الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الذاريات/(2) من قوله تعالى {إن المتقين في جنات وعيون} القرآن 15 إلى قوله تعالى {فورب السماء والأرض إنه لحق} القرآن 23
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(2) من قوله تعالى {إن المتقين في جنات وعيون} القرآن 15 إلى قوله تعالى {فورب السماء والأرض إنه لحق} القرآن 23

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الذَّاريات

الدَّرس: الثَّاني

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:15-23]

– الشيخ : إلى هنا، الحمدُ لله، لمَّا ذكرَ اللهُ عاقبةَ المكذِّبينَ الخرَّاصين: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ…} [الذاريات:10-14] ذكرَ اللهُ عاقبةَ المتَّقين المؤمنين باللهِ ورسلِه، المتَّبعينَ لهدى اللهِ أنَّهم يصيرون إلى جنَّاتٍ: بساتين فيها أنواعُ الأشجارِ والثِّمارِ، وفيها الأنهارُ، وفيها العيونُ، {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ}، {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} قبلَ يومِ القيامةِ، قبلَ دخولِهم الجنَّة، كانوا في الدُّنيا {مُحْسِنِينَ} مُحْسِنِينَ بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ والتَّقوى {كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ}.

ثمَّ فصَّلَ إحسانَهم بذكرِ صلاتِهم باللَّيلِ وتهجُّدِهم {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يقضون اللَّيل سُجَّدًا وقيامًا ويختمون ذلك بالاستغفارِ في الأسحارِ {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.

{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} باذلونَ لأنفسِهم في طاعةِ اللهِ، باذلون لأموالِهم في سبيلِ اللهِ، {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}.

{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} ثمَّ هذا تذكيرٌ من اللهِ لعبادِه بآياتِه الأرضيَّةِ الكثيرةِ {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ} آياتٌ ودلالاتٌ وعلاماتٌ تدلُّ على قدرةِ وحكمةِ ورحمةِ مَن خلقَها وجعلَ فيها هذه الآياتِ كالجبالِ والأنهارِ والأشجارِ والقِفارِ {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ} [الرعد:4] كلُّها آياتٌ، {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ} ينتفعُ بها الموقنون؛ لأنَّهم يتفكَّرون في آياتِ اللهِ {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}.

{وَفِي أَنْفُسِكُمْ} يعني: وفي أنفسِكم آياتٌ، في الأنفسِ {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم:21] نفسُ الإنسانِ وتكوينُه وخِلقتُه وترتيبُ بدنِه وأعضائِه كلُّها آياتٌ، خلقَ الإنسانَ، وخلقَ له السَّمعَ والبصرَ، خلقَ له العينينِ والأذنينِ واليدينِ والقدمينِ، فجعله سميعًا بصيرًا، والحكمةُ من ذلكَ الشُّكر، قالَ: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وذمَّ الَّذين لا يشكرونَ قالَ: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23]، {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23]، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.

{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} الرِّزقُ ينزلُ من السَّماءِ بأمرِ اللهِ تعالى، ومن الرِّزقِ النَّازلِ المطرُ، {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الجاثية:5]، فسمَّى المطرَ رزقًا، وكذلكَ في السَّماءِ ما وعدَ اللهُ به المتَّقين وهي الجنَّةُ، فالجنَّةُ في السَّماء، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}.

ثمَّ قالَ تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} هذا قسمٌ من اللهِ بنفسِه، {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ} اللهُ يقسمُ بنفسِه في مواضعَ، ويأمرُ نبيَّه أنْ يُقسِمَ به، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي}، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65]، {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} يعني: ما وعدَ اللهُ به العبادَ من البعثِ والنُّشورِ والجزاءِ {إِنَّهُ لَحَقٌّ} متحقِّقٌ واقعٌ لا محالةَ، كما قالَ في أوَّل السُّورة: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:5-6]، {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} كما أنَّه لا شكَّ في نطقِ الإنسانِ الَّذي يسمعُه وينطقُ به فكذلك ما وعدَ اللهُ به أمرٌ محقَّقٌ لا محالةَ.

 

(تفسيرُ الشَّيخِ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى-: في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} الآياتَ:

يقولُ تعالى في ذكرِ ثوابِ المتَّقينَ وأعمالِهم، الَّتي وصلُوا بها إلى ذلكَ الجزاءِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} أي: الَّذين كانَتِ التَّقوى شعارَهم، وطاعةُ اللهِ دِثارَهم، {فِي جَنَّاتِ} مشتملاتٍ على جميعِ أصنافِ الأشجارِ والفواكهِ، الَّتي يُوجَدُ لها نظيرٌ في الدُّنيا، والَّتي لا يُوجَدُ لها نظيرٌ، ممَّا لم تنظرِ العيونُ إلى مثلِهِ، ولم تسمعِ الآذانُ، ولم يخطرْ على قلبِ بشرٍ {وَعُيُونٍ} سارحةٍ تشربُ منها تلكَ البساتينُ، ويشربُ بها عبادُ اللهِ، يفجِّرونَها تفجيرًا.

{آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} يُحتمَلُ أنَّ المعنى أنَّ أهلَ الجنَّةِ قد أعطاهم مولاهم جميعَ مُناهم مِن جميعِ أصنافِ النَّعيمِ، فأخذُوا ذلكَ راضِينَ بهِ وقد قرَّتْ بهِ أعينُهم، وفرحَتْ بهِ نفوسُهم، ولم يطلبُوا منهُ بدلًا ولا يبغونَ عنهُ حِولًا، وكلٌّ قد نالَهُ مِن النَّعيمِ ما لا يطلبُ عليهِ المزيدَ، ويُحتمَلُ أنَّ هذا وصفُ المتَّقينَ في الدُّنيا، وأنَّهم آخذونَ ما آتاهم اللهُ مِن الأوامرِ والنَّواهي، أي: قد تلقَّوها بالرَّحبِ وانشراحِ الصَّدرِ، منقادينَ لِما أمرَ اللهُ بهِ، بالامتثالِ على أكملِ الوجوهِ، ولـِما نهى عنهُ بالانزجارِ عنهُ للهِ على أكملِ وجهٍ، فإنَّ الَّذي أعطاهم اللهُ مِن الأوامرِ والنَّواهي هوَ أفضلُ العطايا الَّتي حقُّها أن تُتلقَّى بالشُّكرِ للهِ عليها، والانقيادِ.

والمعنى الأوَّلُ ألصقُ بسياقِ الكلامِ؛ لأنَّهُ ذِكرُ وصفِهم في الدُّنيا، وأعمالِهِم بقولِهِ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} الوقتِ الَّذي وصلُوا بهِ إلى النَّعيمِ {مُحْسِنِينَ} وهذا شاملٌ لإحسانِهم بعبادةِ ربِّهم، بأنْ يعبدوهُ كأنَّهم يرونَهُ، فإنْ لم يكونُوا يرونَهُ فإنَّهُ يراهُم، وللإحسانِ إلى عبادِ اللهِ ببذلِ النَّفعِ والإحسانِ مِن مالٍ أو علمٍ أو جاهٍ أو نصيحةٍ أو أمرٍ بمعروفٍ أو نهيٍ عن مُنكَرٍ أو غيرِ ذلكَ مِن وجوهِ البرِّ وطرقِ الخيراتِ.

حتَّى إنَّهُ يدخلُ في ذلكَ: الإحسانُ بالقولِ والكلامِ اللَّيِّنِ، والإحسانُ إلى المماليكِ، والبهائمِ المملوكةِ، وغيرِ المملوكةِ، ومِن أفضلِ أنواعِ الإحسانِ في عبادةِ الخالقِ: صلاةُ اللَّيلِ الدَّالَّةُ على الإخلاصِ، وتواطؤُ القلبِ واللِّسانِ، ولهذا قالَ: {كَانُوا} أي: المحسنونَ {قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} أي: كانَ هجوعُهم أي: نومُهم باللَّيلِّ قليلًا، وأمَّا أكثرُ اللَّيلِ، فإنَّهم قانتونَ لربِّهم ما بينَ صلاةٍ وقراءةٍ وذكرٍ ودعاءٍ وتضرُّعٍ.

– الشيخ : {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9]، {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64] هذه الآياتُ فيها تفصيلٌ وتفسيرٌ لهاتينِ الآيتينِ {قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}.

 

– القارئ : {وَبِالأسْحَارِ} الَّتي هيَ قبيلَ الفجرِ {هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} اللهَ تعالى، فمدُّوا صلاتَهم إلى السَّحرِ، ثمَّ جلسُوا في خاتمةِ قيامِهم باللَّيلِ يستغفرونَ اللهَ تعالى استغفارَ المذنِبِ لذنبِهِ، وللاستغفارِ بالأسحارِ فضيلةٌ وخصيصةٌ ليسَتْ لغيرِهِ، كما قالَ تعالى في وصفِ أهلِ الإيمانِ والطَّاعةِ: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ}

{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} واجبٌ ومستحَبٌّ {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} أي: للمحتاجينَ الَّذينَ يطلبونَ مِن النَّاسِ، والَّذينَ لا يسألونَهم

قالَ اللهُ تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} الآياتَ:

يقولُ تعالى -داعيًا عبادَهُ إلى التَّفكُّرِ والاعتبارِ-: {وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}

وذلكَ شاملٌ لنفسِ الأرضِ وما فيها مِن جبالٍ وبحارٍ، وأنهارٍ، وأشجارٍ، ونباتٍ تدلُّ المُتفكِّرَ فيها، المتأمِّلَ لمعانيها على عظمةِ خالقِها وسَعَةِ سلطانِهِ، وعميمِ إحسانِهِ، وإحاطةِ علمِهِ، بالظَّواهرِ والبواطنِ. وكذلكَ في نفسِ العبدِ مِن العِبَرِ والحكمةِ والرَّحمةِ ما يدلُّ على أنَّ اللهَ واحدٌ أحدٌ فردٌ صمدٌ، وأنَّهُ لم يخلقِ الخلقَ سُدىً.

وقولُهُ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} أي: مادَّةُ رزقِكم مِن الأمطارِ وصنوفِ الأقدارِ، الرِّزقُ الدِّينيُّ والدُّنيويُّ، {وَمَا تُوعَدُونَ} مِن الجزاءِ في الدُّنيا والآخرةِ فإنَّهُ يَنزلُ مِن عندِ اللهِ كسائرِ الأقدارِ.

فلمَّا بيَّنَ الآياتِ ونبَّهَ عليها تنبيهًا ينتبهُ بهِ الذَّكيُّ اللَّبيبُ، أقسمَ تعالى على أنَّ وعدَهُ وجزاءَهُ حقٌّ، وشبَّهَ ذلكَ، بأظهرِ الأشياءِ لنا وهوَ النُّطقُ، فقالَ: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} فكما لا تشكُّونَ في نطقِكم، فكذلكَ ينبغي ألَّا يعتريَكم الشَّكُّ في البعثِ والجزاءِ.

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الذاريات:24]

– الشيخ : أحسنْتَ.