الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الطور/(1) من قوله تعالى {والطور} الآية 1 إلى قوله تعالى {اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا} الآية 16

(1) من قوله تعالى {والطور} الآية 1 إلى قوله تعالى {اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا} الآية 16

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الطّور

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:1-16]

– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله.

الحمدُ لله، هذه سورةُ الطُّورِ، وهي مكِّيَّةٌ، قرأَ بها النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مرَّةً في صلاة المغربِ، وقد افتُتِحَتْ هذه السُّورةُ بأقسامٍ أي: أَيمانٍ، أَيمَانٌ مِن اللهِ، فاللهُ يُقسِمُ بما شاءَ من خلقِه وغيرِهم، يُقسِمُ بنفسِه، ويُقسِمُ بكلامِه وكتابِه، {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:2]

{وَالطُّورِ} هو الجبلُ الَّذي كلَّمَ اللهُ عليه موسى، كما أقسمَ به في سورة: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ} [التين:1-2]

{وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} وهو القرآنُ {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ}.

{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} بيتٌ في السَّماءِ السَّابعةِ حِذاءَ البيتِ العتيقِ، جاءَ في الحديثِ أنَّه (يدخلُهُ كلَّ يومٍ سبعونَ ألفِ ملَكٍ، آخرُ ما عليهم) يعني: لا يدخلونه مرَّةً أخرى ويطوفون به، {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ}.

{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} وهو السَّماءُ، كما قالَ تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32]، {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ}.

{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} هذه البحارُ، وقيلَ: بحرٌ فوقَ السَّماءِ السَّابعةِ وهو البحرُ الَّذي فوقَه العرشُ، {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]، {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}.

ثمَّ الجوابُ، جوابُ القسمِ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ}، {وَالطُّورِ.. إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ}، {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} كلُّ هذهِ أيمانٌ يُقسِمُ اللهُ بهذه المذكوراتِ على أنَّ عذابَه واقعٌ لا محالةَ، كما قالَ تعالى: {والذاريات ذروًا} [الذاريات:1] إلى قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:4-5]

{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} عذابُ اللهِ إذا وقعَ فلا قدرةَ لأحدٍ على دفعِهِ، {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج:1-3]، {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} يعني: عذابُهُ تعالى يكونُ في ذلكَ اليومِ، ويقعُ في ذلكَ اليومِ {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ} يعني: تتحرَّكُ حركةً معَ اضطرابٍ بعدَ أنْ كانَتْ ثابتةً، {تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا}

{وَتَسِيرُ الْجِبَالُ} هذه الجبالُ يسيِّرُها ربُّها، ثمَّ تذهبُ شيئًا فشيئًا {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:5]، ثمَّ تكونُ لها أحوالٌ، {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:5-6]، {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف:47]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} [طه:105-106]، {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا}.

قالَ اللهُ: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في ذلكَ اليومِ ويلٌ للمكذِّبين ممَّا سيقعُ عليهم من العذابِ، {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ} يعني: ويلٌ في ذلكَ اليومِ للمكذِّبين للهِ وكتبِه ورسلِه، ذلك اليومُ يومٌ يظهرُ لهم فيهِ سوءُ ما كانوا عليه {يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:9-10]، {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} يعني: هم في هذه الدنيا في خوضٍ، ويلهون، يخوضون بما لا حجَّةَ لهم فيه ولا دليلَ من عقلٍ ولا نقلٍ، يخوضون ويتكلَّمون في أمورٍ لا برهانَ لهم عليها، ويلعبون في هذه الدُّنيا ويلهون {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36] وهذهِ حياةُ الكفَّارِ لهوٌ ولعبٌ {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]

{الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} يُدفَعون إليها دفعًا، ويُساقون إليها سوقًا، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ} يعني: انظروها {هَذِهِ النَّارُ}، {هَذِهِ} هي {النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} مثل ما جاءَ في سورة "الذَّاريات": {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:10-14]، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ…} [يس:63]

{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا} هذا سحرٌ الآن، قد كانوا يقولون للنَّبيِّ إنَّ ما يعدُهم به سحرٌ، وأنَّه لا حقيقةَ له ولا واقعَ، فيُوبَّخون يومَ القيامةِ {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا} فيدخلونها ويقاسون حرَّها وعذابَها {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ}، {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24]، نعوذُ باللهِ من النَّارِ.

{سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} يعني: صبرُكم وعدمُه سواءٌ، صبرْتُم أو لم تصبروا العذابُ لازمٌ لكم {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} هذا جزاءُ أعمالِهم، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]

 

 (تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى-: تفسيرُ سورةِ الطُّورِ وهيَ مكِّيَّةٌ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} الآياتِ:

يُقسِمُ تعالى بهذهِ الأمورِ العظيمةِ المشتمِلةِ على الحِكمِ الجليلةِ على البعثِ والجزاءِ للمتَّقينَ والمكذِّبينَ، فأقسمَ بالطُّورِ الَّذي هوَ الجبلُ الَّذي كلَّمَ اللهُ عليهِ نبيَّهُ موسى بنَ عمرانَ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- وأوحى إليهِ ما أوحى مِن الأحكامِ، وفي ذلكَ مِن الـمِنَّةِ عليهِ وعلى أمَّتِهِ، ما هوَ مِن آياتِ اللهِ العظيمةِ، ونعمِهِ الَّتي لا يَقْدِرُ العبادُ لهما على عَدٍّ ولا ثمنٍ.

{وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} يُحتمَلُ أنَّ المرادَ بهِ اللَّوحُ المحفوظُ، الَّذي كتبَ اللهُ بهِ كلَّ شيءٍ، ويُحتمَلُ أنَّ المرادَ بهِ القرآنُ الكريمُ، الَّذي هوَ أفضلُ كتابٍ أنزلَهُ اللهُ محتويًا على نبأِ الأوَّلينَ والآخرينَ

– الشيخ : ولعلَّ هذا أقربُ؛ لاقترانِه بالطُّور الَّذي كلَّمَ اللهُ عليه موسى، فيكونُ مقسِمًا بما يتعلَّقُ بموسى، ثمَّ بما يتعلَّقُ بمحمَّدٍ، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ}، واللهُ أعلمُ بالصَّوابِ.

– القارئ : وعلومِ السَّابقينَ واللَّاحقينَ.

وقولُهُ: {فِي رَقٍّ} أي: ورقٍ {مَنْشُورٍ} أي: مكتوبٍ مُسطَّرٍ، ظاهرٍ غيرِ خفيٍّ

– الشيخ : وهذا ممَّا يؤيِّدُ أنَّه القرآنُ المكتوبُ.

– القارئ : لا تخفى حالُهُ على كلِّ عاقلٍ بصيرٍ.

{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} وهوَ البيتُ الَّذي فوقَ السَّماءِ السَّابعةِ، المعمورُ مدى الأوقاتِ بالملائكةِ الكِرامِ، يَدخلُهُ كلَّ يومٍ سبعونَ ألفَ ملَكٍ يتعبَّدونَ فيهِ لربِّهم ثمَّ لا يعودونَ إليهِ إلى يومِ القيامةِ، وقيلَ: إنَّ البيتَ المعمورَ هوَ بيتُ اللهِ الحرامُ المعمورُ بالطَّائفينَ والمصلِّينَ والذَّاكرينَ كلَّ وقتٍ وبالوفودِ إليهِ بالحجِّ والعمرةِ.

كما أقسمَ اللهُ بهِ في قولِهِ: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ} [التين:3] وحقيقٌ ببيتٍ هوَ أفضلُ بيوتِ الأرضِ -الَّذي يقصدُهُ بالحجِّ والعمرةِ أحدُ أركانِ الإسلامِ ومبانيهِ العظامِ، الَّتي لا يتمُّ إلَّا بها، وهوَ الَّذي بناهُ إبراهيمُ وإسماعيلُ، وجعلَهُ اللهُ مثابةً للنَّاسِ وأمنًا- أنْ يقسِمَ اللهُ بهِ، ويبيِّنَ مِن عظمتِهِ ما هوَ اللَّائقُ بهِ وبحرمتِهِ.

{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} أي: السَّماءِ، الَّتي جعلَها اللهُ سقفًا للمخلوقاتِ، وبناءً للأرضِ، تستمدُّ منها أنوارَها، ويُقتدَى بعلاماتِها ومنارِها، ويُنزِلُ اللهُ منها المطرَ والرَّحمةَ وأنواعَ الرِّزقِ.

{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} أي: المملوءِ ماءً، قد سجرَهُ اللهُ، ومنعَهُ مِن أنْ يَفيضَ على وجهِ الأرضِ، معَ أنَّ مقتضى الطَّبيعةِ، أنْ يغمرَ وجهَ الأرضِ، ولكنْ حكمتُهُ اقتضَتْ أنْ يمنعَهُ عن الجريانِ والفيضانِ؛ ليعيشَ مَن على وجهِ الأرضِ، مِن أنواعِ الحيوانِ، وقيلَ: إنَّ المرادَ بالمسجورِ، الـموقَدُ الَّذي يوقدُ نارًا يومَ القيامةِ، فيصيرُ نارًا تلظَّى ممتلئًا على عظمتِهِ وسعتِهِ مِن أصنافِ العذابِ.

هذهِ الأشياءُ الَّتي أقسمَ اللهُ بها، ممَّا يدلُّ على أنَّها مِن آياتِ اللهِ وأدلَّةِ توحيدِهِ، وبراهينِ قدرتِهِ، وبعثِهِ الأمواتَ، ولهذا قالَ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} أي: لا بدَّ أنْ يقعَ، ولا يُخلِفُ اللهُ وعدَهُ وقيلَهُ.

{مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} يدفعُهُ، ولا مانعَ يمنعُهُ؛ لأنَّ قدرةَ اللهِ لا يغالبُها مغالبٌ، ولا يفوتُها هاربٌ.

ثمَّ ذكرَ وصفَ ذلكَ اليومِ الَّذي يقعُ فيهِ العذابُ، فقالَ: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} أي: تدورُ السَّماءُ وتضطربُ، وتدومُ حركتُها بانزعاجٍ وعدمِ سكونٍ.

{وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} أي: تزولُ عن أماكنِها، وتسيرُ كسيرِ السَّحابِ، وتتلوَّنُ كالعِهنِ المنفوشِ، وتُبَثُّ بعدَ ذلكَ حتَّى تصيرَ مثلَ الهَباءِ، وذلكَ كلُّه لعِظَمِ هولِ يومِ القيامةِ فكيفَ بالآدميِّ الضَّعيفِ!؟

{فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} والويلُ: كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ عقوبةٍ وحُزنٍ وعذابٍ وخوفٍ.

ثمَّ ذكرَ وصفَ المكذِّبينَ الَّذين استحقُّوا بهِ الويلَ، فقالَ: {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} أي: خوضٍ بالباطلِ ولعبٍ بهِ، فعلومُهم وبحوثُهم بالعلومِ الضَّارَّةِ المتضمِّنةِ للتَّكذيبِ بالحقِّ، والتَّصديقِ بالباطلِ، وأعمالُهم أعمالُ أهلِ الجهلِ والسَّفَهِ واللَّعبِ، بخلافِ ما عليهِ أهلُ التَّصديقِ والإيمانِ مِن العلومِ النَّافعةِ، والأعمالِ الصَّالحةِ.

{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} أي: يومَ يُدفَعونَ إليها دفعًا، ويُساقونَ إليها سوقًا عنيفًا، ويُجَرُّونَ على وجوهِهم، ويُقالُ لهم توبيخًا ولومًا: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} فاليومَ ذوقُوا عذابَ الخلدِ الَّذي لا يبلغُ قدرَهُ، ولا يُوصَفُ أمرُهُ.

{أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} يُحتمَلُ أنَّ الإشارةَ إلى النَّارِ والعذابِ، كما يدلُّ عليهِ سياقُ الآيةِ أي: لمَّا رأَوا النَّارَ والعذابَ قيلَ لهم مِن بابِ التَّقريعِ: "أهذا سحرٌ لا حقيقةَ لهُ، فقد رأيْتُموهُ، أم أنتم في الدُّنيا لا تبصرونَ" أي: لا بصيرةَ لكم ولا علمَ عندَكم، بل كنْتُم جاهلينَ بهذا الأمرِ، لم تقمْ عليكم الحجَّةُ؟ والجوابُ انتفاءُ الأمرَينِ:

أمَّا كونُهُ سِحرًا، فقد ظهرَ لهم أنَّهُ أحقُّ الحقِّ، وأصدقُ الصِّدقِ، المنافي للسِّحرِ مِن جميعِ الوجوهِ، وأمَّا كونُهم لا يُبصرونَ، فإنَّ الأمرَ بخلافِ ذلكَ، بل حجَّةُ اللهِ قد قامَتْ عليهم، ودعَتْهم الرُّسلُ إلى الإيمانِ بذلكَ، وأقامَتْ مِن الأدلَّةِ والبراهينِ على ذلكَ، ما يجعلُهُ مِن أعظمِ الأمورِ المبرهِنةِ الواضحةِ الجليَّةِ.

ويُحتمَلُ أنَّ الإشارةَ بقولِهِ: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} إلى ما جاءَ بهِ محمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن الحقِّ المبينِ، والصِّراطِ المستقيمِ أي: أفيتصوَّرُ مَن لهُ عقلٌ أنْ يقولَ عنهُ: إنَّهُ سحرٌ؟! وهوَ أعظمُ الحقِّ وأجلُّهُ، ولكنْ لعدمِ بصيرتِهم قالُوا فيهِ ما قالُوا.

{اصْلَوْهَا} أي: ادخلُوا النَّارَ على وجهٍ تحيطُ بكم، وتشملُ أبدانَكم وتطَّلعُ على أفئدتِكم.

{فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} أي: لا يُفيدُكم الصَّبرُ على النَّارِ شيئًا، ولا يتأسَّى بعضُكم ببعضٍ، ولا يُخفَّفُ عنكم العذابُ، وليسَتْ مِن الأمورِ الَّتي إذا صبرَ العبدُ عليها هانَتْ مشقَّتُها وزالَتْ شدَّتُها.

وإنَّما فعلَ بهم ذلكَ، بسببِ أعمالِهم الخبيثةِ وكسبِهم، ولهذا قالَ: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. انتهى

– الشيخ : أحسنْتَ

– طالب: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} عندَنا: أي: هذا الَّذي جاءَ به محمَّدٌ -صلَّى الله عليه وسلَّم- سحرٌ أم عدمُ بصيرةٍ بكم، حتَّى اشتبهَ عليكم الأمرُ، وحقيقةُ الأمرِ أنَّه أوضحُ من كلِّ شيءٍ وأحقُّ الحقِّ، وأنَّ حجَّةَ اللهِ قامَتْ عليهم.

– الشيخ : كأنَّه فيه كلامٌ قريبٌ يعني.