بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الذَّاريات
الدَّرس: الأوَّل
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات:1-14]
– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله, الحمدُ لله، هذه سورةُ الذَّاريات وهي من السُّورِ المكِّيَّة، أي: النَّازلة قبلَ الهجرةِ، على ما هو معروفٌ في علومِ القرآنِ.
وافتُتِحَتْ هذه السُّورةُ بإقسامٍ مِن اللهِ: قسمٌ، اللهُ يُقسِمُ بما شاءَ من خلقِه، كما أقسمَ بالسَّماء والأرضِ والشَّمس والقمر واللَّيل والنَّهار، وهنا أقسمَ بأمورٍ، بأربعةِ أشياءٍ: الرِّياح، {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} هي الرِّياحُ تذرو الرِّمالَ وتذرو الحبوبَ وتذرو أوراقَ الأشجارِ وتذرو كذلكَ.. {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}.
{فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} فُسِّرَتْ بالسَّحاب الَّتي تحملُ الماءَ العظيمَ الكثيرَ {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا}.
{فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} فُسِّرَتْ بالنُّجومِ الجاريةِ، الجواري، كما قالَ تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير:15-16] سمَّاها جواري.
{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} الملائكةُ الَّتي.. الموكَّلةُ بما شاءَ اللهُ من هذه المخلوقاتِ، وهي تَنفذُ بأمرِ اللهِ، وتفعلُ ما أُمِرَتْ به {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}.
أقسمَ اللهُ بهذه الأمورِ الأربعةِ على قولِهِ: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ.. لَوَاقِعٌ} ما تُوعَدون من البعثِ والنُّشور والجنَّة والنَّار إنَّه لواقعٌ حقيقةً، {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ}، {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ}؛ لأنَّ الَّذي أخبرَ به أصدقُ الصَّادقين سبحانه وتعالى، فما أخبرَ به صدقٌ، {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} الدِّينُ هو الجزاءُ، وعطفُ الدِّين على ما تُوعَدون لعلَّهُ من عطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ لأنَّ الجزاءَ هو من جملةِ ما وعدَ اللهُ به العبادَ {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ}.
ثمَّ قالَ تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} هذا قَسَمٌ أيضًا، قَسَمٌ من اللهِ بالسَّماء، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} يعني: الكفَّارُ هم في أقوالٍ مختلفةٍ متناقضةٍ كما قالَ تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] مضطربٌ متناقضٌ.
{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} بسببِ أقوالهم الباطلةِ يُصرَفُ عن الحقِّ أقوامٌ من النَّاس، ينخدعون بأقوالِ الكفَّار فيُصرَفون عن الحقِّ {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يعني: يُؤْفَكُ ويُصرَفُ، {يُؤْفَكُ} بمعنى: يُصرَفُ، {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}.
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ}، {قُتِلَ} هذا دعاءٌ، وبعضُهم يفسِّرُهُ بــ "لُعِنَ"، يقولُ معنى {قُتِلَ} أي: لُعِنَ، دعاءٌ على الخرَّاصين الَّذين يُعوِّلون في دينهم على الظُّنونِ الكاذبةِ والخرصِ، المشركون {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [يونس:66]، {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} في غفلةٍ، في هذه الدُّنيا في غفلةٍ ساهون.
{يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} يسألون على سبيلِ الشَّكِّ، والتَّكذيب: "متى؟ متى يومُ الدِّين؟" كقولهم: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [الملك:25]، كقولِهِ تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}، {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}؟
قالَ اللهُ: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} يُعذَّبون على النَّار ويُوبَّخون يُقالُ لهم: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} فيجتمعُ عليهم عذابُ الأبدانِ وعذابُ الأرواحِ، عذابُ الأبدانِ بالحرقِ وعذابُ الأرواحِ بالتَّوبيخ والتَّقريع، نعوذُ بالله من الشِّقوةِ، اللَّهمَّ إنَّا نعوذُ بك مِنْ جَهْدِ البَلاَءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، أعوذُ باللهِ من حالِ الأشقياءِ.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى-: تفسيرُ سورةِ الذَّارياتِ وهيَ مكِّيَّةٌ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} إلى آخرِ الآياتِ.
هذا قسمٌ مِن اللهِ الصَّادقِ في قيلِهِ، بهذهِ المخلوقاتِ العظيمةِ الَّتي جعلَ اللهُ فيها مِن المصالحِ والمنافعِ، ما جعلَ على أنَّ وعدَهُ صِدقٌ، وأنَّ الدِّينَ الَّذي هوَ يومُ الجزاءِ والمحاسبةِ على الأعمالِ لَوَاقِعٌ لا محالةَ، ما لهُ مِن دافعٍ، فإذا أخبرَ بهِ الصَّادقُ العظيمُ وأقسمَ عليهِ، وأقامَ الأدلَّةَ والبراهينَ عليهِ، فَلِمَ يُكذِّبُ بهِ المكذِّبونَ، ويُعرِضُ عن العملِ لهُ العاملون؟
والمُرادُ بالذَّارياتِ: هيَ الرِّياحُ الَّتي تذرو في هبوبِها {ذَرْوًا} بلينِها، ولطفِها، وقوَّتِها، وإزعاجِها.
{فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} السَّحابَ، تحملُ الماءَ الكثيرَ، الَّذي ينفعُ اللهُ بهِ البلادَ والعبادَ.
{فالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} النُّجومُ الَّتي تجري على وجهِ اليسرِ والسُّهولةِ، فتتزيَّنُ بها السَّمواتُ، ويُهتدَى بها في ظلماتِ البرِّ والبحرِ، ويُنتفَعُ بالاعتبارِ بها.
{فالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} الملائكةُ الَّتي تقسمُ الأمرَ وتدبِّرُهُ بإذنِ اللهِ، فكلٌّ منهم قد جعلَهُ اللهُ على تدبيرِ أمرٍ مِن أمورِ الدُّنيا وأمورِ الآخرةِ، لا يتعدَّى ما قُدِّرَ لهُ وما حُدَّ ورُسِمَ، ولا يُنقَصُ منهُ.
قالَ اللهُ تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} الآياتَ.
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} أي: والسَّماءِ ذاتِ الطَّرائقِ الحسنةِ، الَّتي تشبهُ حبكَ الرِّمالِ، ومياهَ الغدرانِ، حينَ يحرِّكُها النَّسيمُ.
{إِنَّكُمْ} أيُّها المكذِّبونَ لمحمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} منكم، مَن يقولُ: ساحرٌ، ومنكم مَن يقولُ: كاهنٌ، ومنكم مَن يقولُ: مجنونٌ، إلى غيرِ ذلكَ مِن الأقوالِ المختلفةِ، الدَّالَّةِ على حيرتِهم وشكِّهم، وأنَّ ما هم عليهِ باطلٌ.
{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي: يُصرَفُ عنهُ مَن صُرِفَ عن الإيمانِ، وانصرفَ قلبُهُ عن أدلَّةِ اللهِ اليقينيَّةِ وبراهينِهِ، واختلافُ قولِهم دليلٌ على فسادِهِ وبطلانِهِ، كما أنَّ الحقَّ الَّذي جاءَ بهِ محمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، متَّفِقٌ يصدِّقُ بعضُهُ بعضًا، لا تناقضَ فيهِ ولا اختلافَ، وذلكَ دليلٌ على صحَّتِهِ، وأنَّهُ مِن عندِ اللهِ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]
قالَ اللهُ تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} الآياتَ.
يقولُ تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} أي: قاتلَ اللهُ الَّذين كذبُوا على اللهِ، وجحدُوا آياتِهِ، وخاضُوا بالباطلِ، ليدحضوا بهِ الحقَّ، الَّذين يقولونَ على اللهِ ما لا يعلمونَ.
{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} أي: في لجَّةٍ مِن الكفرِ، والجهلِ، والضَّلالِ، {سَاهُونَ}
{يَسْأَلُونَ} على وجهِ الشَّكِّ والتَّكذيبِ أيَّانَ يُبعَثونَ، أي: متى يُبعَثونَ، مستبعِدينَ لذلكَ، فلا تسألْ عن حالِهم وسوءِ مآلِهم.
{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أي: يُعذَّبونَ بسببِ ما انطوَوا عليهِ مِن خبثِ الباطنِ والظَّاهرِ، ويُقالُ لهم: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي: العذابَ والنَّارَ الَّذي هوَ أثرُ ما افتُتِنُوا بهِ مِن الابتلاءِ الَّذي صيَّرَهم إلى الكفرِ، والضَّلالِ، {هَذَا} العذابُ، الَّذي وصلْتُم إليهِ، هوَ {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} فالآنَ، تمتَّعُوا بأنواعِ العقابِ والنَّكالِ والسَّلاسلِ والأغلالِ
– الشيخ : أعوذُ بالله، انتهى؟
– القارئ : والسَّخطِ والوبالِ.
نعم انتهى، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} [الذاريات:15]
– الشيخ : حسبُكَ.