاسِقَاتٍ} عالياتٍ مرتفعاتٍ {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} ترى البُسْرَ والتَّمرَ في القِنْو منضودٌ متَّصلٌ بعضُه ببعضٍ، الشُّمراخُ الواحدُ تجدُ فيه صفَّتَينِ وثلاثٍ من التَّمرات، منضود.
وذلك كلُّه اللهُ تعالى خلقَه وهيَّأَ أسبابَهُ {رِزْقًا لِلْعِبَادِ}، اللهُ فعلَ ذلك {رِزْقًا لِلْعِبَادِ} أنزلَ هذا الماءَ المباركَ وأخرجَ به ما أخرجَ {رِزْقًا لِلْعِبَادِ}. ثمَّ قالَ تعالى: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} الأرضُ اليابسةُ الهامدةُ يُنزلُ اللهُ عليها الماءَ فتحيا وتهتزُّ وتنبتُ بها أنواعُ النَّباتاتِ بالألوانِ المتنوِّعةِ ممَّا يأكلُ النَّاسُ منه والأنعامُ، ثمَّ قالَ تعالى: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} يعني: الخروجُ من الأرض عندَ البعثِ يخرجون كما يخرجُ هذا النَّباتُ {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}، {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح:18]، {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] خروجٌ، {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} كما يُخرجُ اللهُ النَّباتَ من الأرضِ الميتةِ بما ينزلُ عليها من الماء كذلك يخرجُ النَّاسُ من القبور من هذه الأرضِ الَّتي مكثُوا فيها ما شاءَ اللهُ من الأزمانِ المتطاولةِ.
ثمَّ ذكرَ اللهُ -سبحانَه وتعالى- أحوالَ الأممِ المكذِّبةِ للرُّسل، قوم نوحٍ وعادٍ وثمودٍ وفرعون وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وقوم تبَّع، كلُّهم أرسلَ اللهُ إليهم رسلًا فكذَّبُوهم فعاقبَهم اللهُ وحلَّ عليهم بأسُهُ ولهذا يقولُ: {فَحَقَّ وَعِيدِ}، {فَحَقَّ وَعِيدِ} يعني: حَقَّ عليهم وعيدي، في الآيةِ الأخرى: {فَحَقَّ عِقَابِ} [ص:14] يعني: حَقَّ عليهم عقابي.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} وهذه الأممُ ذكرَها اللهُ في هذه الآيةِ بإجمالٍ واختصارٍ كثيرٍ، ولكنَّ اللهَ فصَّلَ قصصَهم في سورٍ أخرى، كما في سورةِ: "الأعرافِ"، و "هودٍ"، و "الشُّعراءِ". {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}.
{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} وهذا دليلٌ ثالثٌ وهو الاستدلالُ بالخلقِ الأوَّلِ، أعني دليلٌ ثالثٌ على البعثِ، فذكرَ اللهُ الاستدلالَ بخلق السَّموات والأرض، وثانيًا: بإحياء الأرضِ بعدَ موتِها، وثالثًا: بالخلقِ الأوَّل {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} يعني: أعجزْنا عن الخلقِ الأوَّل وهو بدءُ البشريَّة؟! {بَلْ هُمْ} أي: الكفَّارُ {فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} هم في شكٍّ وفي حيرةٍ في شأنِ البعثِ، {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} إلى آخرِ الآياتِ من هذه السُّورة العظيمةِ.
وكما قلنا: إنَّ هذه السُّورةَ من أوَّلها إلى آخرِها في شأنِ البعثِ، فأوَّلُها: في ذكرِ إنكارِ الكفَّارِ للبعثِ، ثمَّ ذكرُ الأدلَّة الَّتي فيها ردٌّ عليهم وتكذيبٌ لهم، ويأتي جوانب أخرى في السُّورة ممَّا يتعلَّقُ بيوم القيامةِ.
(تفسيرُ الشَّيخِ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى-:
ولمَّا ذكَّرَهم بهذهِ الآياتِ السَّماويَّةِ والأرضيَّةِ، خوَّفَهم أخذاتِ الأممِ، وألَّا يستمرُّوا على ما هم عليهِ مِن التَّكذيبِ، فيصيبُهم ما أصابَ إخوانَهم مِن المكذِّبينَ، فقالَ: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ} الآياتَ.
أي: كذَّبَ الَّذينَ مَن قبلَهم مِن الأممِ، رسلَهم الكرامَ، وأنبياءَهم العظامَ، كـ نوحٍ كذَّبَهُ قومُهُ، وثمودُ كذَّبُوا صالحًا، وعادٌ كذَّبُوا هودًا، وإخوانُ لوطٍ كذَّبُوا لوطًا، وأصحابُ الأيكةِ كذَّبُوا شعيبًا، وقومُ تبَّعٍ، وتبَّعُ: كلُّ ملكٍ ملكَ اليمنَ في الزَّمانِ السَّابقِ قبلَ الإسلامِ، فقومُ تبَّعٍ كذَّبُوا الرَّسولَ الَّذي أرسلَهُ اللهُ إليهم ولم يخبرْنا اللهُ مَن هوَ ذلكَ الرَّسولُ، وأيُّ تُبَّعٍ مِن التَّبابعةِ؛ لأنَّهُ -واللهُ أعلمُ- كانَ مشهورًا عندَ العربِ العرباءِ، الَّذين لا تخفى ماجرياتُهم على العربِ خصوصًا مثلَ هذهِ الحادثةِ العظيمةِ.
فهؤلاءِ كلُّهم كذَّبُوا الرُّسلَ، الَّذين أرسلَهم اللهُ إليهم، فحقَّ عليهم وعيدُ اللهِ وعقوبتُهُ، ولسْتُم أيُّها المكذِّبونَ لمحمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيرًا منهم، ولا رسلُهم أكرمَ على اللهِ مِن رسولِكم، فاحذرُوا جرمَهم، لئلَّا يصيبَكم ما أصابَهم.
ثمَّ استدلَّ تعالى بالخلقِ الأوَّلِ -وهوَ النَّشأةُ الأولى- على الخلقِ الآخرِ، وهوَ النَّشأةُ الآخرةُ.
فكما أنَّهُ الَّذي أوجدَهم بعدَ العدمِ، كذلكَ يعيدُهم بعدَ موتِهم وصيرورتُهم إلى الرُّفاتِ والرِّممِ، فقالَ: {أَفَعَيِينَا} أي: أفعجزْنا وضعفَتْ قدرتُنا {بِالْخَلْقِ الأوَّلِ}؟ ليسَ الأمرُ كذلكَ، فلم نعجزْ ونَعْيَ عن ذلكَ، وليسُوا في شكٍّ مِن ذلكَ، {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} هذا الَّذي شكُّوا فيهِ، والتبسَ عليهم أمرُهُ، معَ أنَّهُ لا محلَّ للبسٍ فيهِ، لأنَّ الإعادةَ، أهونُ مِن الابتداءِ كما قالَ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]
– الشيخ : حسبُكَ